«لا لهدم قصر الدهب» حملة توقيعات انطلقت عبر صفحة على «فيسبوك»، لوقف هدم أحد القصور التاريخية لآخر مماليك مصر، ورغم بساطة مطلبها إلا أنها تحمل الكثير من القصص والنوادر، تدفعك للذهاب إلى جزيرة الدهب التى ربما لا يعرفها كثيرون. جزيرة نهر النيل، أو «جزيرة الدهب» تلك البقعة التى لا تستطيعون الوصول إليها إلا من خلال «معدية»، تعبرون بها فرعاً صغيراً من النهر جنوب محافظة الجيزة، وسط عزلة بيئية تحيط بالمكان، ويتجاوز عدد سكانها 117 ألف نسمة. عند بداية الجزيرة أبراج سكنية مرتفعة، وعلى الجانب الآخر بيوت صغيرة، لكن اللافت للنظر أنه بجوار هذه المنازل الصغيرة قصر تاريخى، للأمير نجيب عبدالله ويعرفه سكان المنطقة ب«قصر الدهب». صاحب القصر آخر مماليك مصر المحروسة ويدعى البرنس نجيب عبدالله حسن شركس، خرج لمقابلتنا بهيئة باشاوات القرن الماضى، يرتدى خاتم العائلة الشركسية، وقميص كتان من البيج الفاتح محفور عليه الحروف الأولى من اسمه. الآن يواجه قصر آخر المماليك قرار إزالة ضمن حملة الإزالات التى انطلقت مؤخرًا لإزالة التعديات على أراضى الدولة. «روزاليوسف» التقت البرنس نجيب ليعبر عن حزنه من قرار إزالة القصر، ليقول إنه لا يعارض تنفيذ القانون، لكنه يتمنى النظر إلى القيمة التاريخية للقصر. بداية نريد أن نتعرف أكثر على البرنس «نجيب» آخر أمراء المماليك فى مصر؟ - اسمى بالكامل البرنس نجيب عبدالله حسن شركس، أنتمى إلى عائلة ذات أصول عريقة، لست من أسرة محمد على، بل من أحفاد الشراكسة، سلاطين دولة المماليك، وجدنا الكبير حسن باشا شركس، جاء إلى مصر واليًا وحاكمًا لها من الباب العالى، قبل مجيء «محمد على»، عام 1713 ترتيبه 111 فى حكام مصر، وكان وزير الوزراء فى الدولة العثمانية، والشخص الثانى بعد السلطان العثمانى، الذى كان يمثل أكبر شخص فى الدولة العثمانية، وعندما جاء أجدادى تزوجوا من حفيدات الأمراء المماليك أيضًا، وامتلكنا أطياناً كثيرة، لكن أبى لم يمتهن السياسة فكان رجلاً من الأعيان وأصحاب الإقطاعيات فقط. وما حكاية «قصر الدهب» الذى يواجه الإزالة الآن؟ - هو بيتى الذى قررت أن أقضى حياتى به منذ عودتى لمصر منذ 25 عامًا، بعدما هاجرت عائلتى بعد ثورة يوليو، وتطبيق سياسة الإصلاح الزراعى ومصادرة أرضنا، سافرنا جميعًا إلى باريس لأن والدتى فرنسية، ونجحت فى عملى بالعلاقات العامة الدولية سنوات طويلة فى أوروبا وأمريكا، وعندما أحلت للتقاعد قررت العودة لمصر، لأننى منذ أن هجرتها وعمرى 14 عامًا كان لدى حنين وشغف طويل للعودة من جديد، وبالفعل جئت واستثمرت كل أموالى أكثر من 3 ملايين دولار لبناء القصر الذى تريد الدولة هدمه الآن. القصر مبنى بطراز معمارى مميز.. ما أسباب قرار الهدم؟ - طوال عمرى مهتم بالفنون والطراز عندما عدت من الخارج كنت حريصًا على إعادة مجد العائلة وبناء قصر يمثل تحفة فنية لا مثيل لها منذ 300 سنة، وسعيد جدًا أننى وجدت هذه القطعة واشتريتها بشكل قانونى وبعقود ملكية موثقة لدى الدولة، أى أننى لست معتدياً على أراضى الدولة وفوجئت بقرار الإزالة. هل قرار الإزالة يعود لتصريحات السيسى مؤخرًا باسترداد أراضى الدولة؟ - لست رجل أعمال استولى على آلاف الأفدنة، حتى تسترد الدولة أملاكها منه، والمدهش أن قرار الإزالة تنفيذ لمحضر تم تحريره منذ 2006 وأتعجب كيف بعد 11 سنة تتذكر الحكومة تنفيذه الآن، رغم أننى ملتزم بدفع فواتير الكهرباء والضرائب العقارية، بل تبرعت للمحافظة آنذاك بقطعة أرض لبناء محول كهربائى عليها يخدم أهل الجزيرة، والمحضر ينص على إزالة 30 متراً حددهم القانون كطرح بحر، وذلك يخرب القصر ويهدم أجزاء كبيرة منه، وأنا لست ضد القانون بل أحترمه، لكن أطالب بالعدل، والحفاظ على المبنى التراثى المعمارى، بدلاًَ من تخريبه، وأتساءل: ما البديل بعد الهدم والإزالة، هل ترغب الدولة فى تحويل الجمال إلى قبح وخراب؟. هل تواصلت مع المسئولين لتوضيح حقيقة الأمر؟ - تقدمت بطلب لوزير الرى لإعادة النظر فى قرار الإزالة، والتقيت وكيل الوزارة الذى استقبلنى بترحاب شديد فى مكتبه، واكتشفت أنهم يعملون على الورق فقط ولا يعرفون موقع القصر، وهذا ما أحزننى. كيف رأيت الحملات التى تناشد بعدم هدم القصر على «فيسبوك»؟ - سعيد جدًا بانحياز المصريين ودعمهم للفن والرغبة فى الحفاظ على مبنى تراثى، وكنت أخشى النظرة السطحية للقضية، بأن يقول البعض «إحنا مالنا بقصر لأمير وغنى والناس مش لاقية تاكل»، وهو يؤكد أن الانحياز للجمال يغطى مشاعر الحقد والغل. ماذا عن علاقتك بأهل «الجزيرة»؟ - علاقة طيبة جدا، وكل أهل الجزيرة «حبايبى»، ولا أتأخر عنهم أبدًا، وبنوا القصر بأيديهم وعلى أكتافهم، ونجحت منذ انتقالى للجزيرة فى تشغيل الجميع، فلا نحتاج لأحد من خارجها، لدينا الحدادون والنجارون والمزارعون، والبحارون، وبعض أصدقائى يعيشون بالزمالك، وكانوا يسألونى ألا تخشى من الحياة وسط الفلاحين؟! ، وكان ردى أننى فى بقعة من الأمان والطمأنينة. لكن ماذا عن الصورة المُصدرة لنا عن احتقار الأمراء للفلاحين؟ - رد ضاحكًا: هل رأيتِ فى يدى «كرباج» عند زيارتى بالقصر؟، هذه صورة خاطئة صدرتها أفلام ما بعد ثورة يوليو، حتى يكره الشعب الملكية وهذه الفترة، وليس من أخلاق الأمراء احتقار الفلاحين أو غيرهم، هناك بعض العمد فى الإقطاعيات قديما كانوا يضربون الفلاحين بالكرباج وليس الأمراء، وبالمناسبة عصر الألقاب انتهى، «عايز أعرف مين فى مصر مش بيعتبر نفسه باشا»، ننادى لسائق التاكسى «يا باشا»، وأنا لو حد عايز ينادينى يا «معلم» مفيش مشكلة. بعض الكتابات التاريخية هاجمت حقبة المماليك وأنهم كانوا يستولون على خير مصر؟ - المماليك كانوا جنوداً أوفياء ومخلصين للبلد، والدليل جدى الأمير حسن شركس الذى حارب نابليون أيام الحملة الفرنسية، وكان بطلاً من الجنود الذين دافعوا عن مصر، وكان له قصر كبير فى السيدة زينب، استولى عليه نابليون بعد دخوله لمصر انتقامًا منه، ومكان القصر الآن مدرسة السنية بالسيدة زينب التى بناها على باشا مبارك كأول مدرسة للبنات آنذاك. من يزورك بالقصر؟ - لديًّ كثير من الأصدقاء والأقارب من مصر وباريس، وكثير من الشخصيات العامة من ملوك وأمراء زارونى بالقصر آخرها، حفيد الملك سلمان، وبالمناسبة الملك سلمان كان صديقى الشخصى بفرنسا أيام الشقاوة، والتواصل انقطع الآن، وأيضًا يزورنى حفيد الملك الحسن الأردنى، وممثلون، وسفراء إنجلتراوباريس وعدد من الدول الأوروبية لدى صداقات بها. كيف كانت آخر صورة لمصر لديك قبل الهجرة وما الذى اختلف بعد عودتك؟ - تغيرات هائلة حدثت أبرزها، التعداد السكانى الضخم وآثاره السلبية على كل شيء، والزحمة، والتلوث، البطالة، كثافة الفصول فى المدارس فمن 30 طالباً أصبحنا 100 بالفصل، جلست مع الدكتور بطرس بطرس غالى قبل وفاته وقال لا أحد فى مصر يتحدث عن أهم مشاكلها الكبرى وهى «التلوث والتعداد السكانى والمياه»، فالشارع المصرى يعانى من الفوضى. ماذا عن التغيرات الاجتماعية منذ الخمسينيات والستينيات والآن؟ - الستات يقمن بصرف أموالهن على الحجاب الذى غير وجه مصر، زمان كان فى شياكة بالملابس والسيدات يرتدين الفساتين والأحذية الأنيقة، وكان هناك احترام للحرية الشخصية، مصر كانت قطعة من أوروبا، أشفق على السيدات الآن، لأنهن يخفن ارتداء ملابس قصيرة أو نصف كم، خوفا من كلام الناس، فهل هذا يعنى أن جدتى عندما كانت بشعرها كانت لا تصلى وغير متدينة؟ وما نراه الآن نتاج البروباجندا الوهابية التى نقلت تقاليدها لمصر منذ السبعينيات، أتذكر أن أبى كان يسافر يتنزه مع والدتى بالأقصر ويزور الأهرامات فى أشد أيام الحر، ويرتدى بدلة كاملة، وأمى ترتدى فستاناً وشنطة وحذاء كعب عالى، فكان الجميع يمتلك ذوقًا وتقاليد فى الملابس. بعض المصريين يترحمون على الملكية هل توافق على عودتها؟ - الناس مش عايزة ترجع للملكية، بقدر رغبتها وحنينها فى العودة لهذا الزمن الجميل، من فنون وجمال، عندما كانت الشوارع نظيفة و«رايقة» والناس راقية فى تعاملاتها وتقول لبعض بونجور وشكرًا وآسف، حتى الأفلام كانت جميلة وجذابة، فهناك فرق عندما نرى «تحية كاريوكا» ترقص بإبداع، عكس ما نشاهد اليوم من رقص مبتذل وهو مجرد «هز ياوز». هل الوهابية حولت بعض المصريين لمتطرفين؟ - الوهابية والتطرف منتشران بالعالم أجمع، لكن المصرى تغيرت طبيعته بفعل ظروف كثيرة منها الضغط الاقتصادى والزحام، غياب التعليم الجيد والفنون، لكن متفائل وهناك أمل لأن المصريين معروفون بثقافة الحمد والرضا والتسامح فى أصعب الظروف. ما رأيك فى الرئيس السيسي؟ - قائد كبير بحجم دولة عظيمة، يجلس على عرشها بقوة وبحب الجماهير، يذكرنى بالخديوى إسماعيل عندما افتتح قناة السويس، ونجح فى استعادة المكانة الدولية لمصر، والسيسى يدفع ذنوب غيره من سنوات طويلة تراكمت فيها المشاكل، فخطوة تعويم الجنيه وضرورتها للإصلاح الاقتصادى ظل مبارك يؤجلها 30 عاماً، خوفًا من الاحتجاج الشعبى ضده، ومع ذلك قامت الثورة ضده. كيف رأيت حكم الإخوان لمصر؟ - أتذكر مخاوف الكثيرين آنذاك ورغبتهم فى الهجرة، إلا أننى رفضت هذه الفكرة تماما، لم أخش على نفسى منهم، لأننى رجل يلتزم بالقانون ليس لديه مشكلة أو مصلحة مع أى نظام يريد العيش فى هدوء وسلام، وعندما قامت 30 يونيو، والناس خائفة من تطور الأحداث وكانت تجمع أموالها وتسافر، كنت عائدًا من أوروبا يوم 4 يوليو، وأخشى غلق المطار، وترك رجالى بالقصر بمفردهم. وماذا عن إرهابهم؟ - لا أتحدث فى السياسة، لكن الإخوان جماعة متأصلة فى نجوع مصر وقراها منذ أيام الملك فاروق، وحسن البنا، خلطوا الدين بالسياسة، وكانت لديهم فرصة فى تأسيس حزب سياسى ديمقراطى ولكن تحولوا للتطرف مثل ناس كثيرة بالعالم. إذا لم تصل لحل مع الدولة بخصوص هدم القصر .. هل تترك مصر؟ - لو «هيسدوا نفسى» سأسافر لأوروبا أقضى سنين عمرى هناك، «مش عايز اتبهدل أو الدخول فى مشكلات مع أحد، أنا رجعت حبًا فى مصر ونيلها وشعبها، واضح أن مكتوب علينا كعيلة شركس حديثا وقديما خراب بيوتنا.