كانت الهزيمة أمام العصابات الصهيونية زلزالا عنيفا فى قلب إحسان عبدالقدوس، فالرجل الأقرب إلى الطبقة المخملية بحكم النشأة، والأديب الذى جعل من المرأة قضيته الأولى، لم يعد بوسعه أن يبتلع المرارة.. وكان عليه آنذاك أن يتحول إلى «إحسان الجورنالجى» صاحب الخبطات الصحفية، التى ساهمت بدرجة ما فى إشعال شرارة ثورة يوليو. الاقتراب من الجميع، والوقوف على مسافة واحدة من كل القوى، ساهم فى أن تتكدس بين يدى إحسان «كومة من المعلومات»، منها ما تعلق بفساد القصر، الذى أفرز فساد صفقات الأسلحة، فالخيانة، فضعف الجيش، فالاستسلام للاستعمار الإنجليزى. المحنة النفسية التى عصفت بالمصريين، كانت فى شق منها منحة، فالنار التى اشتعلت فى الصدور، أعادت صهر النفوس، وأيقظت فى الدماء نيران الكرامة، فإنما هو «الاستقلال التام أو الموت الزؤام». فى هذه الغضون توثقت الصداقة بين شابين طموحين، اتفقت أحلامهما على ضرورة انتزاع مصر من براثن الفساد، وعلى أن الدنيا تؤخذ غلابا، وكان الشابان هما البكباشى جمال عبدالناصر، والأديب الصحفى الثائر إحسان عبدالقدوس. العلاقة بين الضابط والصحفى، أسفرت فيما أسفرت عنه، فى أن لمس كلاهما فى الآخر صدقا وطنيا.. الضابط يدعو لثورة ويجهز لها مع مجموعة الضابط الأحرار، ويعلم جيدا أن الصحفى قد يكون جسرا لعبور ثورته إلى قاعدة أعرض ممن يمكن تسميتهم بلغة معاصرة ب «نخبة السياسيين»، وكذلك العامة من قراء «روزاليوسف» المجلة رقم واحد. وبدأت أفكار الضباط الأحرار تتسرب إلى نفس إحسان، وشرع الصحفى يتلقى البيانات التى كانوا يصدرونها، بل إنه كثيرا ما كان يراجع وينقح و«يصّحف» تلك البيانات، أى يعيد صياغتها بلغة بسيطة سلسة حتى تجد صدى جماهيريا تمهيدا للحظة استعادة الكرامة. وغدا الصحفى على علم من واقع ما يطالعه من بيانات، بأن الاحتلال الإنجليزى لا محالة راحل عن البلاد، فالإمبراطورية التى لاتغيب عنها الشمس، لم تكن قادرة على مواجهة شعب أراد الحياة، وامتلك الوعى بأن التاريخ لايقف طويلا أو قصيرا أمام الذين لايتسلحون بالعزم، ويخربشون بأظافرهم جدران المستحيل. على أن الخروج من مصر تحديدا، ومن الشرق الأوسط عموما، لم يكن مجانيا، فلابد من مسمار جحا، وتمثل هذا المسمار فى دولة الاحتلال الإسرائيلى. كما فهم الصحفى الثائر أن الجيش هو عمود الخيمة ووتدها، فانحاز بالضرورة إليه، لأنه منحاز إلى الوطن، وهذا الموقف لم يكن مما يرضى نخبة الساسة الفاسدين، لكن «القتال ضد يكون فرضا» وهو كره. وجاء فى بيان من ضمن أوراق إحسان عبدالقدوس الخاصة تحت عنوان «الحرس الوطنى.. اللهم قوة ونصرا واتحادا» إن الجيش قاسى الأمرين نتيجة اهتمام الأمة به وتبين بوضوح لرجاله أن الدولة التى يسيطر الاستعمار على تصرفاتها فيحول بينها وبين إعداد جيشها وتدعيم مجتمعها لجديرة بالزوال والفناء فى هذا العصر الذى تعتبر فيه القوة دعامة البقاء. خاض