مُرّ الكلام زى الحسام يقطع مكان ما يمر/ أما المديح سهل ومريح يخدع صحيح ويغٌر.. كلمات تلخص حياة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، أو الفاجومى اللقب الذى افتخر به جزاء على مر الكلام الذى كان بالفعل مرّا كالعلقم ليس على الشاعر فحسب، بل على السلطة التى لم تسلم من موهبته. عوامل كثيرة تضافرت لصناعة حالة أحمد فؤاد نجم الإنسانية والشعرية، اليتم فى بواكير الطفولة، جدران الملجأ فى الشرقية، النظر فى مأساته، ومآسى أقرانه اليتامى، ومنهم عبدالحليم حافظ، كان بالضرورة سيجعل روحه مرهفة.. وشاعرة. فى فترة تفتح الوعي، حيث الموهبة الشعرية الخصبة، تعيش فى زمن جيفارا ومانديلا، وثورة يوليو مصريًا، وحركات التحرر من الاستعمار عربيًا، امتزج الشعر بالطموح الكبير.. المستقبل للشعوب، لا يستعبد إنسان لقد خلقنا الله أحرارًا. ثم جاءت مرحلة انهيار الأحلام، فإذا بالغضب ينشب فى سطور القصائد، وتصبح المفردات ضربات سوط تهوى على ظهر السلطات الديكتاتورية، التى صنفته فى خانة «قليل الأدب».. أو ربما خادش للحياء على غرار وصف برلمانى ما لأدب نجيب محفوظ. كان ضمن 17 ابنًا لم يبق منهم سوي 5 والسادس فقدته الأسرة ولم يره، وخرج من الملجأ وعمره 17عامًا وعاد لقريته راعيًا للغنم وسرعان ما هرب منها لجحيم آخر فجاء للقاهرة عند أخيه الذى لم يمهله كثيرًا وطرده فعاد لقريته. ليس كل من ذاق مرارة السجن فاجومي، فياما فى الحبس مظاليم، لكن مسجون مظلوم وصاحب قولة حق أيضًا، ووطنى يساعد الفدائيين ضد الإنجليز وثورى اشترك فى المظاهرات التى اجتاحت مصر1946، وشكلت منها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال. لم تكتمل الشخصية الوطنية عند هذا الحد فذاق التعذيب ورأى رفاقه المسجونين «يروحون فى شربة مياه» ففى وقت الصدام بين السلطة واليسار فى مصر 1959، اعتقل على إثر أحداث العراق مع 4 عمال متهمين بالتحريض وضربوا بقسوة حتى مات أحدهم. وظلت آثار الضرب واضحة على جسم «نجم» حتى وفاته، ووضع فى السجن 33 شهرًا فى ذلك الوقت. بعد خروجه من السجن عُين موظفًا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، لكنه سُرعان ما قدم استقالته وتم اعتماده شاعرًا فى الإذاعة المصرية وأقام فى غرفة على سطح أحد البيوت فى حى بولاق الدكرور بعد ذلك تعرف على الشيخ إمام فى حارة خوش قدم، وشكلا ثنائيا معروفا وأصبحت الحارة كعبة يحج إليها المثقفون. ويقول نجم عن رفيقه إمام إنه أول موسيقى يدخل المُعتقل بسبب موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم.. وقد انفصل الثنائى بعد فترة واتهم الشيخ إمام قرينه أحمد فؤاد بأنه كان يحب الزعامة وفرض الرأى وأنه حصد الشهرة بفضله ولولاه ما كان نجم. لم ينضم نجم لأحزاب سياسية إلا في 2010 وقتما انضم لحزب الوفد، لكن سرعان ما قدم استقالته منه وعاد بعد ذلك بعد ثورة يناير ليؤسس حزب المصريين