فى اليوم التالى لحادث سقوط الطائرة الروسية فى سيناء خرجت إحدى الصحف الرسمية الكبرى للجماهير المصرية وللعالم بمانشيت رئيسى بعنوان «تعاون مصرى بريطانى فى مجال الأمن والتعليم» متجاهلة تماما الحادث الذى تناولته وسائل الإعلام العالمية وتصريحات كبار المسئولين فى جميع دول العالم باهتمام بالغ على قدر الحدث الضخم، وكأن الجريدة الرسمية الأولى لم تسمع بالحادث الذى هز العالم شرقا وغربا وراح ضحيته أكثر من 200 ضحية، واعتبرته لا يحتاج مساحة مناسبة للنشر. هذا الأمر ليس بجديد، حدث قبل ذلك أكثر من مرة، كنا نسخر منه فى الماضى لكن مع الإصرار الرهيب على تكرار الأمور المشينة لم نعد نسخر، فقط اعتدنا الأمر، ولله الأمر من قبل ومن بعد. مقدم أحد البرامج بقناة «سى إن إن» الأمريكية لم يفوت هذه الفرصة، وخرج لمشاهدى ومتابعى القناة حول العالم بنسخة من الجريدة الرسمية قائلا: «هكذا يتعاملون مع شعبهم». وكأنه أفرغ دلوه المليء بالمياه الباردة فوق رءوس المصريين، واستخدم مقدم البرامج ما تورطت فيه الجريدة الرسمية ليؤكد أن التحقيقات المصرية لن تحمل الشفافية أو المصداقية، فما الفائدة مما فعلته الجريدة الأولى فى مصر؟ ما الفائدة من هذا الإنكار الغريب، وهل هناك مؤامرة فعلا أم أننا نتوهم ذلك ونستغرق فى حالة الإنكار؟! المؤامرة لا تأتى من فراغ والمفترض أن العلاقات بين الدول لم تقم أبدا على العشق بل على المصالح والمكاسب السياسية، وداخل هذا المناخ المشبع بالمصالح من الطبيعى أن تتعرض أى دولة لمؤامرات بشكل مستمر، خصوصا أننا اتخذنا مؤخرا موقفا واضحا من الأزمة السورية يتوافق مع رؤية الجانب الروسي، ولا يأتى على هوى أمريكا والخليج ودول أخري، ونظرية الوقيعة وزرع الفتن قائمة، لكن بدلا من أن نظل نصرح «إنها مؤامرة» دون أن نفعل شيئا، ينبغى أن نتحرك لسد الثغرات التى ينفذ من خلالها المتآمر فيحقق أهدافه. مثلا إذا افترضنا أن سيناريو زرع قنبلة مع أحد الركاب أو دسها فى الحقائب والأمتعة لإسقاط الطائرة صحيح، وأثبتت التحقيقات ذلك لابد أن يتم التحقيق فورا مع القيادات الأمنية المسئولة عن مطار شرم الشيخ، والاعتراف بالخطأ لن يقلل من صورة مصر فى شيء بل العكس تماما، إنما الإصرار على الإنكار والرفض وتلبيس الأمر لأى طرف آخر غيرنا لن يحل الأزمة بل يزيدها تفاقما. 15 إسترلينى صحيفة «ديلى ميل» البريطانية نشرت تحقيقا مصورا عقب الحادث أكدت فيه أن بعض السياح البريطانيين دفعوا 15 جنيها إسترلينيا ليتجاوزوا مرحلة تفتيش الحقائب. وقالت الجريدة نقلا عن المسافرين إن بعض الموظفين كانوا يتطفلون عليهم ويسألونهم عما إذا كانوا يريدون تجاوز التفتيش مقابل دفع المال، كما نشرت جريدة بريطانية أخرى صورا لأحد العاملين بمطار شرم الشيخ والمسئول عن بوابات أمن المطار يلعب «كاندى كراش» على هاتفه المحمول متجاهلا البوابة التى يمر من