99 يوما قضاها الكاتب الكبير الأستاذ «إحسان عبدالقدوس» فى السجن بسبب مقالتين كتبهما على صفحات «روزاليوسف»!! كانت المرة الأولى فى زمن الملك فاروق عندما هاجم المندوب السامى البريطانى اللورد كيلرن وطالب بطرده من مصر صيف عام 1945، والثانية فى زمن الرئيس جمال عبدالناصر عندما هاجم وانتقد طريقة حكم مصر!! فى المرة الأولى دام سجنه 96 ساعة - أربعة أيام - وفى الثانية دام سجنه 95 يومًا بالضبط. كانت تجربة السجن بالنسبة لإحسان مغامرة سياسية وإنسانية وأدبية سرعان ما حولها إلى مقالين مهمين تاها فى زحام الأيام والسنوات، بل إنه لم يحرص على أن يضمهما فى أى كتاب يصدره يضم مقالاته، ولم يتحدث عنهما كثيرًا. «روزاليوسف» تعيد نشر المقالين لما لهما من دلالة سياسية وإنسانية وفكرية! كان مقال «الرجل الذى يجب أن يذهب» هو الذى تسبب فى سجن إحسان عبدالقدوس عندما اتهم اللورد «كيلرن» المندوب السامى البريطانى بالفشل لأنه لم يستطع أن يقنع نفسه بأن مصر بلد مستقل ذات سيادة، وأنه فشل فى مهمته كسفير لبلده لدى بلد آخر مستقل له سيادة ومن حق مصر أن تطالب بسحبه من منصبه. وصادرت الحكومة التى يرأسها «محمود فهمى النقراشي» عدد روزاليوسف وتم القبض على إحسان، وبعد خروجه بعدة أسابيع كتب مقاله «96 ساعة مع الحريات الأربع» حكى فيه مشاعره وخواطره عن هذه الأيام الأربعة فى السجن وكتب يقول: وأقفلوا ورائى باب الزنزانة رقم (6) وسمعت للمزلاج الحديدى «القفل» الضخم صوتا كأنه قهقهة ساخر يسخر من شبابى وحماستى وحريتى التى حاولت أن أتحدى بها نوعًا من الضعف والذلة والخنوع يطلقون عليه اسم «السياسة العليا»! أحسست أن كل شيء وكل شخص فى سجن الأجانب يسخر مني!! فالمأمور الإنجليزى الفاضل «مستر وايت» استقبلنى بابتسامة اغتصبها اغتصابا من بين أسنانه، والباشجان نظر إليَّ نظرة ملؤها الاستخفاف وقلبنى بين يديه وهو يفتش جيوبى وبطانة سترتى وتانية بنطلونى وجلدة طربوشى بحثا وراء الممنوعات، وهذا السجان الذى قادنى حتى الزنزانة وسألنى فى الطريق: «تهمتك إيه»؟! وشرحت له التهمة التى وجهتها لى النيابة فقال وهو يفتح الباب الحديدى: «إنت غلطان.. مالكش حق.. تستاهل»!! هذا السجان تمنيت على الله أن أصفعه ولكن هل هو وحده الذى يستحق الصفع؟! لا أظن!! وآثر فى نفسى هذا الاستقبال البارد، وفقدت كل ما فيّ من حماسة وكل شعور بالبطولة ولا أدرى لم كنت أعتقد وأنا أخطو نحو السجن أن المأمور والسجان والمساجين سيستقبلوننى بالتصفيق والهتاف ثلاثا بحياتى الغالية!! وكدت أفقد أعصابى وروحى المعنوية لولا أن جلت بنظرى فى الزنزانة رقم (6) فوجدت دنيا كاملة من الحرية والبطولة!! ويصف «إحسان» ما شاهده فى الزنزانة قائلا: «هنا على الجدران تسمع صيحات تكفى كل صيحة منها لشنق صاحبها وتقرأ كلمات حفرت بأظافر اليد فوق حجر الجدار