يكن الهجوم علي مصنع غاز "إير برودكتس" Air Products في منطقة إيزير بمدينة ليون الفرنسية، الذي نفذه ياسين الصالحي، هو الأول من نوعه الذي تشهده فرنسا في الماضيين القريب والبعيد، ففي يناير الماضي وقع هجوم علي مجلة "شارلي إبدو" الأسبوعية، نفذه الأخوان كواشي وراح ضحيته 12 قتيلا وفي توقيت متزامن وقع هجوم علي شرطية لقيت مصرعها في ضاحية "مونتروج" شرق باريس، وكان منفذه الفرنسي ذا الأصول الأفريقية آمدي كوليبالي. حياة العدم الأوروبية وتبادل الأدوار بين الرجل والمرأة يدفعان الشباب للجهاد ياسين الصالحي من مواليد 25 مارس 1980، من أب جزائري وأم مغربية، متزوج منذ 10 أعوام وله 3 أطفال وكان يعمل سائق شاحنة في المصنع الذي شهد الهجوم، وطبقا لوزارة الداخلية الفرنسية فإنه خضع لمراقبة مدتها 10 سنوات، بدأت 2004 نظرا لتردده علي أوساط سلفية، ولكن تم إسقاط اسمه نهائيا من قوائم المراقبة في 2014 لصعوبة إدانته بشيء، رغم ثبوت أنه كان علي علاقة بشاب فرنسي يدعي فريدريك جان الذي اعتنق الإسلام مطلع عام 2000 وغير اسمه ل "علي" وأصبح جهاديا متشددا، وتوطدت علاقته بالصالحي عام 2005، وفي عام 2010 كان فريدريك في إندونيسيا حيث اشتبهت شرطة جاكرتا في نيته القيام بتفجيرات بمنتجع جاوا السياحي، وذلك عقب توقيف 5 أشخاص أكدوا علاقتهم به فضلا عن العثور علي سيارة مستأجرة باسمه وبها شحنة هائلة من المتفجرات، غير أن فريدريك تمكن من الهرب بعد معركة بالأسلحة مع الشرطة الإندونيسية ومنذ ذلك الحين وهو المطلوب رقم 1 علي قوائم الانتربول. الهجمات من هذا النوع ينفذها "إرهابيو المنزل" أي أولئك الذين تربوا وتلقوا تعليمهم في فرنسا، بدأت بخالد كيلكال عام 1995 حيث تسبب في مقتل 10 أشخاص وإصابة 180 وذلك في عدة هجمات عشوائية بقنابل وتفجيرات عن بعد، وفي عام 2012 قتل محمد مراح الفرنسي ذو الأصول الجزائرية 7 أشخاص وأصاب 6، وكان من بين السبعة 3 شرطيين و4 يهود في هجوم علي معبد يهودي بمدينة تولوز. وفي 24 مايو 2014 نفذ شخص من أصول مغربية اسمه مهدي نيموش الإعدام بحق 4 أشخاص بمعبد يهودي بالعاصمة البلجيكية بروكسل، والجدير بالملاحظة هنا أن 3 فئات دومًا مستهدفة في كل الحوادث سالفة الذكر: رجال جيش وشرطة "دائما بينهم مسلمون"، صحفيون، ويهود. ما هي السمات المشتركة لتلك الأفعال؟ فرهاد خسروخاور أستاذ علم الاجتماع السياسي، وهو فرنسي من أصول إيرانية، يرسم بورتريهات "لإرهابيي المنزل" في حوار مع صحيفة "لوموند" الفرنسية اليومية: جميعهم تقريبًا من أرباب السوابق الذين أمضوا عقوبات سجن بسبب السرقة، وجميعهم تقريبًا وُلدوا دينيًا من جديد واعتنقوا الفكر الجهادي علي يد شيخ ما أو من خلال قراءتهم علي الإنترنت أو من خلال أصدقاء جهاديين، كمان أن جميعهم سبق له زيارة إحدي دول الشرق الأوسط أو دولة بها حرب مثل: أفغانستان، باكستان، العراق، وسوريا.. 4 سمات رئيسية إذاً: الجريمة والسجن وخوض تجربة الحرب واعتناق الإسلام الراديكالي.. يتميزون ذاتيًا بكراهية المجتمع والانعزال عنه، حيث يقيمون دائمًا في الضواحي ويعتنقون الفكر المضاد لغالبية المجتمع، سواء كانوا فرنسيين أبًا عن جد أو فرنسيين من أصول مغربية. إقامة هؤلاء منعزلين في الضواحي تتحول لما يشبه العيش في "جيتو"، ويصبح سجنا داخليا بمرور الوقت، والسبيل الوحيد للخروج من ذلك السجن هو تحويل نظرة احتقار وكراهية الآخرين لهم إلي