إذا كان الشاعر الراحل محمود درويش يقول فى وصف الجميلات «نقش الكمنجات فى الخاصرة، الجميلات هن الضعيفات، عرش طفيف بلا ذاكرة، الجميلات هن القويات، يأس يضىء ولايحترق»، فإن واقع الحال المصرى القائم، بكل ما فيه من ابتعاد عن الشاعرية، يصرخ قائلا: «الجميلات هن الفقيرات المتعبات الكادحات، الغائبات عن برامج الفضائيات، المنفيات من كل الخطط التنموية». واقع مرير يزداد قسوة فيما العالم يحتفل باليوم العالمى للمرأة.. أية امرأة، ربما سيدة الأعمال أو زوجات رجال الأعمال والفنانات ومن على شاكلتهن من نساء الطبقة المخملية. الجميلات هن الكادحات.. نكرر العبارة، نعلنها فى وجه الواقع القبيح الذى يقول أيضا أن ما نحو 60٪ من النساء العاملات لايحظين بحماية تعاقدية أو تأمينية، وذلك حسب دراسة أجراها مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالتعاون مع وزارة القوى العاملة وهيئة الأممالمتحدة. الدراسة توضح أن نصف العاملات من دون عقود لايحصلن على راتب شهرى أو إجازات اعتيادية ونحو 80٪ منهن لايحصلن على زيادة سنوية، بينما 10٪ من اللواتى يعملن بمقتضى عقود لايحصلن على رواتب شهرية.. بعبارة أخرى، يكون الراتب «حسب التساهيل.. والرزق على الله». هكذا تكشف الأرقام المجردة عن الواقع، لكن إلى جوار الأرقام، ثمة حكايات أشد مرارة.. ∎ حكايات «الجميلات الكادحات». «أم أدهم» جميلة كادحة، تقف بعبائتها السوداء وتلف شعرها بمنديل رمادى «مدوَّرة» على كوبرى قصر النيل لبيع الورود، تبدأ عملها من العاشرة صباحا حتى منتصف الليل. على ملامحها ترتسم علامات التعب، لكن هذه العلامات لا تخفى ابتسامتها التى ترحب بكل عابرى الطريق. تقول: الورد جميل لكن الناس لم تعد تشتريه، إن الظروف الاقتصادية تحرم الناس من رغيف الخبز، فكيف يشترون الورد؟ وتعمل «بائعة الورد» فى هذه المهنة منذ 18 عاما، ولم تنقطع عنها سوى فى هدنة قصيرة، حيث تزوجت نحو عام، فأنجبت طفلا، ثم كان الطلاق وكان الرجوع إلى المهنة المتعبة، حتى توفر لقمة العيش لصغيرها. وتضيف: أنا من سكان حلوان أنفق يوميا 15 جنيها أما عما أكسبه فقد يحدث أن أكسب 50 جنيها، وفى بعض الأحيان لا أعود إلا بعشرة جنيه. وتتحدث بمرارة: نفسى أرتاح وظهرى أصبح يؤلمنى للغاية لقد كبرت فى السن، إلى متى سيستمر هذا الوضع الأليم؟ الجميلة الكادحة الثانية، أم حنان تلتقط طرف الحديث بدورها، حيث تقول: عايشة عند أهلى بلقمتى، فالستات فى بلدنا مينفعش يرجعوا بيوت أهلهم بعد الطلاق. مشيرة: بيع الورد محتاج فن، لابد أن تحب البائعة نفسها الورد الذى فى يدها حتى تتمكن من توصيل ذلك الإحساس لكل اثنين بيحبوا بعض على قصر النيل. تقول فاطمة على 18 عاما: خرجت من المدرسة فى المرحلة الإعدادية وأعمل مع أمى فى بيع الورد ونقسم الشغل بينا طوال الأسبوع، والدى موجود ولكن لا ينفق على أخواتى الأربعة. بائعات وسط البلد جميلات آخريات - منهن مريم سيد - 26 عاما - حصلت على ليسانس حقوق جامعة القاهرة تقول: وكالعادة بعد رحلة بحث عن وظيفة، تذمر