تحل الذكري ال38 لرحيل العندليب عبدالحليم حافظ يظل صاحب أجمل صوت في عالم الغناء العربي حتي الآن.. وصاحب أغرب قصة حياة لا تتجاوز السبعة والأربعين عاما.. عاش نصفها الأول في مذلة اليتم والفقر منذ يوم مولده.. ونصفها الآخر في صراع محموم سعي فيه لإثبات الذات وأحقيته في التربع علي عرش الشهرة والنجومية بلا منافس.. ورغم مرور هذه السنوات الطويلة علي رحيله.. لكن عبدالحليم مازال متوهجا حاضرا بيننا بفنه وأغانيه وأفلامه، ولم ينقطع الاحتفال بذكراه في نهاية مارس من كل عام سواء في الإذاعة أو التليفزيون أو الصحافة.. ولا يخفي علي أحد أن هذا العملاق الغنائي الذي أسعد الملايين وغمر قلوبهم بالفرحة رسم أيضا علي شفاههم البسمة للصغير والكبير والرجل والسيدة والفتي والفتاة ومن أحب ومن لم يعرف الحب.. ولهذا استحق أن يطلقوا عليه من خلال أغانيه سيناترا العرب.. وقد لا يعلم البعض أيضا أن العندليب الأسمر موجود في نسيج حياته المضيئة والمبهرة وهالته الإعلامية وذكائه الاجتماعي جوانب أخري بها خفايا وخبايا وأسرار وخلافات أهمها مع سيدة الغناء العربي الراحلة أم كلثوم.. بالإضافة لدموع وغراميات وبكاء وضحك من القلب وحب فاشل وانكسار ودموع بلون الدم بعد أن انتهت رحلة العمر عندما لفظ أنفاسه الأخيرة بأحد مستشفيات لندن نهاية مارس 1977 تاركا للجميع ذخيرة من الكنوز الرائعة الفنية وخاصة لمن يريدون الاستفادة من المعاني الإنسانية في كل كلمة تغني بها وعايشها كل المستمعين في مصر والعالم العربي بإحساس مرهف ومشاعر صادقة.. ولمن يريدون أن يعرفوا أن كل شيء في حياة العندليب يصلح لأن يكون عنوانا لموسوعة تُدرس في الغناء والتمثيل الراقي.. وخلال الغوص في السطور القادمة نحاول البحث في ظاهرة عبدالحليم ومشوار حياته ومأساته وعلاقته بالأساتذة الكبار وظروف مرضه الصعب وارتباطه بشائعات زواج سعاد حسني وإش إش ابنه محمد عبدالوهاب وقرار المشير عامر بمنعه من الغناء في أعياد الثورة ثم عودته بأمر الرئيس عبدالناصر.. وحكاية عشق نجمات السينما المصرية لمعبودة الجماهير والخطايا والوسادة الخالية وحكاية حب وفتي أحلامي والبنات والصيف وشارع الحب ودليلة ولحن الوفاء.. ونستمع للفنانتين مديحة يسري وميرفت أمين والفنان حسن يوسف يتذكرون حكايات خاصة مع عبدالحليم وأشياء أخري لا يعرفها أحد عن حليم سوي قارئة الفنجان.. في البداية يعود شريط الذكريات إلي يوم 21 يونيو 1929.. وهو يوم ميلاد الفنان عبدالحليم حافظ.. وأيضا يوم حزين استقبله أهالي قرية الحلوات.. مركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية بالصراخ والعويل لرحيل أمه السيدة زينب عماشة التي توفيت لحظة ولادته مباشرة.. وكان حليم الابن الرابع للشيخ علي إسماعيل شبانة.. «تاجر الجلود بالقرية» بعد إسماعيل وعلية ومحمود.. وحتي كانت بداية مرحلة عذاب وآلام وحرمان من حنان الأم.. ووقتها اقترحت إحدي السيدات إرضاعه من ثدي أمه المتوفاة لكي يموت ويرتاح من عذاب اليتم.. إلا أن أباه أسرع وأنقذه وأخرج بعض قطرات اللبن التي كانت في فمه لينجو من الموت.. وتولت إرضاعه بعد ذلك السيدة أمينة السيد.. وبعد أن نضب لبنها أحضرت له «معزة» يرضع منها. وبمرور الوقت كتب له القدر سيناريو مأساته الثانية وحرمه من عطف أبيه في 14 مايو 1934.. وتلاها وفاة عمته وأصبح هو وأشقاؤه بلا عائل.. مما اضطر خالهم