محمد خان.. كثيرون قد لا يعرفون أن «ميمى» هو الاسم الذى كان يناديه به الأصدقاء والمقربون، فيضحك «محمد خان» ضحكته النابعة من قلب مفعم بالطيبة الذى يظهر فى أفلامه التى تتميز بخاصية المتعة السينمائية عبر نفس الخلطة الساحرة التى تمزج الواقعية بالرومانسية ومحاولة إيجاد مساحة للحب والحلم رغم الواقع الصعب.. محمد خان، يلتقط الشخصية التى غالباً ما تستوقفه من الشارع ليعيد صياغتها وتطويرها فى مخيلته، محملاً إياها إسقاطات وإيحاءات وأبعادًا إنسانية واجتماعية عميقة، وإضافة الرؤية والفكر الخاص به ويساعده فى ذلك عشقه للأماكن الطبيعية.. وجسد عشقه لشوارع القاهرة من خلال متابعته لمغامرات بطله الصحفى فى أول أفلامه «ضربة شمس»، لدرجة أنه أصر على تصوير مشهد كامل ومعقد فى مطعم قريب من سينما مترو، بالرغم من استعداد المنتج لبناء نفس المقهى فى الاستوديو «قلت لا سأصور هناك حيث كنت أذهب وأتناول العشاء مع والدى ونذهب إلى السينما، لقد عنى ذلك شيئا مهمًا بالنسبة لى أنا أحب المدينة، لقد ولدت ونشأت فى وسط المدينة، وأحب أن أصور فى الأماكن التى أتذكرها، أو التى كنت قد زرتها». وقد ولد خان فى القاهرة لأب باكستانى بريطانى يعمل كتاجر شاى وأم إيطالية الأصل ومصرية النشأة وليس كما هو متداول وشائع أنه من أصل مصرى . يؤكد هذا عندما قال خان: «أشكر أبى الذى لم يحاول أن يعلمنى حتى لغته. وأشكر أمى الإيطالية الأصل وكانت تحمل الجنسية المصرية قبل زواجها من والدى... وكنت ابنهما الوحيد. حببونى فى بلدى «مصر» من الرضاعة». كانوا يصدّقوننى فى مذكرات خان التى كان يكتبها من حين لآخر الكثير من تفاصيل حياته الثرية التى عاشها: «أنا فردٌ وحيد فى العائلة. لا أشقاء لى. مكثتُ فى حى السكاكينى حتى سنّ السابعة أو الثامنة. فى حقبة الخمسينيات، قررنا الانتقال إلى مكان آخر. وصلنا إلى أرض شريف التى تقع فى وسط البلاد إلى جانب العتبة. كنتُ هناك أمام احتمالين لمشاهدة الأفلام: «الصيفى»، حيث كنتُ أرى رءوساً كثيرة من غير أن أرى الشاشة، وسينما «برادى». كان يوم الاثنين موعداً مع فيلمين جديدين، أيّ أربع دفعات من الأفلام فى الشهر الواحد. كما شاهدتُ أفلاماً خارج الصيفى أيضاً. 4 أو 5 حداً أدنى أسبوعياً. حينها كنتُ فى الثامنة، أو تقريباً فى العاشرة. السينما أمرٌ شبيه بالتدخين. طالما هربتُ من المدرسة! صودف، فى مرحلة التعليم الثانوى، أنّ مدرّس اللغة الفرنسية كان عاشقاً للسينما، حدّ أنه منحنى الإذن مراراً للهروب من حصّته التى تسبق استراحة الظهيرة، من أجل مشاهدة فيلم! كنتُ أشاهد الفيلم وأهرع إليه أخبره ما جرى. أما فى صفّ «الإنشاء الشفهى»، فطالما ألّفت لزملائى قصصاً من وحى الخيال على أنها أفلام شاهدتها. كنت أشاهد الأفلام الهوليوودية بطبيعة الحال، والإنجليزية، والمصرية فى أحيان. ثم رحتُ أهتمّ بالسينما الإيطالية. أضف أنّ السينما الفرنسية كانت أيضاً حاضرة. مصر آنذاك، كانت مجالاً رحباً للسينما المتخصصة. السينما كانت «الإنترتينمنت» الوحيد. لا التليفزيون ولا الراديو، ولا أى شيء آخر. سافرتُ إلى لندن فى سنّ السابعة عشرة. هناك، تغيّر كلّ شيء. اكتشفتُ السينما من غير زاوية. حدث ذلك بين العامين 1959 و1960، قبل «الموجة الجديدة» فى فرنسا. تبدّل فى تلك الحقبة مفهوم السينما. شاهدتُ أنطونيونى، وتروفو، وغودار، وشابرول، وملفيل، وساتياجيت راى. وجدتُ أنّ ثمة شيئاً ما يُسمّى الإخراج. لم أعرف قبل ذلك سوى التمثيل. افتقدتُ الوعى الكافى لأدرك ماهية الإخراج. حتى المجلات المتخصصة فى مصر، كانت تتطرّق للفنانين والفنانات.