ذكرنا فى العدد الماضى بعضاً من حوادث حلمى عيسى باشا وزير المعارف رقم 2 فى نظام صدقى باشا ووزارته، وهى حوادث شغلتنى كما شغلت أذهان الناس، وكان لنتائجها أثر فى حياة بعض الأشخاص، وفى ناحية من نواحى الحياة الاجتماعية فى ذلك الوقت. روزاليوسف • وزير مضحك.. ووزير عابس جبار بلغ صدقى باشا أوج مجده فى السير بنظامه الجديد، بعد أن عادت الحياة النيابية طبقا لأصول الدستور المعدل، كما أن الصحف المعارضة، انتهت إلى أقصى مدى فى المعارضة. أما خطتى فى المعارضة فكانت ترمى إلى تصوير صدقى باشا فى صورة الرجل الجبار المخيف، وكنت أحاول جهدى ألا أخلع عليه مسوح البهلوان، وألا ألبسه طرطور المهرج، خشية أن تبعث أعماله فكاهة الناس فحسب، بدل أن تثير غضبهم واشمئزازهم، وقد راعيت ذلك بقدر المستطاع وفى نطاق أسلوب مجلتى، وهو أسلوب لحمته الفكاهة اللاذعة، الفكاهة التى لا يملك الإنسان سواها أحيانا ليقابل بها طغيان الطغاة واستبداد المستبدين. حكى لى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد يوما أنه سمع المرحوم سعد زغلول، يقول عن أحمد زيور باشا وذلك أيام كان زيور متربعا بجسمه الكبير فى دست الوزارة يحمل فى إحدى يديه مقاليد الحكم، وفى الأخرى مقرعة البهلوان، سمعه يقول عنه: «إن زيور باشا فى الوزارة أخطر من المرحوم عبدالخالق ثروت باشا ومن هم على شاكلته من رجال الجد، لأن زيور باشا بما هو عليه من طباع وفعال تثير الضحك، لا يبعث بأعماله فى الوزارة غضب المصريين، بل يذكى فيهم ملكة الفكاهة، كما أنه يقلب جلائل الأمور إلى تفاهات يحلو فيها المزاح، والناس لا يكرهون المزاح». وأضيف على هذا بعد التأمين عليه، أن المصريين خاصة قد ألفوا منذ القدم بحكم ما لاقوا من عنت المستبدين، وظلم الظالمين أن يقابلوا ظلم الحكام بألذع الفكاهات وأفحش السخرية، هذا والخطر الداهم فى أن يقبل الناس على يدى الحاكم البهلوان ما لا يقبلونه من الرجل الجبار الخطير الشأن. وصدقى باشا فى صميمه رجل قادر نابغ كله خطر، وكله جد وعبوسة، ولولا أن الطبيعة مسحت وجهه بكثير من الظرف، وزودته بتشكيلة غنية من الابتسامات الوادعة، لاستوى وله منظر مخيف. • الشاطر أبوالسباع! ومما هو جدير بالتأمل أن بدت ظاهرة جديدة فى الصحف المعارضة بعد أن استقر صدقى باشا بكامل جرمه فى كرسى الوزارة بدأت هذه الصحف تعنى بما يجرى فى البرلمان، وأخذت تعلق على أهم ما يجرى فيه، بعد أن مضى وقت أمسكت فيه مجتمعة، عن الإشارة إلى هذا البرلمان، إغفالا لأمره وإنكارا لذاته! كذلك بدت أمارات الاهتمام بما يقوم به صدقى باشا فى ميدان الاقتصاد، وذلك من جانب المزارعين وأصحاب العقار، والواقع الذى لاشك فيه أن صدقى باشا وفق بعض التوفيق فى دفع غائلة الكارثة الاقتصادية التى كادت تجتاح مصر، والعالم بأسره، وكان لإشرافه شخصيا على الحالة الاقتصادية بواسطة بنك التسليف الزراعى وبغيره من الوسائل أثر فى تحسين الحال، هذا ولما يمض على تسلمه زمام الحكم وفرضه النظام الجديد أكثر من عامين! أما الطلبة فقد أخلدوا إلى السكينة بعد أن أصدر صدقى باشا قانونه المعروف الذى يقضى على الطالب الذى يضرب أو يفصل من المدرسة لإثارة الشغب والغوغاء، أن يعيد دفع المصاريف من جديد، إذا أراد أن يستأنف الدراسة، وهذا قانون عجيب من حيث مبناه