كتب: فاطمة مرزوق حياتهم مختلفة، قد تبدو بلا متاعب إذا ما نظرت إليها من الخارج، لكن الألم يسكن كل تفاصيلها، يحمل يومهم في طياته الكثير من التفاصيل الحزينة، معاناة تتكرر يوميًا في صيغ مختلفة. على ضفاف ترعة الإسماعيلية التي تنقل مياه النيل إلى محافظة الإسماعيلية، وبالتحديد في منطقة شرق القاهرة، تسير الحياة على قدم وساق، بائعة تجلس بجوار زوجها منهمكة في تنظيف السمك للزبائن، وفتاة صغيرة تلوح للسيارات بيدها وتنادى قائلة: «درة مشوى اشترى درة». مع غروب الشمس يرحل الجميع ولا يبقى سوى سكان الترعة الذين تلخصوا في منزل صغير و«كشك»، يواجهون ظلمات الليل ولا يؤنسهم سوى كلاب الشوارع، يلوذون إليها إذا شعروا باقتراب الخطر، الذي يتجسد في اللصوص وأحيانًا تجار المخدرات. «فاطمة» تفرز القمامة لأجل أبنائها السبعة على الشاطئ، تجلس وحيدة شاردة الذهن، تطل بوجهها البائس على «جوال» صغير تتفحصه بتمعن، ثم تفرز ما جمعته خلال رحلتها اليومية، حولها مجموعة من الجِرَاءٍ الصغار يلعبون تارة ويجلسون معها تارة أخرى، تقضي النهار برفقتهم حتي يأتي غروب الشمس منبهًا إليها، تتأهب للذهاب إلى عملها الذي تقوم به ليلاً، وتزحف على ركبتيها إلى «العشة» التي تقطن بها لتطمئن على صغارها، ثم تتجه صوب «كوبري السواح» لجمع البلاستيك والزجاجات من القمامة. «2 كيلو» المسافة التي تزحفها يوميًا «فاطمة أحمد» المصابة بشلل الأطفال، تخترق زحام السيارات بحكمة بالغة من منطقة «مسطرد» وحتى كوبري «السواح»، لديها ساعد لا يكلّ ولا يملّ من فرز القمامة والبحث عما تحتاجه منها، طامحة أن يرزقها الله بمسكن آمن تعيش فيه برفقة أسرتها، تقول: «أعمل منذ 40 عامًا لكي أوفر الطعام والشراب لأبنائي، وأتمنى توفير مسكن آدمي لهم، لكني لم أستطع، أزحف كل يوم من أمام المنزل على قدميّ وحتى الكوبري لأجمع علب الكانز والبلاستيك، أتجنب الجلوس على الكرسي المتحرك حتى انتقل بسهولة بين السيارات، كما لا يوجد أحد برفقتي يساعدني في دفع الكرسي خلال عملي». أصيبت المرأة الخمسينية بشلل في قدميها قبل 10 سنوات، بعدما أخبرها الطبيب أنه لا أمل في الشفاء: «قال لي الطبيب أنني لن أسير على قدمي أبدًا علاجي عندالله، أحضر لي أهل الخير كرسيًا متحركًا أجلس عليه، لكني لم أفعل بسبب ظروف عملي، وأصبحت معتادة على الزحف أينما ذهبت». جاءت «فاطمة» من الصعيد منذ 5 سنوات، برفقة زوجها وأبنائها، بعدما سئموا من الحياة لعدم توافر فرصة عمل هناك: «لا توجد فرص عمل جيدة في الصعيد، فالحياة لمن يملكون أراضى زراعية ومنازل، زوجي مبتور القدمين ويعمل على عربة كارو خاصة بصاحب العمل، الحياة في ترعة الإسماعيلية صعبة وقاسية ولا نتذوق طعم النوم إذا غاب الكلاب عن عشتنا، رغم ذلك تعرضنا للسرقة مرات عديدة لعدم وجود باب للعشة، نأخذ الكهرباء من عامود النور، أما المياه فنحصل عليها بالود والمحبة من بعض الجيران، وحين لا نجد نشرب من الترعة». ذكريات مؤلمة تربط المرأة الخمسينية ب«ترعة الإسماعيلية»، تتذكرها كلما وقعت عيناها عليها، هنا غرقت حفيدتها الوحيدة ولفظت أنفاسها الأخيرة تحت المياه، مرت الأيام وظهرت جثتها عائمة على وجه المياه.. ذلك المشهد المؤلم تتذكره بجميع تفاصيله، وتضيف: «استيقظنا من النوم ولم نجدها، بحثنا في كل مكان لمدة ثلاثة أيام ولا نعلم أين ذهب، ثم ظهرت جثتها على وجه المياه، لم تكن حفيدتي فقط، لكني أرى دائمًا جثث الموتى فى الترعة، وبعد فترة اعتدت على رؤية هذا المنظر، أتمنى أن