تحولات كبيرة شهدتها «فرنسا» مدينة النور خلال السنوات الأخيرة الماضية، لاسيما بعد تنامى التيارات الإسلامية المتشددة على أرضها. لم تكن تفجيرات باريس التى هزت العالم أول ناقوس خطر ينذر بتفاقم أزمة الجهاديين داخل فرنسا، فمؤخراً نشر عدد من المطبوعات الصادرة بالفرنسية تحذر من تنامى التيارات الإسلامية المتشددة المدعومة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، لاسيما بعد ارتفاع أعداد الشباب الفرنسى الذى ينضم إلى التنظيم الإرهابى «داعش» للجهاد فى سوريا. إلى جانب نتائج استطلاع الرأى الذى أجرته مؤسسة ICM الروسية.. التى تؤكد أن من بين كل 6 فرنسيين شخص متعاطف مع «داعش»، كل هذه الأمور تشير إلى وجود طفرات حقيقية داخل المجتمع الفرنسي، الذى كان ولايزال نموذجاً للثقافة والفن فى العالم. قراءة المشهد السياسى للأحداث الفرنسية لا يبدأ بتفجيرات «باريس» الدامية، فهناك العديد من المؤشرات التى تؤكد وجود تغيرات كبيرة حدثت داخل المجتمع الفرنسى خلال السنوات الأخيرة الذى شهد ارتفاعاً ملحوظاً لأعداد المسلمين، حيث يبلغ تعدادهم نحو 7 ملايين نسمة، لتكون فرنسا أكبر الدول الأوروبية الحاضنة للمسلمين، كما تضم «باريس» وحدها أكثر من 2000 مسجد، لم تكن تلك الزيادة سبباً فى تفاقم الأزمة داخل فرنسا، بل إن السبب الرئيسى وراء انتشار الأعمال الإرهابية يكمن فى ارتفاع أعداد الراديكاليين على أراضيها، فقبل عام من تفجيرات «باريس» صرح برنار كازنوفا، وزير الداخلية الفرنسى للإذاعة الفرنسية «RTL» بأن: «عدد الفرنسيين الراديكاليين ارتفع فى عام 2014 بنسبة 74%، ليصل عدد الفرنسيين الذين انضموا إلى «داعش» فى سوريا والعراق إلى أكثر من 1000 شخص، لكن هذا الرقم ارتفع فى 2015 ليصل إلى 1800 شخص. وكالة أنباء «فارس» الإيرانية نشرت نتائج استطلاع للرأى أجرته مؤسسة «ICM» للبحوث فى أعقاب الهجمات الإرهابية التى تعرضت لها فرنسا، وموقف الشباب الفرنسى والأوروبى بوجه عام من التنظيم الإرهابى «داعش»، فكانت النتيجة على غير المتوقع، حيث قالت النتائج إنه من بين كل 6 فرنسيين يوجد شخص متعاطف مع «داعش»، وأن 16 % من الفرنسيين مؤيدون لهذا التنظيم، و27 % من إجمالى هذا الرقم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 عامًا. فى المقابل فإن ارتفاع أعداد الراديكاليين فى فرنسا أدى إلى تنامى ظاهرة «الإسلاموفوبيا» والقلق من الإسلام والمسلمين، فخرجت الحكومة الفرنسية بقرار بررته بأنه السبيل الوحيد أمامها للحد من تنامى التيارات الإرهابية التى تبدأ بخطابات الأئمة داخل المساجد، ففى أكتوبر الماضى أعلن وزير الداخلية الفرنسى أن بلاده أصدرت قراراً يلزم أئمة المساجد بضرورة الحصول على دبلوم جامعى فى العلمانية، لإجبارهم على التعرف على طبيعة الدولة التى يعشون بها وبدعوى إذابة أية أفكار عدائية ضد غيرهم من غير المسلمين. ومع انتشار الظاهرة بدأت الدولة تكثف جهودها لدفع خطر الإرهاب عن أبنائها، حيث بدأت الحكومة الفرنسية إطلاق إعلانات تلفزيونية تحذر فيها الشباب من الانضمام إلى «داعش»، وبحسب ما جاء فى تقرير قناة «يورونيوز» الإخبارية فإن الإعلانات تضمنت شهادات بعض أسر الشباب الذين انضموا بالفعل لهذا التنظيم الإرهابى للقتال فى سوريا والعراق الذين أعربوا عن أسفهم لحال أبنائهم، وخصصت الحكومة أرقامًا للإبلاغ عن الأشخاص الذين يتواصلون مع «داعش» لأنهم يشكلون خطراً على المجتمع. مطبوعات فرنسية حذرت من تنامى الإرهاب الكتاب والمؤلفون الفرنسيون أول من وضعوا أيديهم على الأزمة الحقيقية داخل المجتمع الفرنسى وأوروبا بوجه عام، فخلال السنوات الأخيرة أصدرت العديد من المطبوعات التى تحذر من تنامى التيارات الإسلامية داخل فرنسا. وعلى رأسها «اتحاد المنظمات الإسلامية»، الفرع الفرنسى لحركة الإخوان المسلمين، الذى يضم أكثر من 250 جمعية إسلامية التى تأسست عام 1983، على يد قيادات التنظيم الدولى وخرج منها فيما بعد حسن الترابي، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبى بالسودان، الذى كان أحد دعاة انفصال الجنوب السوداني، وعبد الله بن منصور، القيادى الإخوانى التونسى الذى كان أحد مؤسسى تيار الحركة الإسلامية، الذى عرف فيما بعد بحزب النهضة الذى تولى رئاسته راشد الغنوشي. الكاتب الفرنسى ميخائيل برزان، فضح علاقة الإخوان المسلمين بأجهزة المخابرات الألمانية والأمريكية، فى كتابه «الإخوان