فى صبيحة يوم الأربعاء 26 يونيو من العام 1968 احتفل الأقباط بإقامة أول قداس لهم بمقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، بعد أن منح الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قطعة أرض بجوار كنيسة بطرس باشا غالى لبناء كاتدرائية كبيرة عليها تليق بكرسى الكنيسة المصرية، وقامت الحكومة المصرية فى ذلك الوقت بالمساهمة بنحو 100 ألف جنيه فى بنائها، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية المقر البابوى الجديد وذلك بعد انتقال بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية إليها وكان فى ذلك الوقت هو البابا كيرلس السادس الذى قام بإحضار رفات مرقس الرسول ووضعه بها ومن ثم أصبح المقر الرئيسى للبابا شنودة الثالث. وطوال هذه المدة شهدت الكاتدرائية المرقسية صلوات الأعياد بشكل منتظم، وفى كل ليلة عيد كانت تشهد ساحة الكاتدرائية تشديدات أمنية كبيرة وتستقبل ساحتها كبار رجال الدولة من وزراء وقيادات أمنية وأعضاء مجلس شعب وسط أجواء احتفالية كبيرة تليق باسم الكنيسة المصرية أكبر كنيسة فى الشرق الأوسط. إلا أنه هذا العام أطفئت الأنوار وأغلقت الأبواب ولأول مرة لا تشهد فيها الكاتدرائية المرقسية بالعباسية صلوات طقس ليلة العيد، حيث ستصلى ليلة العيد فى كاتدرائية الميلاد بالعاصمة الإدارية الجديدة والتى أقيمت على مساحة كبيرة لتكون ضمن مؤسسات الدولة الرئيسية التى نقلت للعاصمة الإدارية الجديدة. وأكد القس بولس حليم المتحدث الإعلامى باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن إقامة صلوات العيد داخل الكاتدرائية ستقتصر فقط على الكنيسة الصغيرة وهى كنيسة السيدة العذراء مريم والأنبا بيشوى والموجودة أسفل الكنيسة الكبرى بينما ستكون الكاتدرائية الكبرى مغلقة ولن يتم إقامة أى صلوات فيها إلا أن الدخول سيكون متاحًا للجميع الذين سيخضعون للإجراءات الأمنية العادية المتخذة فى جميع الكنائس الأخرى، حيث كان من المعتاد عند ترأس البابا الاحتفال بالكاتدرائية أن تتم الدخول بالدعوات والتى تكون مصنفة حسب صفة الحضور إذا كان شخصية رسمية أمv.i.p أم من الجمهور والذى يختلف حتى فى البوابات المخصصة لدخولهم إلى الكاتدرائية. وأضاف حليم ل«روزاليوسف» أن الكاتدرائية ستشهد افتتاحا كبيرا سيكون فى شهر أبريل أو مايو القادم، حيث ستكون هناك احتفالية كبرى بمناسبة اليوبيل الذهبى لبنائها. وعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة التى يتعرض لها البابا تواضروس منذ إعلانه الصلاة فى كنيسة العاصمة الإدارية الجديدة والتى تم بناؤها بعد إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى عنها العام الماضى إلا أن المتابع الجيد للتاريخ سيجد أن هذا المشهد لا يختلف كثيرا عما فعله الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مع البابا كيرلس السادس الذى طلب منه إقامة الكاتدرائية المرقسية على أرض دير الخندق المجاورة لكنيسة بطرس باشا غالى فى العباسية لتكون مكانا يصلح لاستقبال الضيوف والشخصيات الرسمية واستجاب البابا كيرلس لطلبه. وفى 24 يوليو سنه 1965 (خلال احتفالات العيد الثالث عشر للثورة)، أقيم احتفال فى سرادق كبير بأرض الأنبا رويس بوضع حجر الأساس لبناء أكبر كاتدرائية فى الشرق باسم القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية، وحضر الحفل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتحدث فى هذا الاحتفال العظيم موضحاً أن سياسة الدولة نحو جميع المواطنين واحدة، وأن بناء الدولة قائم على المحبة التى تربط بين عنصريّ الأمة. وفى هذا الاحتفال أعلن الرئيس الراحل تبرع الحكومة بمبلغ مائة ألف جنيه مساهمة من الدولة فى بناء الكاتدرائية الجديدة. وكان الاحتفال بوضع حجر الأساس صورة واقعية للوحدة الوطنية وإظهارا لروابط المحبة بين المصريين. وفى خطاب البابا كيرلس السادس أثناء الاحتفال أعلن رسميا احتفال الكنيسة بافتتاح الكاتدرائية سنة 1968 والذى سيكون احتفالاً عالمياً بمرور 19 قرنا على استشهاد القديس مرقس. وفى 8 مايو 1967 (عيد استشهاد مارمرقس) أقام قداسة البابا كيرلس السادس صلاة تبريك فى مكان البناء إيذانًا ببدء العمل فى الكاتدرائية، وكانت معجزة حقاً أن تم العمل فى نحو عشرة أشهر بعد أن تم تشغيل نحو ألف عامل واستخدام الكثير من الآلات وأسهمت الدولة فى بناء الكاتدرائية بدفعة أخرى مقدارها خمسين ألف جنيه كما أسهم الشعب والكنائس بتقديم تبرعاتهم لهذا المشروع الكبير كذلك بذلت الحكومة المصرية ووزارة الإسكان جهوداً جبارة لإنجاز الهيكل الخرسانى للكاتدرائية فى ميعاد الاحتفال الذى أعلنه البابا كيرلس السادس بمرور 19 قرناً على استشهاد مارمرقس. وفى يوم الثلاثاء 25 يونيو 1968 احتفل رسمياً بافتتاح كاتدرائية مارمرقس الجديدة بدير الأنبا رويس، بحضور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والإمبراطور الراحل هيلاسيلاسى الأول إمبراطور إثيوبيا ووفود من ممثلى كنائس العالم. وأذاع التليفزيون المصرى الحفل على الهواء، وأُلْقِيَت كلمات قوية من البابا كيرلس السادس، ومارأغناطيوس يعقوب الثالث، ومن الكاردينال ديفال مندوب بابا روما، وغبطة الأنبا ثاؤفيلس نائب بطريرك جاثليق إثيوبيا، ومن مندوب بطريركية موسكو الذى أعلن أن كنيسة موسكو قدمت للكاتدرائية الجديدة مذبحاً مُذهبًا. وكان الاحتفال بافتتاح الكاتدرائية احتفالاً ضخماً مكونًا من مجموعة احتفالات فقد صاحبه الاحتفال بحضور رفات مارمرقس من الفاتيكان، وافتتاح طريق العائلة المقدسة فى مصر. وفى صباح يوم الأربعاء 26 يوليو 1968 احتفلت الكنيسة بإقامة أول قداس على مذبح الكاتدرائية، وكان قداساً تاريخياً حيث اشتركت فيه الكنائس الأرثوذكسية الشرقية. وعلى الرغم من كل هذه الضجة والاحتفالات وإقامة القداسات بها إلا أن البابا كيرلس السادس لم ينقل الكرسى البطريركى إلى العباسية وظل موجودا بالكنيسة المرقسية بالأزبكية إلى أن جاء البابا شنودة الثالث البابا ال 117 وقام بتشييد البناء المقابل لمبنى الكاتدرائية ونقل إليه المقر البابوى ليعرف باسم المقر البابوى الجديد واستقر فيه حتى رحيله فى عام 2012. وبالرغم من أن الكثيرين يعلمون بأن الكرسى البطريركى شهد تنقلات كثيرة ما بين الإسكندرية وأحياء القاهرة إلا أنه كانت هناك مفاجأة فى سبب هذه التنقلات كشفها لنا الدكتور جميل فخرى أستاذ تاريخ الكنيسة بمعهد الدراسات القبطية الذى أكد أن البداية الحقيقية لانتقال الكرسى البطريركى جاء فى القرن الحادى عشر على يد البابا خرسطوذولوس البابا ال 66 والذى نقله من الإسكندرية إلى القاهرة ليكون قريبا من الحاكم وذلك فى