وأغراضه، وكأنى بمصدره عرف من أين تؤكل الكتف وتعض الأنوف فى ذلك الوقت الذى كان يمشى فيه القرش الأبيض - وليس الجنيه - مختالا يقابله الناس - ولاسيما الفلاحون - برفع اليد بالسلام الميرى! • رفاعى.. الضرائب! ومهارة صدقى باشا فى استخراج الفلوس باسم الضرائب، لا تقل عن مهارة «الرفاعى» أو الحاوى الذى يستخرج الثعابين من أجحارها فتقبل وهى راضية مطمئنة تهز أعطافها وتتلوى طربا على نغمات مزماره أو ترتيل أناشيده ونداءاته! والعجيب أن ضرائب صدقى باشا كان الناس يقابلونها فى أول الأمر من غير امتعاض أو انزعاج، و ذلك لبساطة مظهرها وتواضع شأنها! فمن ضريبة الكبريت إلى ضريبة الكحول وضريبة الملاهى والناس لاهون غير متبرمين، حتى ضريبة الدمغة قابلها الموظفون وأكثرهم من أصحاب الحرص الزائد - بغير احتجاج! إلا أن كل ضريبة من هذه الضرائب - ما عدا ضريبة الدمغة - كانت لا تصدر إلا وحولها همس من الشائعات والأقاويل يطوف فى الدوائر والأندية ويعلن أن أخبار هذه الضرائب كانت تذاع سرا قبل إصدارها رسميا إلى بعض الشخصيات التى كانت تستغل الوقت التجارى على الوجه الذى يعود عليها بالكسب الكبير، ولكن على حساب المستهلكين من الجمهور! وشاء صدقى باشا أن يقدم دليلا للمشتغلين بالصحافة ينهض بقامة تنطح ذقن المكابر على أنه فى حرصه على زيادة إيرادات الحكومة ينتهى نسبه إلى «شيلوك» وهى شخصية ابتدعها «شكسبير» فى إحدى مسرحياته وتلخص الافتنان فى الحرص على جمع المال بمختلف الوسائل، شاء صدقى باشا ذلك فألغى قانون صرف تذاكر المجانية لرجال الصحافة فى السكك الحديدية، وفرض عليهم دفع نصف الأجرة العادية! ثم اللائحة الجديدة التى وضعها للاشتراك فى المخابرات التليفونية. وبالجملة، فإن صدقى باشا نجح إلى حد يحسد عليه فى فتح أبواب جديدة لزيادة إيرادات الحكومة، وأثبت أن لديه حاسة كلاب الصيد فى طرق الأماكن التى يجب أن يتجه إليها الصياد! • بين المطرقة والسندان انتشى صدقى باشا بما أصابه من نجاح فى بعض نواحى نظامه - إلا ناحية اجتذاب الأمة والوفد نحوه - فأخذ يعمل على التحرر من بعض التيارات التى كانت توجهه أحيانا فى بعض خططه فكان أن بدأت حرب خفيفة بينه وبين زكى الإبراشى باشا. والإبراشى باشا غير محتاج إلى تعريف وله فى تاريخ نظام صدقى باشا ووزرائه صفحات مليئة بالعجائب، وفى بعض المواقف كان يقوم بدور المخرج الفنى لفرقة «الأراجوز» يحركها بأصابعه كما يريد وهو مختف وراء الستار! وكان لصدقى باشا أن يتجه نحو أصدقائه الإنجليز وأن يبدى لهم حسن استعداده لاستئناف المفاوضات التى أخفق فيها النحاس باشا، وقام حافظ عفيفى باشا - واللقب الذى خلعناه عليه هو الداهية ولا.. فخر - بجس النبض وجر الشكل فى لندن، حيث كان يشغل وظيفة وزير مصر المفوض. وتحرك «الداهية» بين لندن والقاهرة، والقاهرة والخرطوم، للتفاهم مع حاكم السودان وذلك باعتبار أن السودان هى الصخرة التى تحطمت عليها المفاوضات السابقة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تحرك صدقى باشا بنفسه ومعه ابتساماته وكفاياته الرشيدة وسافر إلى سويسرا، وهناك قابل السير «جون سيمون» أحد الأعضاء البارزين فى الوزارة البريطانية، ولكنه لم يفلح فى إقناع الإنجليز بضرورة إجراء المفاوضات. ولماذا رفض الإنجليز أن يفاوضوا