عشق السينما هو سر محمد خان، الحياة كلها على بعضها بالنسبة له فيلم كبير : فيلم يشاهده، وفيلم يخرجه، وفيلم يعيشه، وفيلم يتأثر به، وفيلم يضحكه، وفيلم يبكيه، وفيلم يعلّق عليه، الحياة بالنسبة له عرض سينمائى مستمر وملئ بالأحداث والتفاصيل، الدنيا عنده شاشة كبيرة يقدم فيها عالمه الخاص، عودة المخرج الذى أصبح من أبرز فنانى تيار اصطلح على تسميته «الواقعية الجديدة» من أبرز مباهج موسم 2014القليلة ، أتحدث تحديدا عن فيلمه «فتاة المصنع» الذى كتبته وسام سليمان، والذى تم إنتاجه فى ظروف شديدة الصعوبة، ثلاث سنوات فى الكتابة والبحث عن تمويل ثم فى التنفيذ، جاء الفيلم فى مستوى توقعاتنا، عمل مهم يقدم قصيدة حب لأحلام البنات، ويحكى قصة فتاة لديها كبرياء وقوة داخلية هائلة، قادرة على الحلم والحب، ولكنها أيضا قادرة على أن تقلب الصفحة، وتبتسم للحياة رغم تجربتها الإنسانية المؤلمة. مشكلة هيام (ياسمين رئيس) المغرمة بأغنيات سعاد حسنى، فى أنها سارت وراء قلبها حتى النهاية، بحثت عن فارسها فى صورة المهندس صلاح (هانى عادل) الذى تسلم العمل فى مصنع الملابس الذى تعمل فيه، حلمت بأن يهتم بها، قامت برعايته عندما دخل المستشفى، ولكن أخته وأمه كانتا لها بالمرصاد، كل ما حدث بينه وبينها مجرد قبلة فى مطبخ منزله، ولكن هيام ستتعرض لمأساة سواء فى المصنع أو فى البيت، ستتهم بأنها حملت من صلاح، هو نفسه سينضم إلى الجميع فى إدانتها، ستقابلهم بالصمت، سيكتشفون فى النهاية براءة هيام ولكن بعد فاصل مفزع من الإهانة والضرب وحلق شعرها، فى يوم زواج المهندس صلاح، تدخل هيام المكان لتحقق نذرها، بأن ترقص فى فرح حبيبها السابق، تلك هى الوسيلة الوحيدة الفريدة التى اختارتها هيام لكى تتغلب على أحزانها، لكى تتحرر، وتبدأ من جديد. هذه هى الخطوط العامة للحدوتة، ولكن من قال إن سينما محمد خان مجرد خطوط عامة؟ إنها عشرات التفاصيل والشخصيات، هناك حضور هائل للمرأة فى كل مكان، وهناك نماذج مدهشة لا تنسى مثل عيدة (سلوى خطاب) أم هيام التى تزوجت بعد وفاة والدها، ومثل سميرة (سلوى محمد على) خالة هيام وصديقتها، ولدينا فتيات المصنع الذين تتراوح علاقتهن مع هيام بين الحب والصداقة والغيرة الشديدة، خريطة هائلة للمشاعر والأحاسيس، وتسجيل لافت ومؤثر لأحوال البنات فى مجتمع ذكورى يجعل المرأة متهمة حتى يثبت العكس، أما الثورة المصرية فهى فى خلفية الأحداث، الأهم بالنسبة لخان إنصاف البنات، والدفاع عن أحلامهن الصغيرة، البيت والفارس والعمل، ولكن هيام بكبريائها الرائع قدمت نموذجا مدهشا لا ينسى، أثبتت أن المرأة ثورة على الجهل وضيق الأفق، المرأة هى التى تفتح البيوت بعملها، وهى التى تستطيع مواجهة إحباطاتها بشجاعة وقوة رغم الغطرسة الذكورية البائسة. شاهدت الفيلم ثلاث مرات دون أن أفقد ذرة إعجاب، مرتان قبل عرض الفيلم التجارى، أولاهما فى منزل المخرج الكبير، والثانية فى العرض الخاص، والثالثة فى إحدى دور السينما عند نزول الفيلم تجاريا، وفى المرات الثلاث لمعت عينى من الدموع بسبب مواقف الفيلم المؤثرة، ونتيجة لهذا الإستدعاء والتوظيف المبدع لأغنيات الراحلة سعاد حسنى، الصدق والعمل