ارتفاع طفيف للدولار أمام الجنيه المصري في مستهل تعاملات الأسبوع    مجموعة البنك الدولي: مصر قطعت خطوات جيدة في تطبيق الحياد التنافسي    انخفاض جماعي لمؤشرات البورصة.. خبراء: أزمة الغاز وراء تراجع أداء سوق المال والهبوط مستمر    شولتس يحذر من إغلاق الأسواق الأوروبية أمام المنافسة القادمة من الخارج    الحوثي تعلن استهداف مدمرة بريطانية في البحر الأحمر بصواريخ باليستية    هنية: مجزرة النصيرات تؤكد ضرورة أن يشمل أي اتفاق وقفا دائما للعدوان وانسحابا كاملا من غزة    قصف أمريكي بريطاني يستهدف منطقة الجبانة في الحديدة غرب اليمن    الدنمارك تسعى لاستعادة ذكريات 1992 و2021 في اليورو    منتخب مصر يواجه غينيا بيساو بالأبيض في تصفيات كأس العالم    تحرير أكثر من 500 محضر لمخالفات بالمخابز والأسواق وأنشطة تجارية ببني سويف    المرور: ضبط 28776 مخالفة خلال 24 ساعة    غدًا افتتاح الدورة 44 للمعرض العام بمشاركة أكثر من 300 فنان تشكيلي    وزيرة الثقافة: كثير من المبدعين والمصممين يشتكون تعرض إبداعاتهم للسطو    وزير العدل يشارك في مناقشة رسالة دكتوراه بحقوق القاهرة.. تفاصيل    ألف طالب يؤدون امتحانات نهاية العام بالجامعة الأهلية للتعلم الإلكتروني بسوهاج    استقالة الحكومة لن تلغى المشروع الجديد خطة تصحيح مسار الثانوية العامة    ريان عربي جديد.. إنقاذ طفل سوري وقع داخل بئر بإدلب    الكويت تدين الهجوم الهمجي لقوات الاحتلال الإسرائيلي على مخيم النصيرات    شكري يتوجه إلى روسيا للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية تجمع بريكس    توقيع بروتوكول تعاون مشترك بين جامعتي المنصورة والأنبار (صور )    مايا مرسي: إنشاء متحف المرأة المصرية داخل متحف الحضارة    تصفيات كأس العالم.. منتخب مصر يواجه غينيا بيساو بالزي البديل    "مكاسبه خارج الملعب أكثر".. ماذا نعرف عن أرباح شركة محمد صلاح؟    "الهاتف يرن باستمرار".. وكيل "هدف الأهلي" يتحدث عن: موعد دراسة العروض.. والدوريات التي يرفضها    كرواتيا تحقق فوزا تاريخيا على البرتغال    بروتوكول بين «التأمين الاجتماعي» وبنك مصر لتفعيل آليات التحصيل الإلكتروني    وزيرة البيئة تناقش خطة إطلاق مركز التميز الإفريقي للمرونة والتكيف بالقاهرة خلال 2024    مدرسة غبور للسيارات 2024.. اعرف مجموع القبول والتخصصات المتاحة    وزير الزراعة يوجه بتكثيف حملات التفتيش على منافذ بيع اللحوم والدواجن والاسماك والمجازر استعدادا لاستقبال عيد الأضحى    ضبط مالك مطبعة متهم بطباعة المطبوعات التجارية دون تفويض من أصحابها بالقليوبية    فى انتظار القصاص.. إحاله قضية سفاح التجمع الخامس إلى جنايات القطامية    اعتدال بسيط في درجات الحرارة بمحافظة بورسعيد ونشاط للرياح.. فيديو وصور    «التنمية المحلية» تتابع مواجهة الزيادة السكانية في 3 محافظات    زيادة نسبة المحلي.. تفاصيل لقاء مدبولي مع مسئولي مجموعة "العربي"    بسمة داود تنشر صورا من كواليس "الوصفة السحرية"    «صورة أرشيفية».. متحف كفر الشيخ يعلن عن قطعة