الأحرار مع رجل الأعمال نجيب ساويرس وهو ما تحفظ عليه الكثير من أصدقاء نجم ومحبيه باعتباره ظل طوال حياته مناضلاً ضد الرأسمالية ومحاربًا لها ومُساندًا للفقراء حتى اتخذته المجموعة العربية فى صندوق مكافحة الفقر سفيرًا للفقراء. طوال 84 عامًا هى عُمر الفاجومى عاش منها 17 عامًا فى المعتقل لم يؤيد رئيسًا على طول الخط بل أيد وعارض ودفع ثمن مواقفه. أيد عبدالناصر وعارضه واعتبره المتسبب فى نكسة 67 ودخل السجن فى عهده إلا أنه حينما مات قال «لما مات عبدالناصر بكته أم نجم ونجم أيضًا» عبد الناصر كان ضمير الشعب المصري، كان فيه الجدعنة، كنا نرفض سياساته، لذلك اعتقلنا، ولكنه لم يتراجع ودخل فى معارك مع الاستعمار والأمريكان بالذات وهذا أكسبه شعبية طاغية، لذلك كتبت قال فيه ناعيًا: السكة مفروشة تيجان الفل والنرجس/ والقبة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس/ والمشربية عرايس بتبكى والبكا مشروع/ من دا اللى نايم وساكت/ والسكات مسموع/ سيدنا الحسين؟/ ولا صلاح الدين ولا النبي؟/ ولا الإمام؟/ دستور يا حراس المقام وإلا الكلام بالشكل ده ممنوع؟ ورغم هجومه على عبدالناصر ودخول المعتقل فى عهده فإنه قال إنه سامحه إلا أنه رفض أن يُسامح السادات الذى دخل أيضًا المعتقل فى عهده عدة مرات وقال «غفرت النكسة لعبدالناصر، ولكن لا أستطيع أن أغفر للسادات، كنت مع اغتيال السادات للأسف الشديد لأنه وصل لدرجة أنه كان يخرج فى الراديو والتليفزيون ويحرض الشعب المصرى على بعضه، ويقول اقتلوهم حيث ثقفتموهم». اعتبر نفسه أحد من قرأوا سياسة السادات مبكرًا فحينما بدأت تلميحات السادات عن السلام مع إسرائيل خرج نجم ليقول: «شرفت يا نيكسون بابا/ يا بتاع الووتر جيت/ عملولك قيمة وسيما/ سلاطين الفول والزيت/ فرشولك أوسع سكة/ من رأس التين على مكة/ وهناك تنزل على عكا/ ويقولوا عليك حجيت/ جواسيسك يوم تشريفك/ عملولك زفه وزار/ تتقصع فيه المومس/ والقارح والمندار». أعلن بذلك الفاجومى رفضه لكل محاولات التقارب مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ولسياسة السادات التى تميل للانفتاح وباعتراضه بقصيدة نيكسون بابا وجهت له التهمة الدوارة إهانة الرئيس وواجه بسببها السجن. وعادت التهم الدوارة تبحث عنه مرة أخرى بعد القصيدة التى هاجم فيها السادات وقال فيها: أوبه المجنون أبوبرقوقة/ بزبيبة غش وملزوقة/ عيرة وبرانى وملزوقة/ نصاب ومنافق وحرامي/ ودماغه مناطق موبوءة/ والنكتة كمان إنه حلنجي/ وعامل لى فكاكة وحندوقة/ مع إن الجحش أفهم منه/ والعالم فاهمة ومفلوقة. صدر الحكم ضده بالسجن سنة مع الشغل والنفاذ على نجم الذى هرب من المحاكمة لمدة ثلاث سنوات ثم ألقى القبض عليه 1981، وحبس لإهانته رئيس الجمهورية مرة أخرى عقابا على قصيدة «أوأه». بعد كل ذلك ورغم دخوله السجن كثيرًا فى عهد السادات فإنه لم يتركه وهجاه بالقصيدة الأشهر شحاتة