ومازالت الرحلة مستمرة بعشش السكة الحديد ، كل ما توغلنا أكثر بالشارع كلما اذداد الحال سوء لنرى العشش الخشبية تعلوها أطنان من الأجولة معباءة بالبلاستيك والخردة ،وبسؤال احدى الفتيات الصغار التى تقف بجوار هذه العشش قالت إن والدها وأعمامها يعملون فى الروبابيكيا ويسترزقون من بواقى القمامة بالشوارع الذى يقوموا بفرزها . نمر فى الطريق أمام إحدى العشش لتنادى إحدى السيدات "اتفضلوا ..اشربوا شاى" لتجعلنا نتساءل ما هذا الكرم الإنسانى رغم بؤس الحال ،توقفنا لنرد التحية ونتحدث مع هذه السيدة الرقيقة والتى تدعى ،سعدية حسين – ربة منزل وأرملة – والتى قالت "أعيش فى هذه العشش منذ أكثرمن 40عاما ،وحكومة تأتى وأخرى تتغير ولم نجد أى حل لمشاكلنا ، "ننزح صرفنا بالطرنشات" بعد معانة شديدة من الذهاب أكثر من عشر مرات إلى "البلدية" التى لا ترسل عرباتها سريعا وتتركنا أحيانا بالشهر حتى تطفح المجارى داخل العشش ، مضيفة : أخر مرة طفحت فيها المجارى قمت بالنزح بأيدى فى إحدى الجرادل ثم ألقيت بها على السكة الحديد ، متسائلة هل هذه الحياة ترضى الرئيس محمد مرسى أو أى مسئول لديه ضمير فى هذه البلد ؟؟؟!!. وعندما تسير وسط هذه العشش قد يضايقك الذباب والاتربة وغياب الرصف ،ولكنك بكل تأكيد تشعر أن هناك الملايين فى بلدنا أحياء بالاسم فقط ،ويجعلك تصب اللعنات على كل من يتصارعون بالساحة السياسية على الزعامة والكراسى ،فى غيبة تامة عن ماهو أهم وأخطر ، أوجاع المصريين والامهم . نعود لنلتقى بهذه السيدة الصعيدية "ام ياسر" صاحبة الوجه الأسمر الصافى ، واللكنة غير المفهومة فى بعض الاحيان لتحكى مشكلتها على سجيتها بفطرة الأرض التى تربت بين أحضانها ،لتأخذنا معها فى رحلة داخل عشتها الصغيرة وتعرفنا بزوجها ذات 70عاما ومازال يعمل ببيع الترمس ،قائلة "جئنا من سوهاج وعشنا فى هذه العشش منذ خمس سنوات ،وعدنا للصعيد مرة أخرى وجئنا مرة ثانية لضيق الحال هناك، واستأجرنا العشة ب 120جنيه لا يوجد بها مياة ولا صرف صحى ،ونعيش نحن وزوجى وابنى وزوجته وولديه الاثنين ،والجميع يجرى على أكل عيشه ،ونريد شقة فقط تستر عيالنا ومش عايزين أى حاجة من الدنيا تانى". ويلتقت منها الحديث "أبو ياسر "متساءلا هل هذه عيشة يرضى بها المسئولين هل يستطيع أحد يعيش فى حجرة واحدة مثل تلك التى نعيش فيها ، فالنموس والفئران تسير علينا ونحن نائمين، مضيفا نحن نعيش عيشة الكلاب بل الكلاب نفسها لن تسطيع أن تحتمل هذه العيشة. واضافت "أم ياسر" اتغربنا وتركنا بيوتنا بالصعيد لاننا لم نجد أى لقمة عيش هناك ،وليس لدينا طين ولا عجين حتى ننفق منه ، ونتمنى أن ينظر المسئولين لمشكلتنا ويوفروا لنا عيشة كريمة . وبعد خروجنا من هذه العشة البائسة جعلتنا نتساءل ، أين مشروعات