الجيش القتال فى فلسطين كما كان يريد لنفسه من فوز مصر وانتصارها إذا ما كسب الجيش المعركة أو خسرها، وشاءت المقادير أن يلقى بالجيش فى هذا الأتون تدفعه يد رئيس حكومة غير مؤمن بهذه الحرب، فقاتل الجيش الدولة الصهيونية بمفرده وهذا واضح إذ لم يشعر أبناء مصر فيما بعد بمنطقة العريش بوجود قتال ولم يحد من نشاط صهيونى فى مصر، بل عزز بحل الهيئة الوحيدة التى كانت السيف المصلط على رقاب الصهيونية والشيوعية فى مصر والشرق وتحركه بيد قائد استمد الضعف والتخاذل وروح الهزيمة من رئيس الحكومة ولم يستطع أن يعتبر نفسه قائدا للقوات يدير المعركة فى حزم ونزاهة، فهزم على يديه الجيش لسوء تدبيره وضيق أفقه، وكانت الهزيمة جزاء له وفاقا، لتمسكه بالحياة وخوفه المشين من التعرض للخطر والجلوس فى عقر رئاسته حتى إنه لم يتفقد مراكز قواته مطلقا إلا عندما اقتربت زيارة قائد الجيش الأعلى لها فكان خير مثل لهذه الفئة من الضباط الذين يتشدقون بالوطنية والولاء، ولكن فى غير تضحية وإنكار ذات. لقد استمدت القوات المحاربة معنوياتها من القائد الذى لم يكن يبغى إلا النجاة وأن أمامنا اليوم لخير مثل لخير قائد أنجبته مصر وهو بطل الفالوجة الذى نفث من روحه فى نفوس جنوده فثبتوا كالرواسى يردون الهجمات اليهودية الواحدة تلو الواحدة، ومن العجيب أن يقبل قائد القوات بالعودة إلى شغل منصب بالجيش بعد أن فقد المعركة وترك الجيش مقطعة أوصاله لمن يخلفه. لقد اتخذت معركة فلسطين مظهر حروب القرون الوسطى، فلم يكن يحارب اليهود إلا الجيش وحده وخلفه طابور خامس نشيط حال بين الحكومة واتخاذ ما يجب اتخاذه مع اليهود فى مصر من إجراءات تترجم الوطنية العظمى، فقد كان الجيش يقاتل اليهود فى وقت كانت سكرتارية وفد مصر فى مجلس الأمن يتولاها موظفون يهود ويسمح لرجالهم وقادتهم بالسفر إلى الخارج، فقام كل منهم بعدة سفريات تحت عين الحكومة وبصرها للاتصال بوكلاء الصهيونية فى باريس وروما، وفرضت الحراسة على أموال بعضهم بعد أن تم تهريب معظمها وتولت الحكومة المحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، وبينما الجيش يعانى ضربات العدو المتلاحقة إذ ينادى أحد أبناء مصر وهو شيخ فان بضرورة عقد صلح مع اليهود مقدما البراهين والأدلة التى يأنف أى جندى منتصر مجرد قراءتها. ومن الأوراق المهمة التى احتفظ بها إحسان عبدالقدوس، مخزن أسرار جمال عبدالناصر، تقرير بعنوان التقرير رقم واحد من ضباط الجيش إلى المسئولين، وفيه يوجه الجيش النداء قائلا: اتقوا الله فى جيشكم، الذى يبذل النفس رخيصة فداء للوطن، إنه سياج كرامتكم وقاهر عدوكم وباطر كلمتكم، اتقوا الله ولا تدعوه يمر بعهود قاتمة مظلمة، فما كاد يستنشق نسيم الاستقلال بعيدا عن عبث الإنجليز الذى قاده المخرج السينمائى إبراهيم عطاالله باشا فساوم الضباط على شرفهم وكرامتهم، ولما انفضح سره وانكشف ستره أعقبه الممثل الهزلى