نغادر هذا المكان، وننتقل فى أى مسكن بعيدًا ًعن تلك الحياة التى لن يتحملها أحد». «عبد العزيز» يعيش في «كشك» بحثًًا عن لقمة العيش على بُعد خطوات قليلة من منزل «فاطمة»، يظهر «كشك» خشبى، تحجب تفاصيله الداخلية قطعة قماش بالية، يجلس خلفها «عبدالعزيز محمود» وزوجته «لطيفة رمضان» والأبناء الأربعة، يتناولون الطعام سويًا، بينما يجلس الأب بالقرب من شباك الكشك لتلبية طلبات زبائنه التى تأتى بين الحين والآخر. هكذا يبدو المشهد داخل «الكشك» فى يوم الجمعة فقط، تصطحب الأم الأبناء لزيارة الأب والابن الأكبر، يتناولون الطعام، ويقضون يومهم سويًا، ثم تعود الأم إلى الغرفة التآ يقطنون بها فى «القطامية» ولا يتبقى سوى «عبدالعزيز» وابنه «محمد»، يقول: «2 من بناتى تعانيان من ضمور فى المخ، ورزقى اليومى غير كافٍ لعلاجهما، كنت أعمل «مبيض محارة» منذ 11 عامًا، وقعت من فوق السقالة وأصبتُ بإعاقة فى يدى اليمنى فصارت بلا عصب ووريد». حصل الرجل الثلاثينى على «الكشك» منذ 4 شهور بعدما قرر الإقلاع عن تناول المخدرات وبيعها قائلاً: «مش عاوز أأكل عيالى لقمة حرام»، تحصل ابنته الكبرى على معاش 323 جنيهًا، لكن علاجها يتجاوز ال 1000 جنيه كل شهر: «الصغيرة لديها ثقب في القلب وضمور في المخ وأسعى لها فى ورق المعاش، علاجهما عبارة عن مهدئات بسبب التشنجات والحالة العصبية التى تحدث لهما، حالتهما تزداد سوءًا كل يوم ولا أقدر على تحمل نفقة الأشعة والتحاليل التى تطلبها المستشفى، وبقية أبنائى فى المدارس ويحتاجون مصاريف كثيرة والحمل ثقيل». تلتقط زوجته «لطيفة» أطراف الحديث قائلة: «أنا مصابة بالسكر، وزوجى وابنى يعيشان فى الكشك، وأتردد عليهما يوم الجمعة لنقضيه سويًا»، مؤكدة أنهم حصلوا على بضاعة الكشك من «أهل الخير»: «ابنتى الصغيرة تحتاج كرسيًا متحركًا لأننى أحملها على كتفى كى أتنقل بها، والحياة على الترعة عسيرة على ابنى وزوجى، حيث يواجهان مشاكل كثيرة ومضايقات من بعض البلطجية». يوضح «عبدالعزيز» أن أبناء عزبة «عبدالغنى» في شجار دائم معه، كما هددوه بإشعال النيران فى الكشك والقتل أكثر من مرة: «يعتقدون أننى متعدٍ على أرضهم لأننى من خارج المنطقة، رغم أن الحكومة هى التى حددت لى مكانه، أجبرونى على دفع شهرية لكنى رفضت، علم أحد أصدقائى بالأمر فأحضر لى كلب حراسة ملكه كى يحمينى أثناء إقامتى أنا وابنى فى الكشك، حيث يأتى الليل علينا وليس معنا سوى الله» الكهرباء تأتي ليلاً، أما حاجتهما فيقضيانها فى حمام جامع قريب منهما: «يحتاج أبنائى إلى جلسات علاج طبيعى، لكن توقفت عن الذهاب إليها لأن سعرها ارتفع، العلاج الذى يأتى على نفقة الدولة لا يناسب حالتهم، لذا أضطر إلى شراء علاج مستورد من الصيدليات». لم تقتصر مشاكل الرجل الثلاثينى على علاج أبنائه فقط، فالرخصة التى تثبت ملكيته للكشك لم يتم استخراجها بعد: «انتهيت من جميع الأوراق ودفعت كل المستحقات المالية، أخبرونى أننى سوف أحصل عليها بعد الانتهاء من تطهيرات ترعة الإسماعيلية، ورغم أنها انتهت لم أحصل على الرخصة، والحى يتردد على كل يوم ويهددنى بإزالة الكشك لأنى لا أمتلك رخصة». تقترب إحدى سيارات الشرطة من «الكشك» فيخرج «عبدالعزيز» مسرعًا لاستقبال «محمد بيه رئيس المباحث» كما يدعوه، الذى يأتى بين الحين والآخر للاطمئنان عليه هو وأسرته: «الله يبارك له يأتي إلى الكشك ليطمئن على سلامتنا لأنه يعرف بالمشاكل التى حدثت من البلطجية، وهذا أكثر شىء يجعلنى أشعر بالأمان على ترعة الإسماعيلية».