خلالها المسافرون. وبمجرد أن نشرت الجريدة تحقيقها الموثق، بدأ أنصار المؤامرة فى تكذيب ما نشر واتهام الجريدة البريطانية بالفبركة مؤكدين أن كل شيء «زى الفل» ولم يكلف أحدهم نفسه عناء التفكير فى الأمر لدقيقة واحدة، أو حتى التساؤل والتقصى بدقة حول صحة ما نشر من عدمه، معتبرين مواجهتهم لما نشر من وثائق بالسب والاتهام بالتآمر كافيا لمحو آثار التحقيق الذى أثار ضجة بالخارج تسببت فى تصدير صورة سلبية عن مصر. عدة أشياء من الضرورى وضعها فى الاعتبار، بماذا سنستفيد من هيستريا الإنكار التى أصابت البعض وتأثر بها البعض الآخر؟ هل العالم سيصدق الديلى ميل أم يصدق أصحاب نظرية المؤامرة؟ بالتأكيد سنخسر معركة المصداقية تلك، وستنتصر «الديلى ميل» ولو كانت تكذب، لأننا نعلم جيدا أن الفساد فى مصر متغلغل، وأن الرشاوي- الإكراميات من وجهة نظر المرتشين- أمر واقع فى مصر لدرجة أن حياة المواطن المصرى صعب أن تستمر بدون دفع الرشاوى، ولا يوجد مصرى لم يدفع رشوة- إكرامية- من أجل إنهاء مصالحه. على الجانب الآخر، فإن ماسبيرو لا يستبعد نظرية المؤامرة كليا، فثمة حوادث تاريخية مازالت غامضة رغم مرور عقود، منها مثلا اغتيال الرئيس الأمريكى الأسبق جون كيندي، وأحداث الحادى عشر من سبتمبر، والتى توجد مؤشرات على وجود أصابع استخباراتية أمريكية وراءها. وما يجعل فكرة المؤامرة واردة، أن التحقيقات المصرية الروسية أول الأمر نفت وجود شبهة جنائية أو إرهابية وراء الأمر، لكن تقريرا نشرته شبكة «سى إن إن» الأمريكية ذهب إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» زرع قنبلة فى حقيبته على متن الطائرة المنكوبة.. لكن القناة الأكثر انتشارا لم تذكر مصدرها الذى استقت منه معلوماتها.. إنه مصدر مطلع وكفي، ما يدعو إلى أن نقول للأمريكان «لا تعايرنى ولا أعايرك المصدر غير المعلوم طايلنى وطايلك». ورأى مركز (جلوبال ريسرش) الكندى أن تحطم الطائرة الروسية فى سيناء يثير أسئلة جديدة لا تحمد عقباها، وهناك العديد من النظريات انتشرت فى سياق التحقيقات الدولية، مضيفا أن فى هذا العصر الذى تنتشر فيه فظائع العلم المزيف والخداع يتم تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية. وقال إن وكالة الاستخبارات المركزية هى الأكثر انتقائية فى عملها، وفى هذه الحالة فالتوقيت ملائم، ويمكن لواشنطن بعدها أن تندد بالإرهاب وتنشر بيانات للتعبير عن التعاطف. هذا السيناريو ليس مجرد عزف على أوتار نظرية المؤامرة، فهناك حرب عظمى جارية، كما يؤكد المحلل ميشيل شوسودوفسكى مدير المركز الكندى لأن روسيا الآن تعمل بشكل مباشر فى حملة مكافحة الإرهاب بالتنسيق مع الحكومتين السورية والعراقية، الأمر الذى أزعج الولاياتالمتحدة. المركز رأى أن الهدف من إشاعة سيناريو القنبلة ينصب على ضرب العلاقات المصرية الروسية وجعل القاهرة تدرك أن واشنطن