الصعيد الضخمة وخطط التنمية المزعومة سواء الخمسينية أوالثلاثينية وكانت الصحف الرسمية تضج بمانشيتات عريضة بعد إعلان الرئيس الحالى أو السابق عن تخصيص ملايين الجنيهات لتطوير الصعيد ،ونتذكر فى نفس الوقت صورة هذه السيدة البسيطة "ام ياسر" وزوجها الذين يقطنان فى هذه العشة وكيف غابا عن مانشيتات وعناوين الصحف . وأثناء مرورنا على عدد من الماشية والاكشاك الخشبية التقينا "حمدية فؤاد مصطفى" تلك السيدة العجور التى تتغلب على مشكلاتها بالفكاهة والسخرية التى لا تخلو من الحزن والحسرة على سوء الحال ايضا ،قائلة جئت هذه المنطقة منذ 50عاما ،كان عمرى وقتها 8سنوات ،وصلنا القاهرة بالليل وجمال عبد الناصر مات فى الصباح ، ثم تزوجت هنا أيضا ولدى7 بنات وولد ،استطعت من خلال عملى عن طريق بيع الملابس والملايات وجهاز العرائس أن أتمكن من تربية أولادى قدر ما استطعت بعد طلاقى من زوجى وتركه لنا دون أى دخل ، والان ابنى يبحث عن عمل ليكمل انفاقه على الاسرة ولكن دون جدوى . وأشارت إلى أن العشش تعانى من مشاكل خطيرة ولا تلقى أى اهتمام من المسئولين ،فبالرغم من كبر سنى لابد أن امشى مئات المترات لملاء جردل مياه من الحنفية العمومية بالعشش ،اما الصرف فنقوم بنزحه ايضا بايدينا بالجرادل ونليقه على قضبان السكة الحديد. ووجهت حمدية رسالة للرئيس مرسى قائلة " كنت أريد أن أشكرك لو فرت لنا شقق ونقلتنا من هذه المنطقة المليئة بالأمراض والمشاكل ،ولكن كيف اشكرك وأنت متجاهل مشاكلنا ولم تنفذ وعودك التى جئت بها فى برنامجك الانتخابى بتحسين حال سكان العشوائيات،ونوجه لك لا بد ان تعرف اننا بنى ادمين مثل اولادك وعيلتك بالضبط وكما ترعاهم نحن مسئولين منك ايضا وفى رقبتك". ولم تنس حمدية هموم الامهات الاخرى ،قائلة لمرسى "ربنا يهديك على الشعب المصرى وكفاية الشباب اللى ماتوا وأهلهم اللى اتحسروا عليهم ،وعليك أن توفر فرص عمل للشباب". ولم تتركنا حمدية واصرت على ان تصتحبنا لنتعرف على أهالى العشش ،لنلتقى بالمواطن سيد أحمد على جالسا أم منزله وتبدوعليه ملامح المرض المختلط بالبؤس وضيق الحال ليحكى قصته قائلا منذ "37 عاما أعيش فى هذه العشش ، لا عارفين نأكل ولا نشرب ، لايوجد صرف صحى لدينا ، ولا مياه حلوة ،وانا مريض بالسكر ولا أعمل وكما طالبنا مئات المرات بتوفير مشروعات تنموية لسكان العشش لتساهم فى مسعدتهم على المعيشة ولا أحد يستمع إلى مطالبنا . وأضاف : نظرا لضيق الحال أضطررت لاخراج اولادى الاربعة من المدارس ولم يستكملوا تعليمهم ،مستنكرا مايسمعه من المسئولين عن ارتفاع نسب الامية قائلا "وفروا للناس لقمة عيش حلال وهى تعلم ولادها وتصرف لعليهم فى المدارس لكن غير كده هينفقوا عليهم فى التعليم منين ؟؟". ووجه سيد الى الرئيس مرسى