المعسل: «هنا شقلبان محطة إذاعة حلاوة زمان/ يسر الإذاعة/ ومايسركوش/ بهذى المناسبة/ وما بندعيكوش/ نقدم إليكم/ ولاتقرفوش/ شحاتة المعسل بدون الرتوش/ شبندر سماسرة بلاد العمار/ معمر جراسن للعب القمار/ وخارب مزارع/ وتاجر خضار/ وعقبال أملتك/ أمير الجيوش/ ماتقدرش تنكر/ تقول ما أعرفوش. لم يسلم منه مبارك رغم أنه لم يُسجن فى عهده فقال عنه: «يا شعبى حبيبي، يا روحى يا بيبي/ يا حاطك فى جيبي، يا ابن الحلال/ يا شعبى يا شاطر/ يا جابر خواطر/ يا ساكن مقابر وصابر وعال/ يا واكل سمومك/ يا بايع هدومك/ يا حامل همومك/ وشايل جبال/ يا شعبى اللى نايم/ وسارح وهايم/ وفى الفقر عايم/ وحاله ده حال/ أحبك محشش/ مفرفش مطنش/ ودايخ مدرو/ واخر انسطال/ أحبك مكبر/ دماغك مخدر/ ممشى امورك كده باتكال/ وأحب اللى ينصب/ وأحب اللى يكدب/ وأحب اللى ينهب ويسرق تلال. والغريب أن قصائده «المحبوسة» أى التى كتبها فى السجن، هى الأكثر شهرة على الإطلاق، فمن الذى يستطيع أن يسجن كلمة؟.. الكلمة منتهى الحرية.. لذلك كان ديوانه «صور من الحياة والسجن» الذى كتبه فى السجن هو السبب فى شهرته قبل أن يعرفه الناس، وبعد تكرار اعتقاله فى عصرى جمال عبدالناصر وأنور السادات، لم يتوقف عن الكتابة التى كانت حياته. كانت قصائده ملاذًا لتنفيس المصريين عن أنفسهم فى أحلك لحظات الطغيان، فكما حضرت قصائده فى هجاء الرؤساء حضرت فى مشهدى يناير ويونيو. لم يعرف «نجم» الشخصيات المقدسة بل كانت كلها خاضعة لشعره فمن هجا الرؤساء لن يبخل بشعره على نجوم مجتمع؟.. لم يرحم أحدا بل كان مهاجما فى كل الساحات وكان حضوره طاغيًا لا يمكن إنكاره، لكنه فى الوقت ذاته يُعطى كل ذى حقٍ حقه. كان مولعًا بمفهوم الثورة والثوار، مدحهم فى كل بقاع الأرض من مشرقها لمغربها، اعتبر جيفارا قدوة ومثلاً للثورة بمفهومها الشامل: «جيفارا مات/ آخر خبر ف الراديوهات/ وف الكنايس/والجوامع/ وف الحواري/ والشوارع/ وع القهاوى وع البارات/ جيفارا مات/ واتمد حبل الدردشة والتعليقات/ مات المناضل المثال/ يا ميت خسارة ع الرجال. دافع عن الثائرات وآمن بنضالهن ونالت المسجونات فى العهد الناصرى نصيبًا كبيرًا من شعره النادر فى المديح وكان أولهم شاهندة مقلد، فبعد حادث كمشيش، الذى راح ضحيته صلاح حسين زوج الراحلة شاهندة مقلد، إثر أزمة اندلعت بين الفلاحين وكبار ملاك الأراضى هناك، وانحازت الدولة فى ذلك الوقت للإقطاعيين، تحولت شاهندة إلى أيقونة ثورية فى تلك القرية الصغيرة، حيث استطاعت بقوتها أن توقف موكب عبدالناصر عندما كان يستضيف الثائر جيفارا فى كمشيش. كتب نجم إلى ما أسماهن «الرفيقات المعتقلات فى سجن القناطر»، بعنوان «النيل عطشان يا صبايا». وتقول القصيدة التى غناها رفيقه الشيخ إمام: «يا شاهندة وخبرينا/ يا أم الصوت الحزين/ يا أم العيون جناين/ يرمح فيها الهجين/ إيش حال سجن القناطر/ إيش حال السجانين/ محابيس