سافرتُ بغرض دراسة الهندسة. ذات مرّة، سألتُ شاباً سريلانكياً يشاركنى المنزل: «ماذا تفعل؟». أجابنى: «أدرسُ السينما». «أدرس السينما» هذه، غيَّرت حياتي! اكتشفت أنّه ثمة مكان تُدرَّس فيه السينما. أعنى هنا، «لندن سكول أوف فيلم تكنيك». كانت المدرسة الوحيدة فى إنجلترا، عبارة عن شقتين فى سوق خضر. «خلى بالك إحنا اللى ينسانا منفتكرهوش أبدًا». «فتاة المصنع» لا يسعك وأنت تشاهد فيلمًا ل(محمد خان) إلا أن تكون على يقين من أنه أحب أنثى جعلته يعلم خبايا النساء ولا يستبعد أن تكون والدته ! «لطالما اتخذ من صفوف النساء وطنًا له». شخصية الأنثى فى أعمال «خان» ذات طابع مميز، تجمع بين الواقع والطموح، بين الحب والانتقام، وتتسم طريقته بالسهل الممتنع، فى نظرة تفصيلية لبطلات الراحل محمد خان، نجدهن شخصيات بسيطة، لا يملكن تعقيدات الصراعات الداخلية. كل ما يأملنه فى الحياة هو العيش بسلام مع الحبيب المنتظر. خاضت بطلات خان رحلة البحث عن الحب وسط صراعات مجتمعية، استطاع بعضهن التمرد عليها، وفشل البعض الآخر فى ذلك. معا سنتعرف على بطلات أشهر أفلامه اللاتى ناضلن من أجل حقهن فى الحب والحياة. ودائمًا ما تجد خان يربط ما بين لحظات الميلاد وبدايات بطلاته.. كمصدر قوة تستمد منه البطلة قوتها.. وذلك ما حدث للسيدة «فى محطة مصر» وجارة «هيام».. فالميلاد فى حد ذاته هو خطوة نحو المجهول.. كجنين يخطو أولى خطواته نحو الحياة.. تمامًا مثل بطلاته، يرتدين الفساتين عند مقابلة أحبائهن.. تطير أطراف «جونلاتهن».. وتجد دائمًا ذلك الفستان الأبيض.. إما عروسان يلحقان بقطارهما ويسبقان «نجوى» حين يساعدها «يحيى» أخيرًا على اللحاق بقطارها الذى كان دائمًا ما يفوتها «فى شقة مصر الجديدة».. أو ذلك الفستان الأبيض الذى ارتدته «هيام» ليجعلها تكاد تطير «فتاة المصنع». ما يجعل شخصيات خان أقرب ما تكون إلى الواقع، هو الألم المجاور للحظات السعادة.. ما يجعلك بالتحديد تردد بعد كل لحظة نشوة مفرحة.. «خير اللهم اجعله خير!» واستطاع المخرج محمد خان أن يعبر عن معاناة الزوجة والمطلقة والأرملة والخادمة وفتاة المصنع وعاملات محلات وسط المدينة والفتاة القادمة من الأقاليم إلى المدينة. «ليس معيبا أن نحب النساء، هذا ما دفعنى للحديث عن همومهن الداخلية بهدوء فى أفلامى، أروى التجربة الإنسانية النسائية بسلاسة وبساطة وانسيابية فى أفلام مثل «أحلام هند وكاميليا» و«سوبر ماركت» و«موعد على العشاء» و«شقة مصر الجديدة» و«فتاة المصنع»، خان عبر عن المرأة بكل تفاصيلها وفئاتها من الوديعة للرومانسية للمتمردة للريفية والمتحررة وغيرهن، بالإضافة لأن الست كانت أصل الحدوتة ومش على هامشها». يعلم خان جيدًا أهمية الأيادى والأحضان عندما ترى «عايدة» أم «هيام» وهى تضم زوجها معتذرة، فيقبل اعتذارها فى صمت مقربًا إياها أكثر فى دفء.. ونظرات الأعين والكلمات غير المنطوقة وعض الشفاه.. فينثرها كغبار جنيات سحرى فى مشاهده.. فجعل من أفلامه.. ساعتين من الزمن قادرتين على استيعاب حيوات العديد من النساء.. يعلم جيدًا أن مع كل تجربة هناك شئ لا يعود.. كإيشارب «هيام» الذى تتركه لتقوم برقصة وداع ل«هيام» القديمة.. وإيشارب «نجوى» الذى يفارق يدها من نافذة القطار.. ذهاب بلا عودة علاقة بالحرية.. فلطالما ترك لك محمد خان الحرية فى التخيل.. وأن يطلق لك العنان لتطلقه. وكان شديد الوضوح فى المشهد الختامى ل«فتاة المصنع» وهيام ترقص بقوة وتحد لا رقصة طير مذبوح، هذه القوة الكامنة فى روح نساء خان نراها تنطلق فى نظرات «سعاد حسنى» «فيلم موعد على العشاء» وثباتها وهى تتناول وجبة قاتلة بعدما وضعت فيها السم لطليقها «حسين فهمى»، هزمت غروره وتجبره ولم تتزحزح لحظة عن قرارها وإن كان سينهى حياته. إن نموذج المرأة الذى قدمه خان فى أفلامه كان مهما ومحركا للأحداث، خاصة فى فيلم «خرج ولم يعد»، وفيلم «مشوار عمر». كما أن خان كان يعمل مع مونتيرة واحدة هى نادية شكرى، حيث كان يؤمن بقدرات المرأة ومهاراتها، واتضح ذلك من شراكته مع زوجته الكاتبة وسام سليمان فى أكثر من عمل. وكان خان أول من تنبأ بالتفاوت الطبقى وتقزّم الطبقة الوسطى فى «سوبر ماركت». الطبقة المتوسطة التى تآكلت مع سياسات الانفتاح الاقتصادى، فكأن خان يصرخ متمردا عليها من خلال عبارة ممدوح عبدالعليم إلى الطبيب الانفتاحى الذى حول مهنة الرحمة إلى استثمار لا يقدر عليه إلا السادة من طبقة ال %2. انحياز خان للمستضعفين ممن سحقتهم الحياة لم يكن فقط من خلال الطبقات المهمشة، ففى الحريف سنجد «فارس» لاعب الكرة الشغوف بحب الساحرة المستديرة، لم يحالفه الحظ ليكون ضمن نادٍ مصنف لكنه لا يتخلى عن ولعه حتى وإن أدى به هذا الولع لخسارة زوجته وطفله، وحينما يذعن لقوانين الحياة ومنطقها لا يستسلم بسهولة وكان ألق النصر فى مباراة اعتزاله تحت الكوبرى بمثابة فوز على الحياة نفسها التى عاندته طويلا لكنه ابتسم لها ساخرا وهو يهزم اللاعب الشاب المتغطرس، وكأنه يعلنها عالية مدوية «أنا ملك الشارع والكرة الشراب.. أنا الحريف حتى من دون مربع أخضر». يقول خان: «عشقى لمدينة القاهرة يرجع إلى أن حياتى كلها قضيتها فى القاهرة، ولم يكن لدينا سيارة، فكنت أذهب إلى مدرستى فى حدائق القبة بالأتوبيس، وكان أبى يأخذنى كل يوم جمعة لحلاقة شعرى ثم نذهب لمشاهدة فيلم فى سينما مترو بالذات، وبعدها كان يأخذنى لتناول الغداء فى أحد المحال ثم نعبر الشارع لكى نشترى من محل الأمريكين قطعة من الكيك لكى نأخذها لأمى، فكما ترون، حياتى كلها بمدينة القاهرة». الخلفية السياسية فى «زوجة رجل المهم» والذى يهديه إلى روح حليم كما أهدى فتاة المصنع لسعاد حسنى، سوف نجد أمرين مهمين الأول هو تلك المسحة الرومانسية الشائعة وعلى نحو مباشر فى الفيلمين رغم اختلاف العالمين، فرجل مهم يحمل اسم الرجل الذى يعبر عن الخلفية السياسية فى 18 و19 يناير فى مصر، والتى كانت تعبيرا بدورها عن واقع سياسى يتمثل فى القهر