هى الحليف الوحيد بدليل أن أمريكا سلمت مصر بعد أيام قليلة من الحادث أربع طائرات مقاتلة إف 16 متعددة المهام كعلامة أخرى على استعادة دفء العلاقات الدبلوماسية. وشهد الأسبوع الماضى ذوبان الجليد فى العلاقات بين الولاياتالمتحدة ومصر من خلال تجديد العقد العسكرى الصناعى لإنتاج مشترك للدبابة (أبرامز) فى القاهرة، وقبل ذلك بأسبوع، أخطرت القيادة الجوية البحرية الأمريكية الكونجرس عن نيتها التعاقد مع شركة نورثروب جرومان لتجديد صواريخ (هوك) المحمولة جوا وطائرات التحكم قبل التسليم إلى مصر. ويأتى إبعاد موسكو عن ضرب داعش فى سوريا أو على الأقل عدم استحواذها على استحسان العالم بسبب جهودها فى الحرب على الإرهاب، ضمن أهداف إشاعة السيناريو ذاته وهذا ما أكده تقرير لافت لشبكة فوكس نيوز 9 الأمريكية تحت عنوان «هل يدفع حادث تحطم الطائرة الروسية فى مصر لتغيير سياسة بوتين؟» وقال ويليام كورتنى سفير واشنطن السابق لدى (كازاخستان) و(جورجيا)، إن إسقاط الطائرة يمكن أن يغير من المعادلة الاستراتيجية لموسكو. ورأى كورتنى أن تحطم الطائرة الروسية فى سيناء يعد أسوأ كارثة طيران فى روسيا منذ عقود، ويأتى بعد أسابيع فقط من إرسال موسكو طائرات مقاتلة لنظام بشار الأسد فى سوريا. روسيا والغرب يواجهان عددا من التحديات المشتركة، من الإرهاب إلى الانتشار النووي، ووفقا لوجهة نظر فوكس نيوز فإنه لا يوجد دولة يمكنها أن تعالج كل هذا وحدها، وبالتالى فموسكو تواجه خيارا بين مسارين، الأول هو مواصلة تحدى الغرب، والسعى إلى الانتقام من تلقاء نفسها من تنظيم داعش، أو أن تنتهج الطريق الثانى وهو العمل مع الغرب، خاصة أنه فى السنوات الأخيرة، اشتدت حدة التوتر بين روسيا والغرب. وأضاف كورتنى أن على موسكو التعاون مع واشنطن فى الحرب على داعش، واختتم تقريره بأن حادث الطائرة سيؤدى إلى موجة تغييرات فى السياسة بالنسبة لروسيا، وعلى الغرب ألا يتردد فى السير مع موسكو فى مسار أكثر إيجابية وانفتاحا. والحادث شهد زخما كبيرا خلافا لما هو مألوف فيما يخص حوادث طيران شتى شهدها العالم ولا يزال، وبات الاهتمام العالمى واسع النطاق إلى حد مبالغ فيه سببا من أسباب القلق فلم يسبق لواشنطن ودول الاتحاد الأوروبى ومن ورائها إسرائيل، أن انشغلت بهذا النوع من الكوارث حتى إنها تقوم بعمليات التحقيق والبحث الجنائى والتحليل الفنى بنفسها ودون طلب كما حدث. وزعمت واشنطن أن أقمارها الاصطناعية رصدت ومضادت حرارية قرب الطائرة فى الجو، ومكالمات هاتفية بين فصائل إرهابية فى سيناء تابعة لداعش مع قيادات التنظيم فى مدينة الرقة السورية، تتضمن إشارات على تنفيذ عمل إرهابى فى سيناء، ثم التباهى والتفاخر فى مكالمات لاحقة بإتمام هذا الأمر ونجاح المهمة، ومادام كانت قد رصدت تلك المعلومات من قبل لماذا لم يتم تزويد المخابرات المصرية بها حتى لا تحدث تلك الكارثة؟.