كلك يا بهية/ وهدومك زنازين/ والغيطان الوسيعة/ ضاقت ع الفلاحين/ والدخان فى المداخن/ لون هم الشغالين/ يا بلدنا يا حاجة عجيبة/ يا أم المستعجبين/ اضحك من همى عليكي/ وألا أبكى مع الباكيين». مجموعته الشعرية «الفوازير»، كانت من أكثر القصائد جدلا، وتناولت كل قصيدة منها السخرية من شخصية عامة، مثل أم كلثوم وعبدالحليم ومحمد حسنين هيكل ويوسف السباعى وصلاح جاهين وإحسان عبد القدوس، إلا أنه تراجع عن نقده اللاذع قبل وفاته، لكن تبقى فوازيره تحمل الكثير من الحس الفكاهى ورسخت فكرة أنه لا أحد فوق النقد وأن الأدب لا حدود له فقال لصلاح جاهين: «شاعر بيتخن من بوزه/ ممكن تخوف بيه عيالك/ نازل يقزقز أزا أوزو/ حتتك يمينك وشمالك/ بقى مليونير، واللى يعوزه/ يلقاه فى إيده، عقبالك/ وخلى بالك من زوزو». وقال فى أم كلثوم: «يا ولية، عيب اختشي/ يا شبه إيد الهون/ ده أنتى اللى زيك مشي/ يا مرضعة قلاوون/ مدحتى عشرين ملك/ وميت وزير ورئيس/ مروان، وعبد الملك/ والمفتري، وعتريس/ بتغنى بالزمبلك؟/ ولا انتى صوت إبليس/ من أول المبتدأ/ حتى نهاية الكون؟ وقال لعبد الحليم حافظ: «لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت/ الليلة هيتنهد ويغنى ويموت/ يشيلوه قال على لندن/ علشان جده هناك/ من بعد ما يتلايم/ على دخل الشباك/ ويهرب أموالك/ ويقولك أهواك/ يا شعب يا متلوع/ ع الهدمة وع القوت». بجانب الحس الفكاهى فى الأشعار كان نجم بطبيعته فكاهيًا، وشخصيته تجسيدًا حيًا للمصرى ابن النكتة، ففى إحدى المرات التى كان هاربًا فيها من السجن تحكى عنها ابنته نوارة قائلة «أبويا قعد فترة هربان وأنا صغيرة، رجعت من العراق كان هربان، عم محمد على جه ياخدنى عشان أشوفه فى المكان اللى هو هربان فيه، فوجدته ساكن فى شقة بمصر الجديدة، مربى شعره وشنبه، ومسمى نفسه مجدي». وتتابع: دخلت لقيته ناقل حوش قدم فى مصر الجديدة، ولا عشرين بنى آدم من صحابه قاعدين، والله بدون مبالغة، اللى بياكل واللى نايم واللى بيتفرج على التلفزيون، وكلهم يقولوا له يا مجدى ويغمزوا ويروحوا مبتسمين بخبث كده كلهم، المفاجأة بقى إن البواب نفسه كان بيقول له يا مجدى ويغمز ويبتسم». انتقد كثيرين إلا أنه كان دائما ما يقول أنه ليس ملاكًا وأنه يخطئ ويصيب ويقع فى المحظور فاعترف أنه وقع بخطيئة الشهوة وخان زوجته أكثر من مرة بسبب معجبة روسية. وأكد أنه أحب الحشيش جدًا لكن الأصلى فقط وابتعد عنه بسبب غش التجار له وليس لأنه مضر، واعتبر أن الفياجرا والموبايل أعظم اختراعات العالم، باعتبار أن الفياجرا ساعدت أنصاف الرجال أن يصبحوا رجالًا والموبايل كان وسيلة خلع مبارك. نهاية الثائر الصادق كان لابد أن تكون ثورية فآخر أمسية أحياها كانت فى الأردن تضامنًا مع الشعب الفلسطينى المُناضل، وبعدها عاد للقاهرة ومات فيها وشُيعت جنازته من مسجد الحسين.. فمن مسجد الثائر شيع الثائر.. قبل ثلاث سنين.