رسالة قائلا " حسبى الله ونعم الوكيل ،بنطالبه يأتى ويزور العشش ،اذا احتمل ان يبقى فيها لمده 10 دقائق يبقى يحاسبنا وميسألش فينا ، ونقول له من وقت ما قعدت على الكرسى واتربعت انت والاخوان وسبتوا الناس تاكل فى بعضها ،لماذا لا نراك تتجول بعربيتك كما فعلها جمال عبد الناصر والسادات وكانوا بينزلوا وسط الناس ليروا بأنفسهم على أرض الواقع هموم الناس ومشاكلها وأوجاعها ،نحن قمنا بانتخابك وكنا نتمنى ان تنصف الفقراء ولكن لم تفعل شىء لنا". وقال سيد إن المسئولين لا يتحركوا من على كراسيهم ،يقوموا فقط بسرقة الشعب ولكن لا نراهم يقدموا أى حلول ،فقد استمعنا من محافظ الجيزة ان هذه البلوكات الثلاثة التى بنيت مخصصة لاهالى العشش ولكن فوجئنا ايضا ان العمل فيها توقف ،وتناقلت الاقوال بأن موظفين المترو سيقوموا بالسكن بها ولا نعرف الحقيقة ،لذا نطالب مرسى يوفر لنا شقق مثل تلك التى تعيش بها اسرته واولاده من تكييفات وحمامات ومياة نظيفة ،فنحن لا نقل عنهم شيئا كلنا بنى ادمين ،وطالما هما اخوان وبتوع ربنا يبقى الناس كلها سواسية ومحدش احسن من حد ". ثم اذدادت صيحات الغضب من عدد من النساء ،واعتقدوا اننا تابعين للحى وجئنا لتوزيع الشقق عليهم ،يصيحون اين انتم لماذا لا تسلمونا الشقق ، وبعد توضيح الامر لهم عاد الهدوء مرة اخرى وبعضهم رفض الحديث قائلا "مفيش فايدة من التصوير والكلام خلاص"،تحدثت الاخريات حيث قالت توحيدة عبد الصادق فراج ، جئت من الصعيد مع زوجى منذ 45 عاما ،وكان يعمل "شيال" فى محطة السكة الحديد الى أن رحل ، واستطعت ان اقوم بتربية بناتى وتزوجيهم ،الذين اقاموا معى أيضا فى العشة بسبب ارتفاع الايجار الجديد للشقق ، وطالبت المسئولون بضرورة توفير مساكن للاهالى او يتم نقلهم فى هذه البلوكات الجديدة التى تم بنائها مؤخرا بجوار العشش . والتقتت الحديث منها الشابة زينب عبد الحارث بمنتهى الغضب " هل الحكومة تنتظر ان يقع على اولادنا باقى سور السكك الحديد حتى تتحرك وتوفر لنا مساكن ،مشيرة إلى أن السور به شقوق كبيرة ممتدة على طوله حتى تصل الى كوبرى همفرس ، حيث وقع جزء من السور منذ يومين وتسبب فى مقتل حصانين ومعزتين مما يسترزق منهم الاهالى ويستخدموهم فى عملهم . واضافت نحن نعيش على كف عفريت ،ولا احد مهتم باحوالنا ،نستخدم الطرنشات ونملاء المياة فى جرادل حتى اصيب اطفالنا وكبارنا بالامراض ،حيث يتنشر المصابيب بفيروس سى، والسرطان من سوء المعيشة وغياب النظافة . ووجهت زينب للمسئولين والرئيس رسالة هامة قائلة " من ساعة ماتوليت الرئاسة ولم تفعل لنا شىء ولم تنقذنا من العراء والبرد والمرض والفقر الذى نعيشه ،لانرى منك سوى صلاة الجمعة ،لكن احنا مينفعش معانا تخدرنا بقال الله وقال الرسول ،لان الدين عمل اصلا ،والمسؤلين الذى قمت بتعيينهم مش شايفين شغلهم ،وعندما نذهب اليهم للمطالبة بحقوقنا بيشتمونا ويوبخونا ،وبنطالب بتوفير شقق عاجلة لاهالى العشش" . وقبل ان تختتم البديل يومها التى عاشت فيه مع اهالى عشش السكة الحديد ،وكأن اليوم لم يرد ان ينتهى دون اللقاء مع بركة العشش ،كما يقال فى الامثال الشعبية ان السيادات العجوزات يمثلن بركة للمكان والبيت ،لتتحدث معنا " صديقة احمد توحيد " التى تجاوزت 75 من عمرها ،ورغم خريطة الزمن المرسومة على وجهها بعدد سنين عمرها وبرغم الحالة البسيطة والفقيرة التى تحياها لم تغب الابتسامة عن وجهها واستقبلتنا بترحاب دافىء ،قائلة انها جاءت هنا منذ اكثر من 60 عاما ولم يكن يوجد سوى ترعة واحده فقط ،ولم يكن يوجد اى عشة بالمنطقة ،واذداد الوضع سوء سنة بعد سنة ،وتقول اننا نعانى جميعا من المشكلات ، ولدى معاش قيمته 200جنيه لم يكفينى أكثر من 10 أيام ، واستنكرت الاتهامات التى يوجهها المسئولين لاهالى المناطق العشوائية بانهم بلطجية وبيصدروا العنف ، وطالبت الحاجة صديقة الرئيس مرسى ان يهتم باهالى العشوائيات ويوفر لهم شقق بها مياة وكهرباء وصرف صحى . وتجلس بجوراها هذه السيدة العجوز ذات الوجه الصغير والعين الواحدة لتشفق على حالها لتتأملها وتتساءل هل ستيمكن عمر هذه السيدة المتقدم فى السن ان ترى نفسها فى شقة بها مياة وكهرباء وصرف صحى ،هل يقرضها الاجل سنين اضافية لترتاح بعد معاناه شديدة استنفذت فيها عمرها فى شقاء وبؤس ،لتقطع كل هذه التأملات صيحات الحاجة "فرج الله محمد فواز" انا عايشة فى العشش منذ 35 عام ،ولم ارى اى مسئول حتى الان زار هذه المنطقة ،ولا نرى سوى التليفزيونات التى تصورنا وتفضحنا على الشاشات ويقدموا الوعود ولكن لا نرى اى تنفيذ . وبسؤالها ماذا تطلبى من المسئولين ،ردت بعزة نفس وقوة لن تراها الا فى المراة المصرية لن اطلب شىء من المسئولين طالما هما ضميرهم مرتاح وشايفنا بهذه الحالة السيئة لو حد عايز يريحنا فى البلد دى كان ريحينا من زمان . ومن الكلمات الاخيرة لهذه العجوز ،ورغم بساطتها تختتم البديل يومها التى عاشت فيه مع اهالى عشش السكة الحديد التابعة لحى الدقى اسما ولكن واقعا هى منتمية لبلد اخرى لا يسمع فيها المسئولين شيئا ولايهتموا بالام وهموم الناس عشش تنتمى الى عصور حجرية بائدة فى اعماق التاريخ لا مياة ولا صرف ولا مسكن ملائم ، قالتها العجوز بلفسفة لم تتعلمها أيدى أرسطو وأفلاطون ولكن تعلمتها من شقاء الزمن الذى دهسها تحت سنابكه بفقره ومرضة وبؤس معيشته : لن نطلب من المسئولين شيئا طالما ضميرهم مرتاح وشايفنا بهذا الحال ..لو حد عايز يريحنا فى البلد دى كان ريحينا من زمان. عشش السكة الحديد.. عندما يتوقف الزمن عند العصر الحجرى ( ج 1) Comment *