السجن والمعتقل فى بلادنا لم يصبحا من الاستثناءات بالنسبة إلى الكتّاب والساسة والصحفيين والرؤساء والوزراء والقادة، ولا يوجد مَن هو كبير على السجن، ولا يوجد معصوم من دخوله والعيش فيه تحت قوانينه، ولو حاولنا أن نحصى الإعلاميين السياسيين الذين دخلوا السجن فلن ننتهى من ذلك، ولكن الصحفيين هم أكثر الناس تعرضًا للحبس والاعتقال والتوقيف، فمن عباس محمود العقاد ومحمد التابعى ومحمد السوادى إلى مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وفتحى عبد الفتاح وطاهر عبد الحكيم، إلى جمال فهمى ومحمد منير ومدحت الزاهد ومحمد السيد سعيد، إلى أصغر صحفى يعيش الآن بين الجدران الصماء البكماء العمياء، والقائمة تطول بطول عصور الاضطهاد وأشكاله المتعددة، وبالتأكيد فى يوم ما سيصبح السجن نوعا من الفولكلور الشعبى الفكاهى، عندما تشرق الشمس المخنوقة بأيدى قُطّاع الطرق والمعقدين والحكّام الأشاوس، لأننى من المتفائلين أو الحالمين بهذا المستقبل، ولم يكن استهداف الصحفيين نوعا من استعراض القوة، أو تسلية لتمرير الوقت، فالسلطات تعرف دومًا خطورة هذا الصحفى الذى لا يخاف سيف المعز، ولا يغريه ذهبه، وكان أول سجين سياسى من رجال الصحافة، هو الصحفى أحمد حلمى الذى اعترض على قانون المطبوعات الصادر عام 1981 فى عهد وزارة رياض باشا، وقاد مظاهرة كبيرة كان قوامها 25 ألف متظاهر، بعدها حكم عليه بستة أشهر عام 1909، وكان أحمد حلمى -وهو بالمناسبة الجد المباشر للشاعر صلاح جاهين- شجاعا فى مواجهة الأحكام القضائية التى قضت بها المحكمة، وكتب حلمى كتابا مهما عن السجون، وكان الكتاب الآخر والمهم هو كتاب «عالم السدود والقيود» لعباس محمود العقاد، والذى صدرت طبعته الأولى عام 1937، بعد تجربته فى السجن من 13 أكتوبر سنة 1930 إلى 8 يوليو 1931، وكان حبسه لأنه تطاول على الذات الملكية فى البرلمان، وفى مقدمة الكتاب يقول العقاد: «عالم السدود والقيود الآن -عندى وعند كل عابر سبيل- هو ذلك البناء المعزول فى ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف فى بعض أحياء القاهرة الواسعة الكثيرة، كأنه يحس نفرة الناس منه ونفرته من الناس، واسمه فى سجلات الحكومة سجن مصر العمومى، واسمه الشائع على الألسنة (قرة ميدان)». وتتوالى كتابات السجن لكل من جربه، حتى نصل إلى تجربة إحسان عبد القدوس التى نوهنا عنها من قبل فى أعقاب المقالات التى كتبها فى 15، و22، و29 مارس 1954 بمجلة «روزاليوسف»، تحت عناوين واضحة وصريحة، وتم القبض عليه فى 18 أبريل، وأفرج عنه فى 31 يوليو 1954، وبعد خروجه ظل إحسان صامتا، يكتب فى شتى المجالات إلا تجربة السجن، ولكنه فى 7 سبتمبر انفجر وكتب وأفصح دون أى ولولة، وكان النظام وقتذاك فى أوج صعوده وقوته وجبروته كذلك، وكان خارجا للتو من تجربة الصراع الدامى على السلطة السياسية، وكان محمد نجيب قد تم استبعاده بشكل تدريجى، حتى اختفى تماما من المشهد، ولكن سيرته لم تختف، وفى ذلك اليوم كتب إحسان مقاله الأسبوعى تحت عنوان: «95 يوما فى السجن»، ورغم أنه لم يتحدث عن تفاصيل كاملة عن التجربة، فإنه فى ظل هذا الجو السياسى الحاد استطاع أن «يشى» ببعض ما كان يجيش بداخله، وهذا لم يكن بعيدًا عن التجربة، ويبدأ حديثه قائلا: «كنت فى السجن.. هذه حقيقة لم أعد أستطيع السكوت عنها بعد أن عرفها العالم الخارجى كله، ولعل أصحاب الخطابات الذين لا يزالون يسألوننى: أين كنت؟.. لعلهم يستريحون الآن، وقد قضيت فى السجن خمسة وتسعين يوما، متهمًا -أنا وزميلى إسماعيل الحبروك- بأخطر تهمة يمكن أن يتعرض لها مواطن.. تهمة (العمل على قلب نظام الحكم)، ويظهر أن الناس يعتقدون أننى من هواة الانقلابات، فهذه هى المرة الثالثة التى توجه إلىّ هذه التهمة، والمرة الثالثة التى أعانى التحقيق فيها معى، والمرة الثالثة التى تثبت براءتى»، هكذا يقدم إحسان عبد القدوس قضيته وتجربته، ليثبت أنه تم البطش به، ووجهت إليه، هو وزميله اتهامات باطلة، وعلى القارئ أن يفهم ما تقوله السطور، وما بينها، وعليه كذلك أن يصنف هذا السلوك فى كتاب الحريات السياسية، وكذلك هذه السطور تنبيه للقارئ الذى لم يعد جاهلا بالأمور لخطورة ما يحدث على الساحة، وربما تكون هذه الكلمات كافية لإعلام القارئ المعنىّ الأول والأخير برسالة إحسان، ولكنه لم يكتف فاستطرد قائلا: «ولست أنوى اليوم أن أسرد تفاصيل ووقائع الاتهام -تأذٍّ تولته نيابة أمن الدولة- ولا أن أصف أيامى فى السجن/ ولا أن أقدم لكم الباشجاويش يس، والأونباشى رزق، والعسكرى لحمين.. هذه الشخصيات الفريدة التى عشت معها ثلاثة أشهر، وثلاثة أيام، كل يوم منها لا ينسى.. وإنما نويت فقط أن أعرض تجربة نفسية عنيفة مرّت بى.. تجربة وضعت فيها وطنيتى موضع الاختبار!»، ويستطرد إحسان فى سرد تجربة مدهشة، وهى قراءته للقرآن الكريم: «فبدأت أعيش مع الأنبياء والملائكة والكفار الذين ذكرهم القرآن، واستطعت أن أرسم لكل منهم صورة فى مخيلتى، فكنت أقضى ساعة مع نوح.. ثم أستأذنه لأننى على موعد مع زكريا.. ثم أتركه لأجتمع مع أبى لهب.. وكنت أناقش كلاًّ منهم وأختلف معه فى دعوته أو أتفق...»، ويسترسل إحسان فى تجلياته هذه، ليأخذنا فى طريق آخر، ولكنه يعود بين الحين والحين ليذكرنا بأنه داخل السجن، وفى الزنزانة رقم (19) وهو لا يقبل على قراءة الصحف، بقدر ما يعيش تجربته الروحية أو الفنية، إنها قطعة أدبية فريدة، توضع بجدار فى صف الكتابات الأولى من أدب السجون، رغم أنها خالية من صورة المحقق، وشكل الزنزانة، والباشجاويش الذى يرافقه دوما للحراسة، هذا نوع مختلف من أدب السجن الذى عهدناه قبل وبعد إحسان، وجدير بنا أن نحتفى بهذا النوع من الكتابة التى تقترب من الفن الروائى البليغ.