تكفى كل كلمة منها لفتح أبواب الجحيم أمام كاتبها»!! هذا سجين ألمانى حفر على الجدار علامة النازى وكتب تحتها كلاما لم أستطع أن أقرأ منه إلا كلمة (هتلر)!! وهذا سجين آخر مصرى كتب: (بلدك هى مصر والسودان) وتستطيع أن تحس بحماسته فى ضخامة الحروف التى كتب بها رأيه ! ومن العجيب المحزن أن يكون مصير الهاتف لهتلر والهاتف لمصر والسودان زنزانة واحدة فى سجن الأجانب!! وهذه السيدة (حكمت فهمي) وقد كانت معتقلة فى نفس الزنزانة قد رسمت على الجدار صورة قلب وكتبت فوقه: (ليس لك هنا إلا الصبر) ووقعت باسمها وكتبت التاريخ وهو 27/8/1942. وجاءت فتاة أخرى فكتبت تحت ما كتبته (حكمت فهمي): نعم يا أختى العزيزة.. ليس لك هنا إلا الصبر ووقعت باسم (فتاة فلسطين) ورسمت بجانب التوقيع علامات الصهيونية.. وهذا معتقل مصرى كتب رأيا صريحا فى سعادة (فؤاد سراج الدين باشا) يكفى لو قاله خارج الزنزانة لقطع رقبته، ومعتقل آخر كتب رأيه فى رفعة (النحاس باشا) وثالث كتب رأيا لا يقل صراحة فى معالى (مكرم عبيد باشا). ولعل أغرب وأعجب مشاعر وانطباعات (إحسان) هى قوله: وحرية الرأى فى الزنزانة رقم (6) مكفولة للجميع، فليس لأحد أن يعتدى على رأى آخر أو أن يحد من حريته، فاليهودى لم يحاول أن يمحو علامة النازية ليضع علامة الصهيونية.. بل اكتفى أن يثبت رأيه بجانب رأى زميله، والمصرى لم يحاول أن يعتدى على رأى هذا الطليانى الذى كتب (مصر لإيطاليا) بل اكتفى أن يكتب بجانب هذه الكلمة وفى هدوء ظاهر من دقة حروفه (مش ممكن)! ومأمور السجن وحراسه لم يحاولوا الاعتداء على كل هذه الآراء بمحوها من فوق الحائط، بل تركوها حرة محترمة تصرخ بين جدران أربع!! واستلقيت على السرير الحديدى وسألت نفسى: أليس السجن دنيا قائمة من الحرية.. بل من الحريات الأربع !! إنك هنا تستطيع أن تقول ما تشاء وتكتب ما تشاء دون أن يتدخل أحد ليخرس لسانك أو ليشل يدك، وتستطيع أن تعبد ما تشاء ولو عبدت الأصنام دون أن يضطهدك أحد أو يملى عليك دينا لا تدين به..! وهنا تجد دائما طعاما وشرابا دون أن تضطر لمد يدك ودون أن تموت جوعا فى دنيا تموت فيها. انتهى المقال. أما الفترة الأطول والأصعب والأقسى فقد كانت بعد حوالى عام ونصف العام من قيام ثورة 23 يوليو 1952، والتى شهدت صفحات روزاليوسف ومقالات إحسان التمهيد لها والتبشير بها أيضا. كتب إحسان مقاله الشهير (الجمعية السرية التى تحكم مصر) فى 22 مارس 1954 وبعد ستة أيام فقط وجد نفسه محبوسا فى السجن الحربى بتهمة قلب نظام الحكم وظل حتى 31 يوليو من نفس العام، فى الزنزانة رقم (19).. ولم تنشر المجلة حرفا عن غياب إحسان لكن السيدة روزاليوسف قاطعت أخبار كل ما يخص الثورة وقادتها، وبعد حوالى شهر روى إحسان التجربة فى مقاله الشهير (95 يوما فى السجن) وكتب يقول: كنت فى السجن (هذه حقيقة لم أعد أستطيع السكوت عليها بعد أن عرفها العالم الخارجى كله، ولعل أصحاب الخطابات الذين لا يزالون يسألوننى: أين كنت ؟ لعلهم يستريحون الآن! وقد قضيت فى السجن خمسة وتسعين يوما متهما- وزميلى الأستاذ إسماعيل الحبروك بأخطر تهمة يمكن أن يتعرض لها مواطن «تهمة: العمل على قلب نظام الحكم»!! ويظهر أن الناس يعتقدون أنى من هواة الانقلابات فهذه هى المرة الثالثة التى توجه إليَّ هذه التهمة، والمرة الثالثة التى أعانى التحقيق معى فيها، والمرة الثالثة التى تثبت براءتى منها.. ولست أنوى اليوم أن أسرد تفاصيل ووقائع الاتهام الذى تولته نيابة أمن الدولة، ولا أن أصف أيامى فى السجن ولا أن أقدم لكم الباشجاويش يس، والأونباشى رزق والعسكرى (لحميد) هذه الشخصيات الفريدة التى عشت معها ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وإنما أنوى فقط أن أعرض تجربة نفسية عنيفة مرت بى.. تجربة وضعت فيها وطنيتى موضع الاختبار ! كانت الأسابيع الأولى قد مرت عصيبة عنيفة كل دقيقة منها تنغز فى أعصابى حتى أصبح جسدى كله أعصابا ملتهبة ممزقة تشتعل نارا، تمنيت لو أطفأتها بدمى. وكنت فى هذه الأسابيع أغالب نفسى وأغالب العذاب النفسى، حتى انتصرت عليها عندما استطعت أن أنسى وجودى ككائن حى وأن أكيف حياتى فى الحدود الضيقة التى رسمت لها.. وفى هذه الحدود نسيت صباى الذى مر بى، وشبابى الذى أعيش فيه والشيخوخة التى أخطو إليها، وفى سبيل النسيان قطعت كل صلة لى بالحياة !! أخفيت صورة أولادى التى كنت أحملها فوق صدرى، وأخفيت الكتب التى سُمح لى بها، أخفيتها تحت السرير وأخفيت ساعتى حتى لا تشعرنى بالزمن الذى يمر بى.. و.. وأحسست بالراحة، بنوع من الضعف اللذيذ، أصبحت أضعف من أن أفكر وأضعف من أن أحس، وأضعف من أن تهفو نفسى إلى شيء، وأضعف من أن أتناول طعامًا.. أصبحت «هفتانًا» دائمًا، لا أكاد أقوم من فوق الفراش حتى أعود إليه ولا أكاد أصحو حتى أعود إلى النوم شبه مغمى عليّ!! ولكن الإنسان من طبيعته أن يعيش فى مجتمع.. فبدأت أبحث لنفسى عن مجتمع أعيش فيه قبل أن أعانى مرة ثانية عذاب الوحدة.. ووجدت هذا المجتمع فى السماء فى كتاب الله.. فبدأت أعيش مع الأنبياء والملائكة والكفار الذين ذكرهم القرآن.. واستطعت أن أرسم لكل منهم صورة فى مخيلتى فكنت أقضى ساعة مع «نوح» ثم أستأذنه لأنى على موعد مع «زكريا» ثم أتركه لأجتمع بأبى لهب وكنت أناقش كلا منهم و.. و.. وهكذا وجدت المجتمع الذى أعيش فيه!! إنها خواطر حقيقية مرت بى.. خواطر أحسست بها كأنها دنيا مجسمة محسوسة لا مجرد أوهام!! وبعد انتهاء التحقيق سمحوا لنا بالفسحة لمدة ساعة ثم زيدت إلى ساعتين وأصبحت أخرج من زنزانتى لألمح بقية المعتقلين من بعيد يسيرون فى صمت وهدوء كأنهم ملائكة يسيرون فوق قطع السحاب فأبتسم لهم فى طيبة وحنو كأنى أنا الآخر ملاك.. وأنظر