أهلى من الإنفاق المستمر على حتى بعد انتهاء الدراسة، وكانت كلمات أبى كالطلقة «ماتشتغلى أى حاجة إن شاء الله بياعة فى محل» وقد كان. وعملت مريم فى أكثر من 7 محال لبيع الملابس بوسط البلد حتى الآن، وفى كل مرة تترك فيها العمل يكون السبب أن صاحب المحل متحرش ويريد أن تجاريه. وتقول: تعبت ونفسى أرتاح طبعا وخايفة من بكره، مفيش دخل ثابت يحمينى فى ظل رفض الأسرة الإنفاق، بالإضافة أننى تعلمت الحقوق لأصبح محامية لا بائعة، ومفيش حد بيتكلم عنا وعن مشكلات العمالة غير الرسمية، حقوقنا ضائعة. تقول «أم مجدى - 44 عاما - وهى أم لسبعة أولاد من قرية «كوم اشفين» التابعة لمركز قليوب: أعمل فى هذه المهنة منذ سن العاشرة، وكانت أمى تصطحبنى يوميا إلى السوق لبيع الخضار، مشيرة أنها كانت تستيقظ من الفجر لشراء المحاصيل سواء كانت بطابطس أو ملوخية أو كوسة ثم تستقل العربة نصف نقل فى أول القرية مع باقى الفلاحات لكى تحملهن مع محصولهن للانتقال إلى القاهرة للبيع. ومن جانبها تقول «سهير خيرى» - 46 عاما - من قرية أبوالغيط قليوبية أنها طالما حلمت بالتعليم والدخول للمدرسة، ولكن كان طبيعة حياة البيت وباقى الأسر فى القرية هو عدم تعليم عيالهم سواء بنات أو ولاد، فالأسرة تنجب أكثر من 10 أطفال حتى يساعدوا الأسرة على الإنفاق والعمل فى الأراضى الزراعية. أضافت أنها تزوجت وعمرها 15 عاما من رجل يكبرها ب20 عاما وكعادة بنات قريتها، استكملت عملها فى المزارع فى جنى المحاصيل ثم أصبحت تنتقل لبيع المحاصيل بسوق الخازندار بشبرا، مشيرة إلى أنها كانت تعمل حتى أثناء الحمل للشهر السادس أو السابع، حتى إن فى بعض مرات الحمل تعرضت للأجهاض نظرا للمجهود الذى بذلته أثناء جنى محصول البرتقال ونقلها للأقفاص على السيارات. أوضحت: المهنة صعبة لكن لا بديل، مفيش حاجة اسمها ساعات عمل، احنا بنصحى من الفجر حتى المغرب، عشان نبيع الخضار. فوقية عبدالحليم تقول: أعمل فى الزراعة منذ كان عمر 10 سنوات، أى منذ 60 عامًا، وأنا فى خدمة الأرض والفلاحة، سواء زمان فى يجنى الأرض والمحاصيل من قطن وبرتقال وطماطم.تعبت فعلاً بس ما باليد حيلة، هى شغلانة صعبة على واحدة كبيرة فى سنى، بس جوزى تعبان وملازم الفراش منذ 20 سنة، وأنا اللى لازم اصرف على البيت». منى عزت- مسئولة برنامج المرأة والعمل بمؤسسة المرأة الجديدة تقول: إن العمالة غير المنتظمة هى عمالة بلا أى حقوق أو ضمانات حمائية على الإطلاق، والنساء يشكلن نسبة كبيرة فى هذا القطاع وصلت إلى 46٪ وفقًا لإحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء لعام ,2014 ومن هذه النسبة يوجد 60٪ يعملن بدون أجر، تحت شعار العمل داخل الأسرة أو فى الأرض الزراعية مع الأخ أو الزوج فى المناطق الريفية، وتربية الدواجن والمواشى بدون أجر أو مقابل رغم أنه عمل يساهم فى الدخل القومى. أشارت عزت إلى أن هؤلاء النساء المناضلات من العاملات فى القطاع غير الرسمى أغلبهن مسئولات عن إعالة أسر كاملة، غاب عنها الزوج أو الأب، موضحة أن فى ظل استمرار سحب