صدقى باشا فى القضية المصرية؟! قالوا إن الوزارة غير حائزة لثقة الأمة ولعطفها! وإن البرلمان لا يمثل الأمة تمثيلا صحيحا وإيه يعنى حزب الشعب وحزب الاتحاد والحزب الوطنى، وهى الأحزاب التى تألف منها البرلمان؟! وإن الانتخابات لهذا البرلمان قد طبخت بعد أن ارتفع منها ريح سدوا من أجله أنوفهم! والآن يصح السؤال: كيف غاب هذا كله عن الإنجليز فلم يذكروه إلا بعد مضى عشرين شهرا على إطلاقهم يد الوزارة فى الحكم وفى إقرار النظام الذى عارضته الأمة هذا موضع النظر. إلا أن النظر الصادق المستبطن دخائل العقلية الإنجليزية فى سياسة الاستعمار يدرى أن الإنجليز قوم رزقوا سعة الصدر وطبعا تمتد مرونته إلى أن يسع أشياء كثيرة متعارضة ومتباينة وفاقا لخطة يبيتونها، حتى إذا حان الميعاد الموقوت والظرف المرسوم، رأيت معدة النعام التى وسعت الظلط والرصاص، تضيق وتنكمش حتى تصبح مثل حويصلة العصفور، فإذا بها تلفظ ما بداخلها فى سرعة انطلاق الأحذية القديمة من يد إسكافى أهانه وأهاجه إسكافى آخر أراد أن يتطاول عليه بالرفعة والمقام! وماذا كانت خطة الإنجليز، وما الذى كانوا يرمون إليه من قيام وزارة صدقى باشا، وتدخلهم فى السر والعلانية لإقرار النظام الذى ابتدعه هذا الرجل الطموح؟! لهذه الخطة غرضان: الأول هو تجربة صرف الأمة عن التعلق بالوفد واجتذابه نحو هيئة جديدة. والغرض الآخر هو «مرمطة» الوفد وتأديبه بأن يشرع عليه السوط بيد الخارجين عليه والمعارضين لخطته حتى يتواضع فى مطالبه الاستقلالية بعد أن تضعف أعصاب المقاومة فيه، فلا يأتى إلى الحكم ثانية إلا وقد لانت قناته، والإنجليز يعرفون حق العلم أن لا مفاوضة إلا مع الوفد وأنه لا غنى عن إرجاع الوفد إلى الوزارة ولو من أجل عيون المفاوضة. وقد أخفق الإنجليز فى التجربة، وهى الغرض الأول، وصادفوا نجاحا فى تحقيق الغرض الثانى من حيث إنزال عقوبة التأديب بالوفد! وعليه لماذا يفاوضون صدقى باشا؟ بل لماذا يبقون عليه؟! لاسيما أن الإنجليز قد بدأوا يحسون بأن الوفد يرنو إليهم بعين جديدة فى طرفها حور واشتياق.. وبدأت تدور مناوشات من الحب الذى يعلوه حمرة الخجل بين الطرفين. إنى أعتقد أن صدقى باشا فقد أهميته لدى الإنجليز ابتداء من اليوم الذى رفضوا فيه أن يفاوضوه، وأعتقد أن صدقى باشا لابد أنه تذكر المثل المعروف «آخر خدمة الغز علقة» وهو يمسح عرق الخجل الذى كان يتساقط من جبين كفاياته الرشيدة، بعد أن أخفقت فى إقناع الإنجليز بوجهة نظره فى إنهاء المفاوضات على يديه القويتين والمبطنتين بالمخمل والحرير.• هوامش الحلقة وتمضى «روزاليوسف» فى معارضتها لحكومة «إسماعيل صدقى باشا» وتحرص على تصويره دائما سواء بالمقالات أو الرسوم الكاريكاتيرية فى صورة الرجل الجبار المخيف. ورغم معارضة «روزاليوسف» وباقى صحف المعارضة لصدقى باشا إلا أنها تشهد له بالنجاح فى بعض نواحى نظامه وخاصة عندما فتح أبواباً جديدة لزيادة إيرادات الحكومة عن طريق الضرائب سواء ضرائب على الكحول أو الملاهى أو حتى ضريبة على الكبريت وسلع أخرى متنوعة!! وتندهش السيدة «فاطمة يوسف» من تقبل الناس لهذه الضرائب بغير احتجاج أو تذمر، وهو ما دعا «صدقى باشا» إلى معاودة التفاهم مع الإنجليز واستئناف المفاوضات، لكن المثير أن الإنجليز أنفسهم اعتبروه غير حائز لثقة الأمة! •