سهل جدا، الكتابة عن الأموات.. سهل جدا، الكتابة عن الأحياء.. الصعوبة هى الكتابة، عن أموات لا يذهبون مع توقف القلب . لا تحجبهم رقدة التراب. لا تسجنهم قبضة الكفن. صعب جدا، الكتابة، عن أموات لا يميتون. فكيف يمكن أن تجتمع، لغة «الموت»، مع لغة «الحياة»، بأبجدية واحدة؟؟ من الصعب جدا، الكتابة عن أموات، أكثر حياة ملايين يتنفسون، ويأكلون، ويتكاثرون، ويستهلكون الحياة، كأنها قطعة من اللحم، او الصابون. ماذا أكتب عن «العندليب»، فى الذكرى الخامسة والثمانين، للميلاد؟ ماذا أكتب، عن «حليم» ، الذى لم يكن أبدا «حليما» بنا. فقد قَلب مشاعرنا، وغَيَر نفوسنا، وبدَل أمزجتنا. وتركناه بكل طيب خاطر، يعيد تعريف الغناء، والحب، والثورة والوطن. وأتساءل عن تلك المرأة، التى حملت «العندليب»، فى أحشائها. هل شعرت بأن «الجنين»، الذى يتحرك بداخلها، سوف يحرك يوما، قلوب، وعقول، الملايين؟ هل شعرت بقلب الأم، الذى لا يخطئ، أنها تحمل فى بطنها، وجدان شعب، كان متعطشا للغناء، والتمرد، والعشق؟ منْ تلك المرأة، المجهول، فى التاريخ، المنسية من الذاكرة، التى تحملت آلام الولادة، لكى تمنحنا، «العندليب»، ثم رحلت؟؟ وكأنها أدركت بإحساس الأم، أن حياتها، وحياة طفلها، لا يجتمعان. وقد اختارت مثل جميع الأمهات، أن تذهب هى، ويبقى الابن. مثل جميع الأمهات، ارتضت أن يطويها النسيان، حتى يجد ابنها، مكانه تحت الشمس. أتذكر «أم»، العندليب، بكل شكر، وامتنان. أضع على رأسها، تاج «الأم المثالية»، ونحن نحتفل، بعيد الأم. رغم أننى، لا أعرف اسمها، أو لون عينيها، أو شيئا من طباعها. أحببت العندليب، لأنه حين يغنى، يجعلنى أكتشف الغناء بداخلى. يغنى العندليب، فأعثر على الأنشودة المفقودة، فى صخب الكذب، والقبح، وعدم العدالة. يجعلنى أرغب أكثر، فى تغيير العالم، حتى يصبح، جديرا، بصوته الساحر. كان يغنى، مثلما يتنفس، ويتكلم، ويغضب، ويتألم، ويحزن، ويفرح. يغنى، فلا نعرف، أين ينتهى الغناء، وأين يبدأ هو. لم يكن يغنى، بصوته. وإنما بدمه، وأعصابه، وبكل ما تبقى، من الكبد المنهك. الغناء، عند «حليم»، ليس مجرد استجابة، للموهبة المولودة معه. وليس وسيلة للشهرة، وكسب المال. غناؤه، كان «موقفا»، من الحياة. و«رأيا»، فى الوجود. وكان سلاحه الوحيد، لقهر المرض. هو الذى ينهش المرض، فى جسده النحيل، ويعرف مصيره المحتوم، كان أكثر اشراقا، وحبا للحياة، من الملايين الأصحاء. وكان يؤمن، بأن الحياة جميلة، وتستحق ان تُعاش، رغم كل آلامها، وأحزانها. كان المرض، سببا أقوى، للمزيد من الاستمتاع بالحياة. فى حفلات شم الربيع، كان «فريد»، و«حليم»، يتنافسان، أيهما يجذب الجمهور حوله. لكن «حليم»، رغم موهبته المرموقة، وشعبيته الضخمة، لم يضع نفسه، أبدا، فى مقارنة، مع «فريد». كان يُكذب الشائعات المغرضة، التى تقول، إن هناك، عداوة، أو خصومة، بينه، وبين «فريد». ومن أجمل الأشياء، التى قالها، وأنهت الشائعات، «أنا مغن ومطرب فقط.. لكن فريد، مغن ومطرب وملحن ومؤلف موسيقى، والمقارنة غير واردة». مرة، سُئل «عبدالوهاب»، عن أمنيته. فقال «أتمنى أن أظل هاويا للفن». أحد أسرار العندليب، أنه ظل، وهو فى أوج شهرته، «هاويا»، للفن. كما تمنى عبدالوهاب. والفارق بين، الهواية، والاحتراف، كبير. الهواية، هى دفقات العشق، وعنفوان الفرح، وحب المغامرة، وجرأة المخاطرة، والدهشة الطازجة، دون حسابات المكسب، والخسارة. بمعنى آخر، الهواية، هى أن يبدع الفنان، بمحض اختياره، دون أن «يجنده» أحد. أى أن الفن خالص لوجه الفن. اذا خُيرت بين أغنيات «حليم»، سوف أختار البدايات، التى شهدت أغنيات، مثل «لحن الوفاء».. «على قد الشوق».. «صافينى مرة».. «يا مواعدنى بكره».. «لا تلمنى».. «لايق عليك الخال».. «يا حلو يا أسمر».. «أسمر يا أسمرانى».. وهى أيضا، المرحلة، التى شهدت بدايات، «محمد الموجى»، و«كمال الطويل». وفى القصائد اختار، «أنت قلبى»، و«حبيبها». ليس «العندليب»، واحدا من المغنين، أو المطربين. لكنه، الغناء «شخصيا»، فى ذروة تأنقه، وفخامته، وشياكته، وحكمته، وأسراره. يغنى «حليم»، فأشعر أن «الدنيا»، مازالت بخير.. وأن «الحب»، لا يزال بخير.. وأن «الوطن»، مازال بخير.. وأن «قلبى» مازال بخير. وأكتشف، أن «حليم»، مثل النبيذ، يزداد روعة، مع مرور الزمن. يغنى «حليم» ، فأهمس أحيانا، وكأننى أوجه رسالة اليه.. «نم مطمئنا فوسادة الغناء لاتزال خالية».