يستحق عبدالحليم حافظ أن نضع له تمثالا فى كل ميدان وأن نصدر عنه كتابا فى كل عام وأن نخصص له مساحة دائمة فى برامجنا وأن نقيم له الأفراح والليالى الملاح فى يوم ولد ويوم غادرنا.. فقد كان تجربة تستحق الدراسة ونموذجا ينبغى لمن أراد النجاح أن يستذكرها جيدا، ففى سلوك وفكر وتاريخ هذا الإنسان الاستثنائى مالم يتوافر لغيره من بنى البشر الذين اختصهم المولى عز وجل بموهبة فى جمال الحنجرة هى بمقياس الأصوات موهبة محدودة. صوت مساحته ضيقة ولكن هذه المساحة الضيقة كانت شديدة الخصب فهى أشبه بقطعة أرض تساوى قيراطا واحدا فى جزيرة وسط النيل إنتاجها بالتأكيد أفضل من ألف فدان فى بحر الرمال العظيم لا يزرع ولا يحصد سوى حبات الرمال ولكن.. ما أعظم العقل المنير الذى تولى رعاية وعناية هذه المساحة المحدودة الخصيبة فى إنتاجها.. هنا يكمن سر النجاح وسر البقاء وسر الطغيان وسر احتلال العندليب الأسمر لقلوب وعقول قاطنى المساحة الممتدة من المحيط، حيث الدار البيضاء وحتى حدود الخليج العربى فى أقصى أطرافه.. كان قيراط الحظ والصوت الذى صرفه له المولى عز وجل كفيلا لسد احتياجات أمة العرب وإشباع حاجاتهم الوجدانية، كان إنتاجه يكفى ويزيد بل وقابلا للتصدير فقد وقف ذات يوم ليغنى فى قاعة البرت هول فى بريطانيا أمام جمهور الخواجات وحدث الشىء نفسه فى باريس.. لقد تعاقب على هذه الأمة مطربون بعدد شعر الرأس ما طار منه وما تبقى ولكن لماذا أنت وحدك أيها العندليب الذى بقى وعاش بعد الموت رغم طول الغياب.. إن البيئة بالتأكيد لها دخل عظيم، فهى الحضانة التى ترعى الموهبة فإما أن تجيد تربيتها وتغذيتها بكل ما يصقل هذه الموهبة وإما أن يأخذ الموهبة ويضع مثلما يضع سائقو أتوبيسات هذا الزمان ومن فوق الكوبرى إلى حيث قاع النيل.. إنه مثل العظماء.. جاء إلى الدنيا يتيما، هنا لن تتولى احتضانه امرأة واحدة تؤثر فيه وتلقنه ما عرفته وعركته فى الحياة فيصبح أسيرا لما عرفت وما علمت بل إنه جاء إلى الحياة لا يعرف أين ولا كيف، فوجد بدلا من الأم.. أمهات.. كانت كل النساء المرضعات يتسابقن لإرضاعه.. ليه؟! لأن عندنا فى الموروث الشعبى إذا أردت لعيالك طول البقاء فعليك أن تشحت لهم ملابسهم أو ترضع عليهم يتيما.. وهكذا بدلا من أن تكون له أم واحدة أصبحت الأمومة على المشاع.. كل المرضعات أمهاته، وقد جعل الله سبحانه وتعالى فى عملية الإرضاع ألف باء تذوق الفن.. فالإيقاع الذى يسمعه الجنين فى بطن أمه وهو دقات قلبها يجعله إذا اقترب من ثديها يأمن إلى أن صاحبة الثدى هى نفسها صاحبة الإيقاع الذى استمع إليه فى بيئته الأولى لمدة تسعة أشهر.. وهكذا كتب على العندليب الأسمر أن يأنس إلى كل الإيقاعات المختلفة وأن يثرى ذوقه وذاكرته وأن يستوعب أكبر كم ممكن من هذه الإيقاعات التى هى كما بصمات اليد لا يمكن أن تتكرر على الإطلاق.. هنا تحول الإيقاع إلى عزف متلون متنوع، وبدأت أول علاقة له بالموسيقى الربانية القادمة على ضربات قلوب الأمهات المرضعات، وربما كان عليه أن يدرك وهو فى سن الرضاعة مقولة سيد درويش أعظم من تصدى للموسيقى فى أمة العرب.. إن الموسيقى أصوات متآلفة.. تحدث أنغاما بواسطة اهتزازات تنجذب لها الأفئدة.. فما بالك باهتزازات الأفئدة نفسها اللى خبرها حليم!! ويا سبحان الله.. الولد اليتيم