نظرة خوف منهم. وهم يسعون في المقام الأول إلي وصم تمردهم بأفعال سلبية بدلا من التنديد بما يتعرضون له من عنصرية، علمًا بأن كثيرا من أقرانهم تمكن بالعمل والمثابرة من اللحاق بالطبقة المتوسطة والاندماج في المجتمع، وعند أولئك الذين يتعرضون للإيذاء والتهميش بقسوة تتحول الكراهية إلي المفاخرة بارتكاب الجريمة بحق المجتمع، أو إلي جهادي يعطي لغضبه ولأفعاله صفة القداسة. يتحول الفرد إلي الانسلاخ من هوية المجتمع الذي يعيش فيه، ويصبح في قطيعة كاملة معه ويراه بالكامل مذنبًا، قبل أن يتبني مصطلحات من نوعية: زنديق، آثم، والموت شهيدًا من أجل قضية، حتي وإن وجد الشخص صعوبة في اعتناق عادات وتقاليد المجتمع الجهادي الذي يعتنق أفكاره. أهم ما يمنحه إياه الفكر الجهادي صفة "المجاهد" من أجل عقيدة وأنه فارسها المغوار المدافع عنها.. إنه يقتل وينشر الرعب ويستمد الفخر من اقتحامه إحدي وسائل الإعلام ليخرج من مرحلة كونه مغمورًا وتافهًا إلي مرحلة يعرفه فيها الناس، لقد استبدل هؤلاء الخوف من الموت بالتخويف بالموت وهو ما يكسبهم شعورًا بأنهم الأعلي.. يتحول الفرد إلي الانسلاخ من هوية المجتمع الذي يعيش فيه، ويصبح في قطيعة كاملة معه ويراه بالكامل مذنبًا، قبل أن يتبني مصطلحات من نوعية: زنديق، آثم، والموت شهيدًا من أجل قضية، حتي وإن وجد الشخص صعوبة في اعتناق عادات وتقاليد المجتمع الجهادي الذي آمن بأفكاره. نموذج مضاد ومع اندلاع الحرب الأهلية السورية علي نطاق واسع مطلع عام 2012 وبالتوازي مع ذلك النموذج المنحدر من طبقة مهمشة، ظهر نموذج آخر من الطبقة المتوسطة في فرنسا ومن أصول فرنسية خالصة، ومن خلفيات دينية متعددة فمنهم المسيحيون واليهود والبوذيون، والأغرب أن منهم فتيات من الطبقة البرجوازية، راق لهم جميعًا فكرة السفر إلي سوريا والالتحاق بصفوف التنظيمات الإسلامية الراديكالية التي تسعي للإطاحة بنظام حكم الرئيس بشار الأسد. دافع هؤلاء الشباب هو خلق نموذج مضاد لشباب مايو 1968 الذين ثاروا علي الإصلاحات السياسية للرئيس الراحل شارل ديجول، وكانوا يريدون العيش بفوضوية والإغراق في العدمية مع رفض السلطة البابوية الممثلة في الدولة والتي تفرض قيودًا وتدرجًا سلطويًا لا لزوم له من وجهة نظر هؤلاء الشباب. وإذا كانت حرية المرأة جزءا مما طالب به الشباب الذي ثار علي ديجول في 68، فإن الفتيات الآن ينظرن بإعجاب لأولئك الذين يقبلون بفكرة الموت في سبيل قضية ما، يضاف إلي ذلك فكرة البحث عن تحقيق العدل المفقود في سوريا ضد نظام يراه الجهاديون مسئولا عن مقتل أكثر من 200 ألف شخص، وهنا تمتزج القيم الإنسانية بالجهاد المزعوم. لماذا فرنسا؟ إيف تروتينيون ضابط مخابرات فرنسي سابق، يعمل حاليا كخبير أمني في مؤسسة خاصة للخدمات العسكرية تدعي Risk & Co يجيب علي سؤال لماذا فرنسا أكثر بلدان أوروبا تعرضا لهجمات إرهابية في السنوات الأخيرة، بقوله في مقابلة مع القناة الثانية بالتلفزيون الفرنسي : "باريس.. نشطة جدا علي المسرح الدولي إلي جوار الولاياتالمتحدة في محاربة الحركات الجهادية، ويُنظر إلينا نحن الفرنسيين علي أننا البلد الاستعماري العلماني الذي نهب ثروات الدول الأفريقية والعربية المسلمة ويحارب الحجاب وينشر باستمرار الرسوم المسيئة لنبي الإسلام". وبسؤاله عن مغزي هذا النوع الجديد من الهجمات علي منشأة غاز، أجاب تروتينيون: منذ عام والإرهابيون في اليمن