والفقر ومع ذلك فقد كان هذا الفيلم عن المرأة أكثر منه عن الرجل الذى يكشف عن واقع من القهر السياسى أكثر منه قهرا ذكوريا كسمة بعض أفلام أخرى لمثقفين اخرين كما أسلفنا. و«فتاة المصنع» أيضا عن المرأة فى خلفية سياسية مرتبكة يبحث فيها المواطن رجل وامرأة عن العيش والحرية والكرامة الاجتماعية وهو شعار 25 يناير الذى يتجلى فى مظاهرة وحيدة داخل السياق، بينما نرى بطلات الفيلم مشغولات بمشاهدة فاترينة لملابس داخلية حريمى ليصبح حلمهن البسيط جدا أصغر بكثير من واقع المظاهرات المعبرة عن ثورة تم إجهاضها فيما بعد لتعود ريما لعادتها القديمة.وعلى الجانب الآخر يشترك الفيلمان فى مساحة الحلم الرومانسى البحت والمجهض فى الحالتين، ففى الأول يصبح موت حليم رمزا لانكسار حلم لجيل بأكمله حين تودع جنازته معها أياماً خوالى جميلة بينما يظلل صوت سعاد حسنى فى الثانى أحلام بطلاته المترعة بالشقاوة والبحث عن الآخر فى سن الواحدة والعشرين، حيث حلم السندريلا المتوهج لدى كل فتاة بفتى الأحلام كما فى الروايات الرومانسية الكلاسيكية أو حتى فى الأساطير. أما فيلم «أيام السادات» فواحد من الأعمال البارزة التى قدمها خان فى مسيرته، وقدم خلاله، عبر الممثل العملاق أحمد زكى، وثيقة سينمائية تجسد أهم الملامح الرئيسية فى حياة السادات، منذ بداية اشتغاله بالسياسة، مرورا بوصوله لمقعد الرئاسة، وانتهاء باغتياله فى 6 أكتوبر 1981. وأثبت خان، مع كاتب الفيلم رءوف توفيق، أن الحدث كان «انتفاضة شعبية» ولم يكن «انتفاضة حرامية» كما كان السادات يكرر دائما. ووقتها انتصر على رغبة جيهان السادات وعند أحمد زكى وأصر على أنها انتفاضة شعبية. فيلم «أحلام هند وكاميليا» فيلم جمع بين المخرج محمد خان والفنان محمد كامل عام 1988 اللذين توفتهما المنية اليوم الثلاثاء 26 يوليو 2016 الماضى .ومحمد كامل فنان موهوب شامل يستطيع أن يؤدى الأدوار المركبة ليختاره المخرج محمد خان ليلعب دور «سيد» أخو «كامليا» التى تجسدها الفنان نجلاء فتحى، فى أحداث فيلم «أحلام هند وكامليا» الذى أخرجه وساهم فى كتابة قصته محمد خان. ويطرح محمد خان من خلاله رؤية فنية اجتماعية صادقة وواقعية جداً لمدينة القاهرة، وليكشف فيه عن حياة الناس البسطاء والمسحوقين وصراعهم من أجل حياة أفضل تحت وطأة مجتمع المدينة الكبيرة. محمد خان كان يعمل على فيلمه الذى لم يشأ القدر لاستكماله وهو «بنات روزا» وكان أيضا بطولة نسائية ويناقش قضايا النساء. كانت آخر كلمات «ميمى» التى كتبها فى مفكرته: «كلما اقترب قطار العمر من المحطة الأخيرة، كلما ظهرت معالم التوجسات وإعادة الحسابات وتحولت الرحلة إلى رحلة ذكريات مارة بأحداث ولحظات وشخصيات وتجارب وتساؤلات، وفى حالتى بالطبع تتطرق لأفلام ربما فى حاجة إلى إعادة تقييمها على الرغم من أنها أصبحت بمثابة هويتى الشخصية». تزوج محمد خان عدة مرات، الأولى من سيدة خارج الوسط الفنى وأنجب ابنته المخرجة السينمائية نادين خان مخرجة فيلم «هرج ومرج» الذى نال جوائز فى مهرجانات دولية، ثم من نهلة سلامة، وأخيرًا من المؤلفة وسام سليمان كاتبة السيناريو لفيلميه «بنات وسط البلد» و«فى شقة مصر الجديدة».