الذى وجد وفرة فى حليب الأمهات عندما اشتد عوده أصبح لا يجد ما يشبع جوعه فمنذ مولده وحتى العام 1953 كتب على عبدالحليم حافظ أن يعمل بالمثل الدمياطى تتعشى ولا تنام خفيف أحسن، وكان عبدالحليم على طول هذا الزمن ينام خفيف أحسن فإذا توفرت وجبة الإفطار عزت وجبة الغداء.. وبالطبع لم يكن العشاء موجودا فى قائمة الطعام.. واضطرته تصاريف الزمن لكى يعيش فى بيت خاله، وهنا بدأت حساسيته فى النمو والنماء والازدهار، فهو لا يستطيع أن يطلب شيئا إلا ما يتفضل به الخال ولم يكن النقص فى سد احتياجات المعدة فقط.. ولكن فى الجيب الذى كان أشبه بجيوب الكفن، وفى الملبس الذى كان يستمتع به بحاسة النظر فقط ولا يجرؤ على أن يطلب أو يلبس، فلم يكن هناك أب ولا أم تستطيع أن تطلب من أى منهما باعتبارك قطعة من لحم الأم ومن ظهر الأب.. ولكن حليم كان مكتوبا عليه أن يمضى فى الطريق وحيدا تنطبق عليه مقولة «دارون»: «إن الحياة تنتخب الأصلح للبقاء فإذا كان يصلح للبقاء فسوف ينجو ويستمر ويعيش».. وقد منح المولى عز وجل لحليم مناعة ضد كل أوبئة المكان والزمان ويكفى أنه نجا من الطعام الذى كانوا يقدمونه فى الملجأ وهو عبارة عن أرز له لونان مرة يصبح أسود ومرة ثانية يأخذ الشكل البنى.. وفى أيام الإجازة كان شأنه شأن كل طفل مصرى فى الريف يأخذ طريقه نحو الترع والمصارف وأحيانا المستنقعات وأصيب حليم بمرض المصريين الأشهر البلهارسيا فزاده المرض تقربا إلى الناس.. ويلتقى حليم الذى تعلم النفخ على آلة الأبوا بصديق ليس له مثيل فى دفتر أصدقاء حليم وهو كمال الطويل، وكانت هذه الآلة الموسيقية فى حاجة إلى تدريب قاس للتحكم فى الأنفاس لإحداث النغمات المطلوبة وكان هذا التحكم هو أحد أهم أسباب تحكم حليم فى مساحة صوته واللعب بها وفيها لكى يستثمر المساحة الضيقة للصوت لكى ينتج أعزب وأخصب ما يمكن أن يخرج من حنجرته الذهبية، ويا سبحان الله يكتشف حليم وهو يغنى أن له صوتا نديا فيعجب به ويظن أنه ذلك الإعجاب الذى يصيب كل البشر، فإذا ما اختلى أحدهم بنفسه فى الحمام قام بالغناء وحصل له انشكاح عظيم.. ولكن الذين اقتربوا من حليم واستمعوا إليه حدث لهم نفس الانشكاح ودخلت إلى قلوبهم بهجة وأحسوا بمتعة، ولذلك اقترح كمال الطويل أن يذهب حليم لمقابلة أشهر وأعظم مطربى عصره عبدالوهاب وبالفعل اتجها معا إلى حيث يقيم عبدالوهاب، وعندما فتح الباب ألقى نظرة من الأعلى إلى الأسفل على حليم والطويل وقال حليم.. إنه جاء خصيصا من أجل أن يسمع الأستاذ صوته.. هنا استأذن عبدالوهاب وعاد بعد أقل من دقيقة ومعه نقود دسها فى أيدى حليم.. فألقى العندليب بالمال على الأرض وتمنى لو أن الأرض انشقت لتبتلعه.. نفس هذا الرجل الفنان العظيم محمد عبدالوهاب هو الذى سعى لاحتضان حليم وحقق من ورائه ثروة لا يمكن أن نعلم حقيقتها.. وقد استطاع حليم بعد أن رفض عبدالوهاب أن يستمع إليه أقول ذهب إلى الإذاعة، حيث لجنة الاستماع، وذلك بعد رحلة شقاء وضنا وعمل بالوظيفة الحكومية كمدرس للموسيقى، ثم رفض الوظيفة والعمل عازفاً فى فرقة موسيقية، فإذا به مؤخرا يأخذ دوره فى الامتحان أمام لجنة مكونة من القصبجى وأم كلثوم وأيضا محمد عبدالوهاب، وكانت الأغنية من كلمات الشاعر صلاح عبدالصبور وتلحين الصديق الأقرب كمال الطويل واسمها «لقاء» وكانت