تحديدا يروجون لتلك الفكرة علي مواقعهم الإلكترونية، إذ نصحوا بتنفيذ هجمات بكرات غاز اعتمادا علي أن المادة المستخدمة ستُحدث أضرارا علي نطاق، وهو ما حاولوا تنفيذه في فرنسا بمنطقة نائية، وفي كل الأحوال يجب انتظار سير التحقيقات لأنها ستكشف المزيد. ياسين الصالحي كان مشتبها به عام 2006 وتم احتجازه والتحقيق معه، قبل إطلاق سراحه وكان من المفترض أن يتم استدعاؤه مرة ثانية في 2008 طبقا للقواعد الأمنية في فرنسا، ولكن اسمه سقط من قوائم الاشتباه والمراقبة، فيما تروتينيون ذلك؟ يجيب: 2008 أي قبل الربيع العربي والتدخل العسكري الفرنسي في ليبيا وفي مالي، ولم يكن هناك ما يشير بوضوح لخطورة الصالحي، ولكن من المؤكد أن كل من ارتكب عملا إرهابيا في فرنسا كان علي رادار أجهزة المخابرات لا يفلت من ذلك إلا شخص شديد البراعة وهو مالم يحدث في حالة الصالحي لأنه تم التوصل إليه بعد ساعات من هجوم إيزير، أو بسبب خطأ من أجهزة الأمن وهو ما لا يمكن الجزم به أيضا. حديث الصحف المخابرات الفرنسية رصدت علاقة ياسين الصالحي بالحركة السلفية في الفترة من 2004 إلي 2014، تلك الحركة التي تنشط في منطقة "رون-ألب" بمحيط مدينة ليون منذ 25 عاما في تجنيد الشباب لخدمة الأفكار الإسلامية الأصولية، ويُعد خالد كلكال أحد أشهر أقطاب تلك الحركة، وبفضل عينة من حمضه النووي عُثر عليها علي عبوة ناسفة علي خط قطار ليون-باريس عام 1995 استطاعت السلطات الفرنسية تفكيك شبكة كاملة كان يقودها بنفسه، قبل أن يلقي مصرعة في مطاردة مع رجال الشرطة عقب سلسلة هجماته التي نفذها في العام نفسه. التحقيقات أثبتت فيما بعد أن هناك 3 أشخاص، تم القبض عليهم ومحاكمتهم، ساعدوا كلكال في تنفيذ هجماته، أولهم كان يقيم في باريس والثاني في ليل والثالث بالقرب من ليون، ثم اتضح لاحقا أن ما يقرب من 40 شخصا يقيمون في "رون-ألب" وتمت محاكمتهم جميعا عام 1997 بتهمة تزوير أوراق وتسهيل الحصول علي سلاح فيما أطلقت عليه الصحف الفرنسية وقتها قضية "خلية ليون". "رون-ألب" كانت حديث الصحف الفرنسية في 2001 أيضا بعد هجمات 11 سبتمبر بالولاياتالمتحدةالأمريكية، بعدما تم إخطار باريس من قبل واشنطن بوجود شابين فرنسيين، ينحدران من المنطقة المذكورة ضمن معتقلي جوانتانامو، الأول كان يدعي نزار ساسي والثاني هو مراد بنشلالي وتلقي كلاهما تدريبات في معسكرات تنظيم القاعدة في أفغانستان، وإضافة لمراد كان شقيقه بنعاد بنشلالي أحد أبرز الموقوفين عام 2002 ضمن أعضاء خلية جهادية عُرفت ب"خلية الشيشان" حيث كان أعضاؤها يتدربون ويستعدون للسفر للقتال بجانب الانفصاليين الشيشانيين ضد قوات روسيا الاتحادية، وفي 2004 خرج مراد بنشلالي من معتقل جوانتانامو وأعلن أنه ندم وتاب عن طريق الجهاد وقال عنه وزير الداخلية الفرنسي آنذاك أنه بات شخصا جدير بالثقة وأجري عدة مقابلات صحفية للحديث عن تحوله من الأصولية للاعتدال. ياسين الصالحي منفذ هجوم الجمعة الماضي وُلد، هو وزوجته وأطفاله الثلاثة، في قرية "سان بريست" إحدي أشهر قري "رون-ألب"، ومن نفس القرية خرج الشاب الفرنسي نزار ناعور الذي فجر نفسه بشاحنة مفخخة أمام معبد يهودي بمدينة جربا التونسية حيث تعود أصوله، وأوقع الهجوم الذي تبناه تنظيم القاعدة 19 قتيلا بينهم ناعور نفسه الذي تلقي تدريبات عسكرية في أفغانستان أيضا.. لتظل "رون-ألب" هي كلمة السر في كل ما تشهده فرنسا من أعمال إرهابية.