الدولة لدعمها للخدمات التى يجب أن توفرها لأى مواطن سواء فى الصحة والتعليم والمعيشة، كلما يقع العبء على النساء باعتبارهن الحلقة الأضعف التى يتم استغلالها فى القطاع غير الرسمى، وتقبل النساء أجورًا هزيلة للغاية حتى تتمكن من تلبية احتياجات أسرهن فى ظل فقر وغياب فرص العمل التى يجب أن تقع على مسئولية الدولة، وتظل النساء تحت سيطرة صاحب عمل يقهرهن ويحصل على إنتاج ضخم مقابل أجور هزيلة للنساء. أضافت: إن حل أزمة العمالة غير المنتظمة قابل للتنفيذ، ولكن يحتاج إلى إرادة سياسية تضع المواطن بصفة عامة وقضايا النساء وتمكينهن اقتصاديًا بشكل حقيقى على أجندة أولويتها ويتم الخروج من دائرة الشعارات الوردية إلى التطبيق على أرض الواقع. من جانبها تقول جمهورية عبدالرحيم- المدير التنفيذى لمؤسسة نساء من أجل التنمية: إن تعدد أنواع العمل التى تنخرط فيها النساء فى القطاع غير الرسمى من البيع فى المحلات إلى عاملات المنازل والعاملات فى الزراعة، والبائعات المتجولات والمناديل، يؤدى إلى زيادة العنف الواقع على المرأة حيث تواجه أسوأ أشكال العنف، ومنها التحرش اللفظى، والضرب والإهانة اللفظية والنفسية، والاعتداءات التى تصل إلى الاغتصاب خاصة مع عاملات المنازل. أضافت: إن المرأة العاملة فى القطاع غير الرسمى تضطر لقبول بيئة العمل الصعبة والمناخ الذى يغيب عنه القانون والحماية، التى تتمتع بها النساء العاملات فى القطاع الحكومى الرسمى، ومن أبرزها ضمان ساعات عمل محددة لا تزيد على 7 ساعات وفقًا لقانون العمل، وفى حال زيادتها يتم حساب الأجر الإضافى، ولكن العاملات فى المهن يعتبرن مستعبدات لأكثر من 12 ساعة. من جانبها قالت سحر عثمان نائب رئيس اتحاد العمال السابق، والمستشارة بالجهاز المركزى للتنظيم والإدارة: إن القطاع غير الرسمى يساهم فى الاقتصاد المصرى بحوالى 80٪، ومع ذلك لا يتمتع العاملون به بأى حماية قانونية، وهو ما طالبت به منظمة العمل الدولية التى انعقدت فى دورتها فى يونيو الماضى بأهمية تحويل العمل فى القطاع غير الرسمى إلى قطاع رسمى، ولكن من المؤسف أن رجال الأعمال ضغطوا حتى تأجل تنفيذ هذه التوصيات، لأنهم يعلمون ما يتكبدوه من نفقات لتوفير السلامة المهنية والصحية للعاملات. أوضحت أن مصر تعانى من فجوة نوعية وفقًا للاحصائيات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فيما يتعلق بالمساهمة الاقتصادية بين الرجال والنساء لمصلحة الرجال، حيث تتمثل نسبة مساهمة النساء فى النشاط الاقتصادى ب2,20٪ بينما الرجال 8,79٪، وتتسع الفجوة النوعية فى الأجور لصالح الرجال بنسبة 8,13٪. أما عن غياب دور المجلس القومى للمرأة فى سياسات تمكين اقتصادى حقيقية، فقالت أن المجلس يعمل وفق البيروقراطية الحكومية وغير القادرة على الوصول بالنساء المصريات إلى المكانة اللائقة بهن، متسائلة أين النتائج التى حققها المجلس منذ إنشائه 2001-2015 حول التمكين السياسى والاقتصادى والاجتماعى للنساء؟ كم عدد النساء اللاتى تولين منصب وزير أو محافظ حتى الآن؟∎