شهر يونيو المميزة    منورة يا حكومة    رمضان عبد الرازق يوضح فضل العشر الأوائل من ذي الحجة    موعد يوم التروية 1445.. «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة للحاج في هذا التوقيت    الأزهر للفتوى يوضح كيف كان طواف النبي بالبيت الحرام حين القدوم    طريشة تلدغ مسنا بواحة الفرافرة في الوادي الجديد    يحدد العوامل المسببة للأمراض، كل ما تريد معرفته عن علم الجينوم المصري    سر تصدر شيرين رضا للتريند.. تفاصيل    لتنفيذ التوصيات.. رئيس «الشيوخ» يحيل 14 تقريرا إلى الحكومة    «التضامن الاجتماعي» توافق على قيد ونقل تبعية 3 جمعيات بالقاهرة والغربية    إدريس : أتوقع أن نحقق من 7 إلى 11 ميدالية في أولمبياد باريس    عاجل.. إعلامي شهير يعلن أولى صفقات الأهلي الصيفية    العمل: زيارات ميدانية لتفقد مواقع الإنتاج بأسيوط    عمرو محمود يس وياسمين عبدالعزيز في رمضان 2025 من جديد.. ماذا قدما سويا؟    الصحة: الانتهاء من قوائم الانتظار لعمليات قسطرة القلب بمستشفى السويس العام    محافظ الشرقية يُفاجئ المنشآت الصحية والخدمية بمركزي أبو حماد والزقازيق (تفاصيل)    أستاذ صحة عامة يوجه نصائح مهمة للحماية من التعرض لضربات الشمس    مجلس التعاون الخليجي: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء استهدفت الأبرياء العزل في غزة    «الداخلية»: ضبط 552 مخالفة عدم ارتداء الخوذة وسحب 1334 رخصة خلال 24 ساعة    حزب الله يستهدف موقع الرمثا الإسرائيلي في تلال كفر شوبا اللبنانية المحتلة    3 طرق صحيحة لأداء مناسك الحج.. اعرف الفرق بين الإفراد والقِران والتمتع    «الإفتاء» توضح أعمال يوم النحر للحاج وغير الحاج.. «حتى تكتمل الشعائر»    هذه الأبراج يُوصف رجالها بأنهم الأكثر نكدية: ابتعدي عنهم قدر الإمكان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسماعيل صدقى فى مرآة كريم ثابت
نشر في أكتوبر يوم 26 - 08 - 2012

حدثت بعد ثورة 25 يناير 2011 ثلاثة أحداث وزارية مهمة عاد فيها أولو الأمر إلى الماضى الوزارى فنبشوه من أجل أن يملأوا الفراغ الناشئ فى السلطة على حسب تصورهم.
* حدث هذا مع الدكتور ?يحيى الجمل فى فبراير 2011، وهو الذى كان قد ترك الوزارة منذ أبريل 1975، أى منذ أكثر من 35 عاما.
* وحدث مرة ثالثة مع الدكتور كمال الجنزورى، الذى كان قد ترك الوزارة فى نوفمبر 1999، وها هو ذا يعود إلى الموقع ذاته فى نوفمبر 2011.
وجدتنى أعلق على عودة الجنزورى بعبارة شائعة استخدمها الكاتب الكبير محمد عودة فى وصف إعادة إسماعيل صدقى إلى رئاسة الوزارة فى 1946، حين قال: إن هذا كان شبيها بالعثور على معطف قديم فى دولاب الملابس الذى يخص الملك فاروق.
ليس سرا أن لى كتابا منشورا عن إسماعيل صدقى، وأنى كتبت عنه فى مواضع كثيرة، لكنى أحب فى هذا المقال أن أقدم وصفا لهذا المعطف القديم من خلال ما سجله صحفى لم يكن فوق مستوى الشبهات كان قد أصبح قريبا من الملك فاروق، وبضرب لبعض الصحفيين التاليين له فى استغلال السلطة لذاته، وذاته فقط، وهو الأستاذ كريم ثابت.