إلى جنود الحراسة كأنهم حراس الجنة!! ثم سُمح لنا بقراءة الصحف.. واعتقد المسئولون أنها خطوة كبيرة للتخفيف عنا ولم يعلموا أنها خطوة نحو عذاب جديد.. لقد أعادتنى هذه الصحف إلى الحياة ورأيت الموكب من خلال سطورها يسير كما كان!! زاخرًا، نشطًا، زاهيًا وكأن لم ينقص منه شيء وكأنى لم أشترك فيه يومًا!! وشعرت إنى شيء تافه بالغ التفاهة، شعرت إنى كحبة من الرمل فى صحراء ولن يضير الصحراء أن تفقد حبة من رمالها مهما كان لهذه الحبة من بريق!! وعذبنى شعورى بتفاهتي! عذبنى شعورى بأنى أضعف من أن أقف فى وجه الموكب الزاخر ليلتفت إليَّ ويحس بى ويفتقدنى بين صفوفه!! وحاولت أن أبعد عنى هذه الصحف، أن أبعد عنى الحياة وأعود إلى السماء، ولكنى لم أستطع وأصبحت كل صباح أمد ذراعى إلى الحياة لأتلقفها مطوية فى صفحات الصحف!! وبقيت حتى آخر يوم لى فى السجن أحس بعد قراءة الصحف بقبضة فى صدرى تكاد تخنق نبضات قلبى.. وفى ذات صباح حملت الصحف إليّ- فى الزنزانة رقم 19- اتفاقية الجلاء، وقرأت الاتفاقية دون أن أحاول فهمها! ثم ألقيت الصحيفة من يدي!! مالى اليوم والجلاء!! وماذا يهمنى أن يبقى الإنجليز أو يخرجوا.. مادمت فى السجن إذا بقوا ومادمت فى السجن إذا خرجوا؟! وساءلت نفسى: ما رأيك فى الاتفاقية؟! ورد هاتف غاضب: زفت!! وعدت أسأل لماذا؟! وأجاب الهاتف الغاضب: لأنك فى السجن!! وأحسست كأن الجدران الضيقة تقهقه من حولى ساخرة شامتة، وقفزت أمام عينى صورة سياسى قديم جاء يومًا إلى مكتبى قبل أن أدخل السجن وسألته: لماذا لا يؤيد المفاوضين فى موقفهم من القضية الوطنية؟! فأجاب بصراحة: لأن هؤلاء الناس لو أفلحوا فى إخراج الإنجليز فلن تستطيع قوة فى مصر أن تخرجهم من الحكم.. إن القضية الوطنية هى سلاحنا الوحيد فى وجههم!! هل وصلت إلى أن أكون مثل هذا السياسى القديم؟! وشعرت كأن ضميرى يطأطئ رأسه خجلاً مني!! لأكن فى السجن ولكن هذه الاتفاقية أكبر منى وأوسع من السجن.. وقد أفنى فى هذا السجن.. قد أموت غدًا وأحرم من الضحك والبكاء على قبرى.. ولكن هذه الاتفاقية ستبقى لأولادى.. ستبقى لكل من أحبهم.. ستبقى لوطنى ويجب أن أطمئن على أولادى ومن أحبهم ووطنى. وقاومت نفسى.. قاومت شعورى بالسجن وقاومت عذاب روحى ثم جذبت الصحيفة من جانبى وبدأت أقرأ الاتفاقية من جديد.. قرأتها أكثرمن مرة، وكلما قفزت إلى سطورها صورة شخصى ألقيت بالصحيفة حتى أنسى شخصى فأعود لها من جديد! ثم بدأت أحاول دراستها مسترشدًا بالمُثل التى آمنت بها وبالواقع الدولى والعربى الذى كان يحيط بالمفاوضين، وبكل ما وعيت من سطور المفاوضات السابقة! إلى أن كونت رأيي!! ولم أقل رأيى لأحد وأنا داخل السجن، ولم أقل رأيى للذين قابلتهم بعد الإفراج عنى.. ولكنى سأقول رأيى.. ليس الآن!! انتهى ما كتبه أستاذنا «إحسان» وتبقى دلالة سطوره أمس واليوم وغدا!!