الحاج متولي عماشة إلي نقلهم إلي الزقازيق ليعيشوا معه بعد أن باعوا منزلهم في الحلوات بعشرة جنيهات.. وفي أول ديسمبر عام 1935 ذهب عبدالحليم إلي كتاب الشيخ أحمد ولكنه كره الكتاب بسبب عصا الشيخ التي كان يضرب بها الأطفال.. وبعد ذلك أدخله خاله ملجأ الأيتام بسبب حالة الفقر التي تمر بها الأسرة.. وكان حليم يفضل الملجأ الذي كان يعاني فيه من الذل والمهانة علي بيت خاله خاصة أنه كان يشعر فيه بأنه عبء وضيف ثقيل.. وخلال تواجده في الملجأ لفترة 8 سنوات ظهر فيها شغفه بالغناء والأناشيد ووصل الأمر لهروبه من الملجأ لمشاهدة فرقة تدعي موسيقي المطافئ بالزقازيق.. وهناك شعر رئيس الفرقة بموهبته واحتضنه وعلمه العزف علي آلة «الكلارينت».. وفي سنة 1939 بدأت تظهر عليه هواية الغناء.. وكان يعشق صوت الموسيقار محمد عبدالوهاب ويحفظ أغانيه. وعندما علم أن عبدالوهاب سيحضر حفل زفاف في قصر أحد الأطباء بالزقازيق تسلل إلي حديقة القصر وصعد إلي شجرة لرؤيته ووقتها سقط وكسرت قدمه وكان أول حادث يتعرض له حليم بسبب الفن. وفي إحدي المرات في نفس العام كان عبدالحليم يمارس هوايته في العوم في ترعة «الحمامة» مع أصحابه.. وفجأة توقف ولم يستطع العوم.. وكاد أن يغرق لولا أن صديقه ويدعي عبدالحليم عبدالعال أنقذه في وقت بدأت فيه رحلة عذابه مع إصابته بالبلهارسيا التي فتكت بكبده.. ويذكر أنه في عام 1940 زادت عليه أعراض البلهارسيا وتم حقنه وعلاجه بمستشفي الإنكلستوما بالزقازيق.. وفي مايو 1945 وقع عبدالحليم فوق سور منزل خاله وظن أهل القرية أنه مات.. ولكنه أصيب بكسر في الظهر وظل حبيس الجبس ستة أشهر وهكذا يكون نجا من الموت للمرة الثالثة. فرصة ضائعة وفي نوفمبر عام 45 حضر حليم للقاهرة لأول مرة مع شقيقه الأكبر إسماعيل وفي مايو سنة 50 جاءته الفرصة عندما تأخر المطرب إبراهيم حمودة عن تسجيل أغنية لأحد أركان الإذاعة.. وكان عبدالحليم ضمن الفرقة فتقدم لحافظ عبدالوهاب مراقب الموسيقي والغناء وأبيه الروحي الذي حمل عبدالحليم اسمه وعرض عليه أداء الأغنية إنقاذا للموقف.. وبعد أن استمع إليه حافظ.. وأعجب بأدائه ودخل لتسجيل الأغنية.. وصل إبراهيم حمودة وضاعت الفرصة علي حليم. وفي 22 فبراير عام 51 تمكن حافظ عبدالوهاب من اعتماده مطربا بالإذاعة وكانت أول أغنية لفتت الأنظار إليه أغنية «لقاء» من تلحين زميله كمال الطويل الذي كان يعمل موظفا بقسم الموسيقي والغناء بالإذاعة.. وتلاها أغنية «صافيني مرة» من ألحان صديقه محمد الموجي رفيق درب كفاحه، ويذكر أن ميلاد حليم الفني الحقيقي جاء بعد هذه الأغنية التي كانت أيضا سببا في كتابة شهادة تألقه وشهرته في عالم الغناء.. والمثير أن الموجي لم يلحن هذه الأغنية خصيصا لعبدالحليم وإنما لحنها وعرضها في بادئ الأمر علي مطربة كانت تعمل في صالة زينب عبده بكازينو البوسفور الذي كان يطل علي باب الحديد بميدان محطة القاهرة للسكك الحديدية.. ولكن غناءها لم يعجبه.. فعرض اللحن علي المطرب الشهير آنذاك عبدالغني السيد الذي كان يعد في منتصف الأربعينيات المطرب الثاني بعد عبدالوهاب.. ولكن عبدالغني اعتذر للموجي وأفهمه أنه لا يغني إلا لكبار الملحنين. أول صدمة فنية وفي 5 يناير عام 1955 أصيب عبدالحليم بأول أزمة مرضية ألزمته الفراش شهرا كاملا وكانت مؤشرا جديدا لرحلة عذابه مع المرض وفي 15 يناير عام 1956 فاجأته أزمة