كان كريم ثابت الصحفى المقرب من الملك فاروق فى آخر أيامه، وكان لا يرتاح على الإطلاق لشخصية رئيس الوزراء العتيد إسماعيل صدقى، والسبب لا يحتاج إلى تفسير، فقد كان الرجلان من نسيجين مختلفين، وقد حاول إسماعيل صدقى أن يحد من سلطات كريم دون جدوى، ولهذا نرى كريم ثابت فى مذكراته حريصا بكل ما أوتى من قدرة على التقليل من شأن صدقى باشا على الرغم مما نعرف من اعتزاز صديقى بشخصيته وقدرته على الحصول لنفسه على مكانة متميزة فى كل الأوقات.
وليس غريبا على كريم ثابت أن يأخذ هذا الموقف من إسماعيل صدقى الذى لم يكن يُكن لكريم إلا ما قو قريب من الازدراء، ويكفى على سبيل المثال أن نشير إلى ما رواه شيخ الصحفيين الأستاذ حافظ محمود أنه لما يصدر بيان كبير الأمناء متضمنا صفة كريم ثابت كمستشار صحفى لجلالة الملك، أرسل صدقى باشا، وكان رئيسا للوزراء- خطابا إلى الملك قال فيه ما معناه إن صاحب العزة كريم ثابت بك كان يتقاضى من المصروفات غير المنظورة (أى السرية) مبلغ كذا كل شهر بوصفه ممثل جريدة المقطم.. فهل يجوز استمرار صرف هذا المبلغ له بعد أن أصبح من رجال الحاشية الملكية؟..
وهكذا أظهر صدقى باشا احتجاجه على تعيين كريم ثابت بطرقة ذكية وساخرة، لكن الطريف فى الأمر أن الرد السرى على رسالة إسماعيل صدقى كان على نحو ما روى حافظ محمود أن الأليق هو أن يضاعف له هذا المبلغ!
ومن أبرز الفقرات التى ينتقد فيها كريم ثابت أداء إسماعيل صدقى ومواقفه تلك الفقرات التى يتحدث فيها عن الفترة التى عمل فيها صدقى رئيسا للوزارة فى عهد فاروق (فبراير 1946- ديسمبر 1946)، وقد واكبت هذه الشهور فترة تألق كريم ثابت بعدما أصبح رسميا المستشار الصحفى للملك.
ويقدم كريم ثابت ثورة شبه كاريكاتيرية لموقف إسماعيل صدقى حين أراد تعديل وزارته، وبدأ يتطلع ويترقب عودة الملك من أجل إمضاء المراسيم الخاصة بهذا التعديل، ويبالغ كريم ثابت فى تصوير حيرة صدقى وقلة حيلته أمام القصر الملكى، وليس فى هذا- إذا ما صح- ما يقلل أبدا من قيمة صدقى.. بل ربما يصور لنا هذا الموقف مدى الحماس الذى كان لا يزال يسيطر على صدقى فى أدائه لوظيفته حتى وهو فوق السبعين من العمر، وقد بلغ من المكانة ما بلغ، يقول كريم ثابت:
«وقبيل حلول عيد الأضحى فى أواخر صيف ذلك العام، قال لى فاروق إنه سيمضى أيام العيد فى رحلة بحرية حتى «قبرص» وإنه يسره أن أكون بين الذين دعاهم إلى مرافقته فيها، فاستأذنته فى السفر إلى لبنان لحاجتى إلى الاستجمام، خصوصا أن عائلتى كانت تصطاف فى جباله، فأذن لى فى ذلك ولم أصحبه فى رحلته».