الشاق هما مفتاح نجاح هذا الفيلم نقديا وتجاريا، رأى الجمهور صورة صادقة لفئة منسية قدمت ببراعة وشاعرية، عملت وسام سليمان كاتبة السيناريو لفترة فى أحد المصانع الصغيرة دون أن يعرف هويتها إلا صاحب المصنع، حاولت أن تقترب من مجتمع مغلق يتشكك فى الغرباء، ارتدت الحجاب وانتظمت مع الفتيات طوال الورديات الشاقة، شاهدت طريقة جمعهن للنقود لشراء وجبة الغداء، كثير من أحداث وشخوص الفيلم التى شاهدها الجمهور لها أصل واقعى، جلست ياسمين رئيس بطلة الفيلم أكثر من مرة مع إحدى فتيات المصنع، التقطت منها كثيرا من التفاصيل المدهشة مثل طريقة الكلام العفوية، استغرقت الفترة من بداية التصوير حتى ظهور النسخة النهائية عاما كاملا، كانت روبى هى الاختيار الأول لأداء دور هيام، ولكنها اعتذرت عن الاستمرار لارتباطها بفيلم آخر، جاءت ياسمين لعمل كاستنج لدور آخر صغير عندما كانت روبى البطلة، بعد اعتذارها قرر محمد خان أن يدفع بياسمين الموهوبة إلى البطولة، والحقيقة أنها لم تخذله أبدا، كانت رهانا رابحا، عندما كنت فى لجنة المشاهدة بمهرجان الإسماعيلية، كان محمد خان يذهب مع ابطال فيلمه إلى المصنع الذى اختاره وقتها للتصوير، كنت اسأله عن المشهد الذى قاموا بتصويره ، فيقول : « ولا أىّ مشهد، أنا باخد أبطالى للمكان عشان يتعودوا عليه، عشان يبقوا جزء منه، مش أغراب عنه» . ليست هناك مشكلة عند محمد خان فى التعامل مع الأجيال الجديدة، كلهم يحبون أفلامه وتأثروا بها، وهو كتركيبة إنسانية شخصية منفتحة و»عابرة للأجيال». مدير تصوير «فتاة المصنع» هو الشاب محمود لطفى، الذى قدم عملا لافتا ورائعا فى فيلم «الخروج للنهار» من إخراج شقيقته هالة لطفى . رغم خبرة خان الطويلة فى التصوير الخارجى، فإن التجربة لم تكن سهلة على الإطلاق فى المشاهد التى تم تصويرها فى حى الأباجية الشعبى، ولكن خان مهتم جدا بأن يذهب بفيلمه إلى الأباجية لكى يعرضه على سكان الشارع والمنطقة التى صور فيها، الممثلات اللاتى لعبن أدوار فتيات المصنع رائعات لدرجة أننى تخيلت أنهن فتيات عاملات فعلا أسندت إليهن بعد الأدوار إثر تدريبهن، يلعب المخرج خيرى بشارة دورا قصيرا فى «فتاة المصنع»، مشرف المصنع القديم الذى يهاجر إلى الخارج. لا يعرف الكثيرون أن خان ظهر كممثل فى فيلم خيرى بشارة الهام «العوامة 70»، بينما ظهر خيرى بشارة فى أدوار صغيرة فى الكثير من افلام خان ، على سبيل المثال لا الحصر: «الحريف»، «موعد على العشاء» ، «زوجة رجل مهم» و«بنات وسط البلد». تستطيع أن نتحدث بثقة عن مولد نجمة رائعة هى ياسمين رئيس، وممثلة واعدة جدا هى ابتهال الصريطى فى دور نصرة، بالإضافة إلى اجتهاد هانى عادل اللافت، وخصوصا قدرته على التعبير بعينيه فى مشاهد الحب أو الانكسار، وهناك أيضًا الكبيرتان سلوى خطاب وسلوى محمد على فى دورين فى منتهى الصعوبة، يتميز «فتاة المصنع» أيضا بعناصر فنية رفيعة مثل موسيقى جورج كازازيان وملابس نيرة الدهشورى. هذا فيلم ينضح صدقا وعشقا، يمزج المرح بالشجن، وينتصر للتفاؤل فى النهاية، لتصدح يسرا الهوارى بأغنية الفيلم الأخيرة: «بابتسم من كُتر حبى للعالم .. بابتسم من كُتر خوف وعيت عليه».