آخر أيديولوجية شمولية، وأوضح خلاله أن الإخوان المسلمين فى فرنسا بدأوا نشاطهم بجذب الأطفال المهاجرين من خلال الأنشطة المتنوعة الموسيقية والرياضية فى ظل غياب دور الدولة، على حد تعبيره . مضيفاً أنهم سيطروا على قطاع كبير من المساجد فأصبحت الكلمة العليا لهم. من ناحية أخرى فهناك العديد من الاتهامات التى وجهت لاتحاد المنظمات الإسلامية (الإخوان المسلمين)، من قبل برلمانيين فرنسيين بأنه أحد الأسباب فى انتشار التطرف داخل «فرنسا»، علماً بأن نشاطه لم يكن بعيداً عن أعين الدولة، بل إن المخابرات الفرنسية هى التى دعمت الإخوان المسلمين وساهمت فى إنشاء الاتحاد فى «باريس» فى عهد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران. ولم تنكر جماعة الإخوان المسلمين تلك العلاقة وأن قياداتها فى العالم العربى سواء فى مصر أو الجزائر وتونس والسودان هم من أسسوا هذا الاتحاد فى باريس الذى يعد الذراع الأوروبية الثانية للتنظيم الدولي، فهذا ما أكدت عليه عبر موقعها الإلكترونى الرسمي. فى السياق نفسه نشر موقع راديو فرنسا «RFI» الموجه بالفارسية تقريراً حول بعض الكتب التى صدرت فى فرنسا التى ناقشت قضية «الإرهاب» وارتفاع أعداد الأصوليين فى أوروبا، ومن بينها كتاب «الراديكالية- الإرهاب الجهادي» للإيرانى - الفرنسى فرهاد خسروخاور، الذى أشار فى كتابه إلى أن التحولات الفكرية الإسلامية لم تبدأ بأحداث الحادى عشر من سبتمبر على يد تنظيم القاعدة الإرهابي، ولكنه بدأ فى 1979 مع قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، محملاً أجهزة بعض أجهزة الاستخبارات العالمية وعلى رأسها المخابرات الأمريكية مسئولية صناعة المتشددين فى الشرق الأوسط، ولم يعف منها فرنسا، التى كان لها دور بارز فى دعم للإسلاميين فى إيران وعلى رأسهم «الخوميني»، مشيراً إلى الدور الحيوى الذى لعبته المخابرات الفرنسية لتمكين الإسلاميين. وأضاف أن التحولات السياسية الأخيرة التى شهدتها المنطقة العربية بداية من ليبيا وحتى اليمن خلقت نوعاً من الغضب داخل نفوس بعض الشباب المعترض على سياسات الدول العظمي، مشيراً إلى الدور السلبى للتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعى عبر شبكة الإنترنت التى سهلت التواصل بين قيادات الجهاديين فى تلك البلدان وبين الشباب فى العديد من الدول الأوروبية. أما عن أسباب انضمام الشباب إلى تلك الجماعات الجهادية قال «خسروخاور» إن قطاعًا كبيرًا من الشباب فى فرنسا وأوروبا أصبح يعانى من أزمة فقدان الهوية وغير قادر على التواصل مع المجتمع، فهؤلاء الشباب لم يجد لنفسه مكانًا فى الوجود إلا عبر العالم الافتراضى ليقع فريسة فى أيدى هؤلاء المجرمين ويتحول إلى شخص ناقم على المجتمع ومن حوله. على صعيد آخر فإنه نظراً لارتفاع أعداد الإسلاميين داخل فرنسا فإنه فى كثير من الأحيان يستخدمهم البعض كورقة رابحة فى الانتخابات البرلمانية باعتبارهم كتلة مؤثرة لا يمكن الاستهانة بها، كما جاء فى تقرير قناة «فرانس 24» الناطقة بالعربية. هذا على الرغم مبايعة «داعش» لجماعة الإخوان المسلمين منذ أحداث فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة» فى مصر فى أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو. حقيقة الأمر فإن تنامى التيارات الإسلامية المتشددة دفع الحكومة الفرنسية لاتخاذ إجراءات أمنية صارمة إزاء كل من يشتبه فى قيامه بأعمال تخريبية، كما صرح الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند، بأنه سيتم سحب الجنسية الفرنسية من المتورطين فى جرائم تهدف للإضرار بالأمن القومى للبلاد إلى جانب إغلاق المساجد التى يسيطر عليها المتشددون وطرد من يروجون للأفكار المتطرفة من البلاد. يذكر أن الأجهزة الأمنية الفرنسية اتهمت مؤخراً بعض الأشخاص ممن ينتمون ل«داعش» بالقيام بالتفجيرات الأخيرة، وعلى رأس هؤلاء المتهمين شخص يدعى عبد الحميد أباعود، مغربى بلجيكى ادعت أنه العقل المدبر لهذه الأحداث الدامية، حيث قالت «فرانس 24» إنه صرح لمجلة «دابق» التابعة ل«داعش» بأنه تمكن من الدخول للأراضى السورية للجهاد، ونشرت فيديو له وهو يرتدى الزى العسكرى للجماعة ويحمل علم «داعش» وممسكاً بيده «القرآن». دوامة الصراع بين الأصوليين وأنصار تيار الإسلاموفوبيا فى فرنسا والعالم ستدخل الجميع فى متاهات لا تحمد عقباها، فلا مخرج من تلك الأزمة إلا بالأصوات المعتدلة.