«وقرر صدقى فى ذلك الحين، وكانت مباحثاته مع الإنجليز قد تقدمت، أن يعزز مركز الوزارة بضم السعديين إليها باعتبارها أصحاب الأغلبية الأولى فى مجلس النواب، وكان قد اتصل بهم فى المدة الأخيرة لهذا الغرض، وبعد اتصالات طويلة رضى النقراشى أن يدخل بعض رجاله الوزارة».
«وتواترت أنباء هذا التعديل الوزارى، فأيدها صدقى فى تصريح له نشرته الصحف.. بعدما اتفق مع القصر على مبدأ التعديل طبعا.. وقال فى تصريحه: إن التعديل سيتم «فورا»!
«ولكن الملك كان قد سافر فى الرحلة البحرية التى أشرت إليها آنفا، فسأل صدقى القصر عن موعد عودته، فأجيب بأن الرحلة ستستغرق أيام العيد فقط، فاعتمادا على هذه الإجابة صرح للصحف بأن التعديل سيتم بعد مرتين»!
«وانقضى اليومان، والملك لم يعد من رحلته البحرية بعد».
«فاتصل صدقى بحسن يوسف وسأله: «هل عندهم أخبار عن موعد عودته؟.. فأجاب بالسلب، فصرح عندئذ للصحف بأنه لابد لإجراء التعديل من انتظار أوبة جلالة الملك ليعرض مشروعه على مسامعه الكريمة»!
«ومر يومان آخران من غير أن تتلقى القاهرة إشعارا بموعد رجوع فاروق»!
«ولما خاطب صدقى حسن يوسف هذه المرة قال له: إن اليخت أقلع من قبرص، مما ينبئ بأنه فى طريقه إلى مصر.. فصرح صدقى للصحف بأن التعديل سيتم بعد يومين حتما»!
«وكنت أتتبع تلك التصريحات المتعاقبة من مصيفى بلبنان، فأتخيل تأثير تلك (المرمطة) فى حالته النفسية وما قد يكون لها من عواقب».
«وصدرت الصحف فى صباح اليوم العاشر من أيام (التأجيل) متضمنة تصريحا مقتضبا لإسماعيل صدقى قال فيه إن موعد عودة جلالة الملك لم يعرف بعد».
«والحقيقة أن فاروق كان قد غادر (قبرص) إلى (رودس).. لا إلى مصر»!
«وفى المساء كنت استمع إلى الإذاعة المصرية، فسمعت أن دولة إسماعيل صدقى باشا، وسعادة حسن يوسف بك رئيس الديوان الملكى بالنيابة سيسافران فى الغد إلى جزيرة (رودس) ليعرض دولة الرئيس مشروع التعديل الوزارى على جلالة الملك»!
«وكان القصرقد تلقى فى خلال اليوم العاشر برقية من اليخت الملكى، بأن فاروق نزل فى (ردوش) فليحضر صدقى إليها بالطائرة لعرض مشروع التعديل الوزارى، وليكن حسن يوسف معه»!
«ولم يكن لهذه البرقية سوى معنى واحد وهو أن الملك (غير مستعجل للعودة).. فإذا كان رئيساً (مستعجلا) على تعديله الوزارى فليحضر هو إلى (رودس)».
«ذلك هو الرد الذى أبلغ لإسماعيل صدقى بعد انتظار دام عشرة أيام»!
«وفى الغد ركب صدقى الطائرة إلى (رودس) ومعه حسن يوسف»!
«وأذيع فى المساء: أن جلالة الملك تفضل فوافق على التعديل الوزارى وأمضى المراسيم الخاصة به.. كما أذيع أن رئيس الوزراء كان موضع عطف جلالته ورعايته وأن جلالته تعطف فدعاه إلى الغداء على مائدته ثم زوده بارشاداته وتوجيهاته»!
«ونسى صدقى أو تناسى (مرمطة) الأيام العشرة، والمظهر الذى ظهر به أمام الناس، فأذاع عقب عودته إلى مصر بيانا نشرته الصحف فى الغد، وقد استهله بقوله إنه يسره أن يزف إلى الشعب المصرى أن جلالة الملك بصحة جيدة، وأنه أفاد من سياحته كثيرا، ثم نوه بالدعاية الطيبة العظيمة التى ينشرها جلالته فى كل مكان ينزله فى خلال رحلته، وملأ البيان عمودا كاملا فى الصحف»!