عهد الدولة الأيوبية وكانت القاهرة حديثة العهد مثل العاصمة الإدارية الجديدة الآن، فقام البابا ال66 بنقل الكرسى البطريركى إلى الكنيسة المعلقة فى مصر القديمة ليكون قريبا من الحاكم وصناع القرار حتى يسهل عملية التواصل بين الكنيسة وبينهم. ويضيف فخرى أن اختيار البابا خرسطوذولوس للمعلقة جاء لجمال تصميمها المعمارى، حيث كانت مشيدة فى حصن بابليون والذى كان قريبا من مكان الحاكم العادل فى ذلك الوقت. ويوضح فخرى أنه قبل ذلك التاريخ ومنذ دخول المسيحية مصر على يد مرقس الرسول كان الكرسى البطريركى موجود بالإسكندرية منذ عام 68 ميلادية وكانت البداية فى بيت أنيانوس الأسكافى البطريرك الثانى بعد مرقس الرسول ثم تم بناء كنيستين بالإسكندرية هما بوكاليا والقمحة (المعلقة بالإسكندرية) وعندما كان يشتد الاضطهاد الخلقيدونى كان يتم إخفاء البطاركة بدير الزجاج بالإسكندرية. ويضيف فخرى قائلا إنه ظل هذا الوضع حتى جاء عمرو بن العاص فاتحا لمصر فى عهد البابا بنيامين ال38، حيث ظل البطاركة يتنقلون بين بوكاليا والقمحة ودميرة وحلة دانيال إلا أنهم كانوا يلجأون لأديرة وادى النطرون أثناء اشتداد أى أزمة مع الحكام. وظل الوضع هكذا حتى القرن الحادى عشر حيث انتقل الكرسى إلى كنيسة المعلقة. وفى القرن الثانى عشر قام البابا غبريال بن تريك البابا ال70 بنقل الكرسى لكنيسة أبوسيفين بمصر القديمة أيضا ثم عاد مرة أخرى إلى المعلقة وظل الكرسى يتنقل بينهما حتى القرن الرابع عشر. ويستكمل فخرى حديثه قائلا أنه فى عهد البابا يؤانس الثامن البابا ال80 تم نقل الكرسى البابوى من المعلقة لحارة زويلة والذى استمر هناك حتى القرن السابع عشر ثم انتقل لحارة الروم فى عهد البابا متاؤوس الرابع البابا ال102 (1660-1675)، حيث استمر هناك حتى أوائل القرن التاسع عشر. ويوضح فخرى أنه فى عهد البابا مرقس الثامن تم بناء الكنيسة المرقسية بالأزبكية عام 1809 على يد المعلم إبراهيم الجوهرى وتم نقل الكرسى البابوى إليها وظل هناك حتى البابا كيرلس السادس البابا ال 116 الذى لم ينقل الكرسى إلى العباسية ولكن قام البابا شنودة بنقله إلى هناك. ويؤكد فخرى أن تنقلات الكرسى البطريركى كانت بسبب مكان تواجد الحاكم وذلك حتى يستطيع بطريرك الكنيسة التواصل بسهولة وسرعة معه، كذلك لأن الكنيسة تعد مؤسسة من مؤسسات الدولة، مشيرا إلى أن ذلك اتضح بشكل جلى فى موقف عبدالناصر حين طلب من البابا كيرلس بناء كاتدرائية العباسية حتى تكون قريبة منهم أى الرئيس والحكومة وكذلك ليكون مكانا ملائما لاستقبال الضيوف الرسميين الذين يأتون إليها. وكذلك فى موقف الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى أمر ببناء صرح ضخم للكنيسة داخل العاصمة الإدارية بصفتها مؤسسة من مؤسسات الدولة لتكون قريبة من صناع القرار ويسهل التواصل بينها وبينهم، حيث سيتم نقل الرئاسة والحكومة ومجلس النواب إلى هناك وهو شيء اعتادت عليه الكنيسة منذ قرون طويلة ولا يوجد شيء خارج عن المألوف فيها. وأضاف فخرى أنه من المعروف أن أى مكان يتواجد فيه البطريرك يكون مقرا له وهو ما أعلنه البابا تواضروس، حينما ذهب إلى كنيسة السيدة العذراء مريم بالزيتون وأعلنها مقرا بابويا له ولكن فى النهاية يظل اختيار تواجد المقر البابوى فى يد البطريرك فقط وترجع لرؤيته هو فقط وتقديره للأمور.