مرضية حادة جاء معها لأول مرة النزيف الذي لازمه حتي نهاية عمره.. وفي عام 1957 سافر إلي لندن بعد أن ساءت حالته الصحية وأجري عملية استئصال الطحال. وفي يوليو 62 انتشرت شائعة زواج عبدالحليم حافظ من الفنانة الراحلة سعاد حسني في مدريد.. وأصل الحكاية يرجع لوجود مشروع لإنتاج فيلم يلعب بطولته عبدالحليم ووقع الاختيار علي رواية غادة الكاميليا للأديب الفرنسي إسكندر ديماس علي أن يكتب السيناريو «لوسيان لامبير» وهو مصري الجنسية من أصل أرمني وتم ترشيح المخرج يوسف شاهين لإخراج الفيلم الذي قام بدوره بتعديل الشخصية التي يلعبها حليم حيث يعمل مدرس فلسفة ليكون مذيعا في الإذاعة.. وحدث بعض التغييرات في الرواية.. ولكن رفض عبدالحليم التغييرات وتمسك شاهين برأيه فتوقف العمل.. وكان عبدالحليم قد رشح سعاد حسني لأداء دور البطولة.. وعلي هذا تكررت اللقاءات في منزله حتي أصبحت سعاد قاسما مشتركا في أي جلسة أو سهرة أو اجتماع وعندما سافر عبدالحليم للمغرب للاشتراك في حفلات عيد جلوس الملك الحسن كانت سعاد من بين الضيوف وبقيت في المغرب طوال فترة إقامته هناك التي استغرقت أكثر من شهر وهكذا نشرت الصحف والمجلات الأخبار والأحاديث واللقاءات التي كانت تتم بين سعاد حسني وعبدالحليم. وتعتبر الفنانة القديرة مديحة يسري أشهر أمهات عبدالحليم علي شاشة السينما حيث قدمت دور أمه في فيلم الخطايا.. وما إن تحدثنا معها حتي قالت يرجع الفضل في معرفتي بعبدالحليم حافظ إلي الموسيقار الكبير الراحل محمد عبدالوهاب حيث كنا نجتمع في منزله كل فترة مع محمد فوزي وكبار الملحنين والمؤلفين.. وعبدالوهاب هوه اللي عرفني بعبدالحليم وكنا نجلس معا حتي الصباح لسماع الألحان والأغاني الجديدة لكل منهم.. وتضحك مديحة يسري وهي تتذكر أن عبدالحليم في الفيلم كان يحضنها ويقبلها لأنه ابنها.. وفي يوم التقيا في إحدي الحفلات وتقدم لتهنئتها وهو يقول أنت ماما علي الشاشة وفي الحقيقة أيضا. وفي سياق ذكري رحيل العندليب يتذكر الفنان حسن يوسف هذه الأيام ويقول لن أنسي أن عبدالحليم طلبني لزيارته في المنزل.. وقال لي بالحرف أنت من ستلعب دور أخي في فيلم «الخطايا» فكيف سنمثل دور الأخوين ولم نلتق إلا مرة واحدة.. وطلب مني أن أقيم معه في المنزل حتي موعد بداية التصوير وعشنا كأننا أخوان حقيقيان وكان يبادلني الود ليس بدافع العمل ومعايشة الدور وإنما كان شعورا حقيقيا عنده.. فهو كان حريصا علي إسعاد من حوله.. وتمتعهم بما هو محروم منه.. ولا أنسي أني طلبت منه ذات مرة شوربة كوارع ولحمة رأس وكم كان سعيدا وهو ينظر لي وأنا مستمتع بالأكل.. بينما هو يأكل الجبن والخبز فقط.. أخيرا تنتهز الفنانة ميرفت أمين الفرصة لتؤكد بعد علمها بذخائر حجرة ذكرياته أمنيتها في أن يدخل فنه متحف الفن ويصبح تراثاً غنائياً تستفيد منه الأجيال القادمة بدلا من أغاني التيك أواي التي سببت لنا تلوثا سمعيا.. وتكمل ميرفت أمين وتقول إن عبدالحليم لم يحب إلا فنه فقط ولم يخلص إلا لجمهوره ولا أخفي سعادتي بأني مثلت أمامه وغني لي 3 أغنيات في فيلم أبي فوق الشجرة وهو الفيلم الذي يمثل عندي قيمة كبيرة إلي جانب دوري في فيلم زوجة رجل مهم حينما أديت شخصية الفتاة التي تعشق عبدالحليم وتحفظ كل أغانيه.. وأتمني أن يتعلم الجميع من إنسانيته والصدق في كل تعاملاته.. حتي يعرفوا لماذا تحول العندليب إلي أسطورة.