ثم يحرص كريم ثابت على أن يرضى رجال الثورة الذين استكتبوه المذكرات المهاجمة لفاروق بسطر يحقق لهم أهدافهم فيقول: ويظهر أن إسماعيل صدقى لم يلمح الفنانة «كاميليا» بصحبة فاروق يومئذ.
***
ثم يورد كريم ثابت بعد هذا ما يعتبره تفاصيل دقيقة عن الأزمات التى واجهت استمرار وزارة إسماعيل صدقى فى الحكم، ونحن نرى كريم ثابت فى إطار تحامله على صدقى باشا يندهش من طلب صدقى تقوية وزارته لكى يستمر فى الحكم مع أن ذات الموقف الذى يندهش كريم ثابت من تخاذل صدقى فيه لا يمثل فى إطار التاريخ الممتد إلا دليلا على تجدد الثقة بصدقى وكفاءته رغم كل محاولات ومؤامرات الآخرين.
وعلى الرغم من أن كريم ثابت يقص علينا فى مذكراته ما حدث من أزمة وزارية عند اعتزام صدقى باشا الاستقالة من رئاسة الوزارة فى 1946، ثم قبوله الاستمرار على أنه كان نوعا من أنواع لين صدقى باشا الذى لم يكن حسن يوسف (رئيس الديوان بالنيابة) يتوقعه، فإن حقيقة الأمر- التى تتجلى لنا ونحن نقرأ بعد قليل رواية كريم ثابت لما حدث- تدلنا فى ذات الوقت على أن صدقى باشا قد حصل على ما كان يبتغيه وهو تجديد ثقة الملك به من خلال خطاب جديد.
ومن الجدير بالذكر أن كتاب «النظارات والوزارات المصرية» الذى ألفه الأستاذ فؤاد كريم يشتمل على نص استقالة صدقى ونص الخطاب الذى بعث به الملك إليه بتجديد الثقة فيه، على أن هذا لا يمنع أن نذكر الأهمية التاريخية لرواية كريم ثابت من حيث إنها تشير إلى بعض تفصيلات تكليف شريف صبرى وهو خال الملك فاروق نفسه بتأليف الوزارة ومشاوراته لهذا الغرض، وهى واقعة مهمة لم تحظ بالدراسة خصوصا أن شريف صبرى لم يشكل الوزارة قبل هذا ولا بعده.
كما تتضمن مذكرات كريم ثابت إشارة إلى قوة موقف الوفد حين دُعى إلى دخول الوزارة فأبى إلا أن يحل مجلس النواب، وهو ما يؤكد نفس الصورة التى يحرص الوفديون على تصوير أنفسهم بها:
«ولم تمض أيام على عودة فاروق إلى مصر حتى قرأت فى الصحف اللبنانية أن صدقى قدم استقالته إلى القصر، بسبب موقف بعض أعضاء اللجنة القومية منه و(الروح) التى تسود اللجنة».
«وكان صدقى قد ألف هذه اللجنة ليعرض عليها نتائج مفاوضاته مع الإنجليز».
«وفى مساء اليوم نفسه، وكنت أتعشى عند الشيخ بشارة الخورى الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية تلقيت إشارة تليفونية من القصر الملكى بأن فاروق يأمرنى بالعودة إلى مصر حالا»!
«وعدت إلى مصر بعد يومين، فبلغت الإسكندرية فى المساء، ولما خرجت من محطة سيدى جابر وجدت إحدى سيارات القصر فى انتظارى، فصعدت إليها ومعى أمتعتى، وطلبت إلى السائق أن يتجه إلى الفندق».