اسما على مسمى، فيها التقى بشاعر عظيم وملحن عبقرى واستمع إليه قمم الموسيقى والغناء فى مصر والعالم العربى.. فى هذه الليلة ولد عبدالحليم حافظ الفنان وكما احتضنته كل أمهات القرية وجد الرعاية والعناية من جميع الذين قابلوه واستولى عليهم بمجاله المغناطيسي الجاذب للبشر وعلى رأسهم حافظ عبدالوهاب.. وبالطبع رحلة حليم مع الشهرة والثراء والألم يعرفها الجميع ولكن هناك محطات توقف هو عندها كثيرا فقد تعرف فى رحلة الحياة على أجمل نساء عصره ولم تستول على القلب سوى ندرة من بنات حواء من بين اللائى التففن حوله.. أميرة عربية كانت تطارده فى كل مكان وتحضر كل حفلاته حتى حفلته فى بريطانيا وأصرت على أن تصحبه فى ذلك اليوم للسهر معها وكانت الأميرة التى صحبت حليم إلى ناد للقمار شهير جدا لا يدخله إلا علية القوم، ثم تناولا العشاء فى مطعم فخيم.. كانت هذه السيدة تحيا فى عواصم أوروبا وتنتقل بين شققها وبيوتها الفاخرة التى تملكها وبين الفنادق التى تأوى إليها أحيانا.. وتبادلت أطراف الحديث عن الحب والزواج وتطرق الكلام إلى السياسة، وغضب حليم عندما حدث تطاول على شخص ناصر وتهكم على ما وقع فى 67 وما أدراك إذا غضب ال.. حليم فثار وهاج وأطلق فى اتجاه الأميرة من الاتهامات ما أسكتها فندمت المرأة وشعرت أنها أهانت كبرياء فنان آمن بالثورة وشارك فى وصولها إلى البسطاء وغنى لأفراح بلاده وحشد الحشود من أجل معركة الكرامة.. وتحطمت آماله وازدادت آلامه بعد الوكسة التى تعرضت لها بلاده بفضل تآمر الجميع، وهنا كان على الأميرة أن تلطف الأجواء. فدعت حليم إلى أن يراقصها على نغمات حالمة.. احتضنته واقتربت كثيرا منه إلى أن يستسلم، وقال: أنت تتكلمين عن مشكلات مصر وهموم المجتمعات العربية بينما أنت اخترت أن تعيشى خارج حدود العالم العربى.. وبدأ همس العيون يداعب أوتار القلوب، ويسرح حليم إلى عالم يعيده إلى صباه المبكر وكيف أن ملجأ للمشردين والبائسين والضائعين احتضنه فى أيامه الأولى، وكيف رماه الزمن من أحضان الملجأ إلى أحضان أميرة.. و.. كانت أميرة لقبا وشكلا.. وصحيح ما أعجب تصاريف الزمان منذ دقائق لعب حليم بالفلوس.. وكان ينام الليل ليكمل عشاءه نوما، وكان ينظر إلى الطعام ويتمنى أن يحدث اللقاء بين اللحوم على وجه التحديد ومعدته التى أصابها الصدأ من كثرة الجبن والخبز.. وها هو الزمان يتبدل.. الطعام ممنوع ليس بسبب ضيق اليد ولكن بأمر الطبيب.. والفلوس أصبحت أكثر من الهم على القلب كما قالت له يوما ما صوفيا لورين.. أنت مطرب أغنى أمة على الأرض.. يستطيع أثرياء هذه الأمة أن يصنعوا لك حمام سباحة من الجنيهات الذهبية، فى هذا اليوم أدرك حليم أنه لم يأت إلى الحياة لكى يهنأ ويسعد بما فيها ولكن لكى يؤدى دورا ويترك أثرا سوف يخلده الزمان.. ومن أجل الحفاظ على المهمة قرر أن يحفز كل قدراته من أجل أن يذهب إلى أقصى مدى ممكن.. وكانت معركته الحقيقية هى البقاء والغناء ما أمكنه ذلك.. فحارب المرض الذى نهش كبده.. والكبد هو أحد ثلاثة شركاء بالنسبة للكيان البشرى وهي القلب والمخ.. إذا انضرب أحد هؤلاء الشركاء.. انفضت الشركة وكتب عليها الخراب والفناء.. وقد أصيب العندليب فى أحد أهم الشركاء وعلى رأى الشاعر العربى القديم الذى كان شاغله أيضا كبده المعطوب والذى خلد ألمه حين قال: لى كبد مقروحة.. فمن يبادلنى إياها بكبد غير ذات قروحى أباها الناس علىَّ.. لا يشترونها فمن يشترى ذا علة.. بصحيح كان عليه أن يقاتل من أجل مقاومة البلهارسيا ومنعها من تدمير خلايا الكبد.. وكان عليه أن يدير الصراع من أجل البقاء على القمة منفردا.. فإذا ظهر أحدهم فإن ظهوره ينبغى أن يكون مؤقتا ولأسباب خاصة سرعان ما ينتهى بمجرد انتهاء هذه الأسباب وبذكاء خارق لم يتوافر لبشر من بين أهل الفنون استطاع حليم أن يقف أمام كل من تصدر للمشهد الغنائى.. فأحدث ثورة فى الأداء، كان من أولى بشائرها أن قضت على جيل عبدالوهاب وحل محله لا أقول جيل جديد.. ولكن وافد جديد كان هو القائد والمعلم والملهم والزعيم وهو المفكر والملحن والكاتب والشاعر والمدير والصحفى والإعلامى.. نعم كان حليم هو كل هؤلاء دون مبالغة.. صحيح أنه سلب البعض شيئان أسباب النجاح وصحيح أنه غنى ألوانا من الغناء لم يطرق بابها من قبل ولكن حدث أن أحدهم لعلع وطلع فى العلالى بفضلها، وصحيح أيضا أنه أخرج نفسه من آخر منافسة وضعته فيها الصحافة وجعلت رأسه برأس فنان شاب صعد بسرعة الصاروخ.. ورأى حليم أنه أعظم قامة وأكبر قيمة منذ أن يوضع مع شاب صغير مبتدئ فى موضع المنافسة التى تبطل أن يتعادل الطرفان أو يتساويان، فإذا به يستمع ذات يوم إلى شاب صغير لأسرة سكندرية فيعجب به حليم، وكما فعل حافظ عبدالوهاب معه فى بداية الطريق منح حليم للشاب الجديد اسمه فأصبح عماد عبدالحليم وأصبح عماد فى حالة منافسة مع شاب يكبره بسنوات قليلة، كان منذ فترة موضع منافسة مع حليم فإذا به بفضل ذكاء حليم يصبح هانى شاكر فى منافسة مع ولد جديد خارج بشوكه من الإسكندرية وخرج حليم من هذه المنافسة الظالمة ليبقى على الهالة المضيئة والشمعة المنيرة والحالة الدائمة للبهجة بعيدا عن أى مقارنة أو منافسة. إنه عبدالحليم شبانة ابن قرية الحلوات الذى مات ولا يزال أثره باقيا ومضى من عالم الأحياء بينما الأحياء لا يزالون يذكرونه ويستمعون إليه ويعشقون أغانيه وينجذبون له مطربا وممثلا.. بل إنه ومع شديد الأسف.. وبعد أن صام أهل مصر عن الثورة منذ عقود طويلة من عمر الزمان، فإذا بهم يصنعون ثورتين متتاليتين.. ولم يجد هذا الشعب الصابر العظيم من يمثله ويغنى لآماله وطموحه ومشاعره سوى هذا العندليب الأسمر الذى رحل منذ أربعة عقود من عمر الزمان ولا تزال صلاحيته باقية ومفعوله مضموناوتأثيره عظيما. ألم أقل لحضراتكم.. إنه يستحق منا تمثالا فى كل ميدان وكتابا فى كل عام وبرنامجا فى كل يوم وندوات ودراسات لكى تكتشف هذا السر العظيم الذى ذهب دون أن نكتشفه، إنه الفنان الأوحد فى العالم الذى استطاع أن يحنط فنه ويتركه لنا ليبقى شامخا كالأهرامات وأبوالهول والمعابد.. إنه المصرى العظيم الذى رضع من نيل مصر وأكل من طينها وعاش كنبتة طيبة صالحة أخرجت من أرضها أجمل الثمار التى أسعدت كل العرب منذ العام 1953 وحتى يومنا هذا. سبحان الله فيه ناس ماتت وهى على قيد الحياة كما تثبت أوراق الحكومة.. وفيه ناس ماتت كما تفيد شهادات الوفيات.. ولكنهم فى حياة بلادهم وأوطانهم وناسهم.. أبدا لا يموتون.. وأنت أعظم هؤلاء يا حليم.. يا من قهرت المرض وقهرت كل أنواع البلاء التى صادفتك وقهرت الفقر والعوز والشقاء.. وأيضا.. قهرت الموت.. فبقيت حيا.. بعد الممات!!∎