«ولكن لما جاوزنا فناء المحطة لاحظت أن السيارة تسير فى غير الاتجاه الذى يؤدى إلى الفندق، فأردت أن أسأل سائقها عن سبب ذلك.. فإذا هو يوقفها فجأة فى مكان من الطريق لا يصل إليه النور إلا ضعيفا، ويوجه نظرى إلى سيارة أخرى كانت تنتظرنا فى ذلك المكان على مسافة مائة متر من ميدان المحطة».
«وسرعان ما لمحت أن فاروق هو الجالس فى السيارة الأخرى، فنزلت من سيارتى وذهبت إليه فدعانى إلى الجلوس بجانبه، وأطلق للسيارة العنان.. ثم بدأ الحديث بقوله: لقد طلبت منك أن تعود بسرعة لأنى أحببت أن أعرف رأيك فى أزمة وزارية نشأت بسبب استقالة صدقى، ولكنها انتهت الآن وبقى صدقى فى الوزارة، ومع ذلك أريد أن تعرف تفاصيل ما حدث لتبدى لى رأيك فى تصرفنا، وسآخذك الآن إلى حسن يوسف ليقص عليك هذه التفاصيل»!
«ولما وصلنا إلى فندق (بوريفاج) حيث كان حسن يوسف مقيما، ألفيناه جالسا فى حديقته فطلب إليه فاروق أن يروى لى ما حدث.. ثم تركنا وحدنا فى أحد جوانب الحديقة وجلس هو فى جانب آخر منها مع أحد رجاله».
«وحدثنى حسن يوسف عن العوامل التى حملت إسماعيل صدقى على الاستقالة، ثم قال إنه لما تلقى الملك الاستقالة سأله- أى سأل حسن يوسف - عن رأيه فى خير ما يمكن عمله لمواجهة الموقف على ضوء الظروف المحيطة به، فنصح له بتكليف شريف صبرى باشا تأليف وزارة ائتلافية تشمل الوفديين، لتعالج موضوع المفاوضات مع الإنجليز، فوافقه الملك على رأيه.. فاتصل بشريف صبرى فقبل أن يحاول تأليف الوزارة الجديدة، لكنه ما لبث أن أبلغه اعتذاره عن عدم قبول المهمة، لأن الوفديين اشترطوا للاشتراك فى وزارة ائتلافية حل مجلس النواب».
«ومضى حسن يوسف فى حديثه فقال: إنه بعدما أبلغه شريف صبرى اعتذاره جلس يفكر فى تدبير حل آخر للأزمة، وبينما كان يتعشى- بالفندق- دخل عليه إسماعيل صدقى وكان فى طريق عدوته إلى بيته وقال له:
«كنت مارا من هنا فرأيت أن أسألك عما عملتم؟.. فصارحه بأن شريف صبرى فشل فى محاولته بسبب الشرط الذى اشترطه الوفديون، وهنا ألقى حسن يوسف عبارة قصيرة وهو لا يظن دقيقة واحدة أنها ستؤدى إلى ما أدت إليه، فقال له: ألا تبقى دولتك فى الحكم وتريحنا من هذا التعب؟».
«ولشد ما كانت دهشته حين سمعه يقول إنه لا مانع عنده من البقاء إذا (قوّاه) جلالة الملك فسأله عن نوع (التقوية) التى يرغب فيها، فقال إن يتلقى كتابا من جلالة الملك تنم عباراته على التأييد فوعده بهذا الكتاب، وبذلك حلت الأزمة واستمر صدقى فى الحكم»!
«ولما أنهى حسن يوسف حديثه نهضنا واتجهنا إلى حيث كان فاروق جالسا، فسألنى عن رأيى فى التصرف الذى تصرفناه فأيدته وقلت إنه لم يكن فى الإمكان والظروف على ما هى عليه أن يُعمل شىء أفضل من إبقاء صدقى فى الحكم إلى أن تظهر نتيجة مفاوضاته مع الإنجليز».
ويعقب كريم ثابت فى نهاية هذه القصة بقوله:
«وكانت تلك الليلة أول مرة استشارنى فيها فاروق فى الموقف السياسى الداخلى».
***
وتتضمن مذكرات كريم ثابت أيضا تفصيلات مهمة عن الاستقالة الأخيرة أو النهائية لصدقى من رئاسة الوزارة، وكيف أن الملك عرض عليه فى ذلك الوقت رئاسة الديوان الملكى، ولكن صدقى باشا اعتذر لشعوره بأن المنصب لا يناسب طبيعته، كما يذكر كريم ثابت أن الملك فاروق تجاهل الاقتراح بمنح إسماعيل صدقى باشا قلادة فؤاد الأول:
«وليس هنا مجال لسرد ما حدث لوزارة إسماعيل صدقى حتى يوم استقالتها نهائيا، فإن أخبار تلك المرحلة من مراحل حياتها معروفة ومنشورة».
«وكان صدقى مريضا لما رفع إلى فاروق استقالته النهائية، وقد أضعفته خيبة الأمل فى نتيجة مفاوضاته مع الإنجليز أكثر مما أضعفه المرض والعلة».
«وزاره حسن يوسف موفدا، ليعرض عليه منصب رئيس الديوان الملكى فشكر له عطفه وثقته واعتذر عن عدم قبول المنصب بعذرين».
«ورجا من حسن يوسف ألا يبلغ فاروق سوى العذر الأول، وأن يحتفظ لنفسه بالتالى».
«كان عذره الأول أن صحته ساءت ولم تعد تمكنه من النهوض بأعباء المنصب».
«أما عذره الثانى فكان شعوره بأن طبيعة خلقه لا تلائم المنصب»!
«ومن أعجب ما حدث يومئذ أنه بينما كان حسن يوسف يزور إسماعيل صدقى ليعرض عليه منصب رئيس الديوان الملكى، كان فاروق يقول إنه يتمنى أن يرفض صدقى المنصب»!
«وكان قد ندم، فى أقل من ساعة، على تفكيره فى تقليده إياه»!
«ولما عاد حسن يوسف وأبلغه فشله فى مهمته، فرح فرحا شديدا».
«وقال أحد الحاضرين إنه إذا كان جلالته يرون تكريم إسماعيل صدقى، فلماذا لا ينعم عليه بقلادة فؤاد الأول، فيلقب بصاحب المقام الرفيع».
«فتظاهر فاروق بأنه لم يسمع كلمة واحدة من هذا الاقتراح».
***
وما دمنا بصدد الحديث عن رؤية كريم ثابت لشخصية إسماعيل صدقى، فمن المهم أن ننقل للقارئ وجهة النظر التى ينسبها كريم ثابت إلى الملك فاروق نفسه فيما يتعلق باتفاقية صدقى - بيفن - وقد وردت فى موضع آخر من مذكرات كريم ثابت:
«وقال (أى الملك فاروق) مرة إنه إذا اقتنع يوما بصلاحية مشروع اتفاق مع انجلترا، وآمن بأن فى تنفيذه مصلحة لمصر، فلن يتردد فى إمضائه ولو وقف فى وجه الساسة جميعا، فإنه يخاطب يومئذ الشعب رأسا بنفسه بواسطة الإذاعة ويفهمه لماذا أقدم على ما أقدم عليه»!
«وجه إسماعيل صدقى فى سنة 1946 بمشروع الاتفاق الذى عرف بمشروع صدقى- بيفن وأقنع الملك بفوائده، فرحب به. وقال إنه مستعد لإمضائه، لكنه ما كاد يشعر بأن الساسة يرفضونه وأن (الجو) مناوئ له حتى عدل عن تحمسه له، ولزم القصر أياما ريثما تهدأ الأفكار، ثم كان أول المغتبطين بعدم إصرار صدقى على مشروعه، وتقريره الاستقالة إذا وفر عليه مئونة التفكير فى كيفية التحرر من تأييده السابق له»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.