محمد حيدر باشا فساوم الضباط على نفاقهم وموت ضمائرهم، وهكذا تعاقبت الأيام من احتفالات وجنازات إلى مؤتمرات ومؤامرات وسرقات. أيها المسئولون، اتقوا الله فى جيشكم. تذكروا أن حيدر باشا كان رابع أربعة فى سنة 1919 صبغوا بصبغة إنجليزية فضربوا وشردوا ونكلوا أو عذبوا شبابكم بلا ذنب جنوه سوى أنهم طالبوا المستعمرين بالحرية. واذكروا أنه قضى فى العسكرية عاما واحدا لم يتعلم فيه إلا ركوب الخيل ثم تدرج فى مناصب إدارية سمت به إلى إدارة السجون، ثم بين عشية وضحاها عين وزيرا فقائدا عاما للقوات المسلحة فهوى بها إلى الحضيض! أما لهذا التهريج من آخر؟! اذكروا أن لكم فى فلسطين شبابا استشهد وروى أرض السلام بدمائه وصعدت أرواحهم الطاهرة إلى ربها تشكو من إدارة عرجاء وذخيرة تالفة وخونة يتزعمهم رجل يصول ويجول فى جهل مطبق يحمى اللصوص ويحتمى برضاء الملك. أيها المسئولون اتقوا الله فى جيشكم. واذكروا مشوهى الحرب والعجزة الذين أقصوا عن المراكز المريحة ولا يجدون ما يعوض تشويههم وعجزهم سوى دموع ساخنة وزفرات قاسية، وأناشيد مريرة حينما يرون السارق والناهب ينهب الأرض بسيارته ويحمل على صدره أرفع الأوسمة وينعم بالمراكز العالية. وكأن الشرف والبطولة أصبحتا عارا، أما لهذا التهريج من آخر؟! واذكروا أن حلمى سلام كتب فى المصور: أريد أن أقول للقائد العام، ولا حياة لمن تنادى، وأن هيكل كتب فى آخر ساعة، مصر ترقص على البارود على أنغام من شخير حيدر باشا ولا حياة لمن تنادى، وأن عبدالقدوس كتب فى «روزاليوسف» حاكموا مجرمى الحرب، وظل يكتب فأخذوه وحاكموه، ولكنه قذف فى وجوههم بمستندات أو بالأحرى بمستنداتنا التى تكشف الموقف، وبدأ الفصل الثانى من الرواية وهو اعتقالات وتعيينات، وستنتهى الرواية بالفصل الثالث ونرجو الله ألا يكون عجز النيابة عن الإدانة حتى لا نضطر أن نقول «سلام على النيابة»، ونقول لذوى الرأى لقد أخطأتم الحساب واتركوا لنا الحساب. أيها المسئولون اتقوا الله فى جيشكم. وكان طبيعياً إزاء ما يطالعه إحسان الذى اختبر مرارة السجن جزاءً على موقفه من الدولة الفاسدة، أن تنفعل نفسه ولعله كان يقضى الليالى الطوال متفكرا فيما عساه أن يفعل. إن المفكرين والأدباء حين يبصرون سفينة الوطن تغرق، لايقفزون منها كالفئران، ولكنهم يهرعون إلى قرع الأجراس بكل ما لديهم من قوة.. وهكذا فعل الصحفى الأديب المفكر الكاتب الثائر. استنهض إحسان عزمه، وانتفض بقلمه على أهل التدليس، للثورة عدة أوجه، ليست بالهتافات فى الميادين فحسب، فالقلم أيضا يثور، وما بالك إذا كان «قلم إحسان» وصدق ووطنية». ومما كتب الأديب الراحل آنذاك تحت عنوان «الأسلحة الفاسدة». لم يكن هدفى من إثارة قضية الأسلحة الفاسدة عام 1948 هو مجرد البحث عن المتهمين وتقديمهم للمحاكمة، ولكن كان هدفى هو إثارة الرأى العام فى مصر على نظام الحكم القائم بأن أثبت أن استمرار هذا النظام سيؤدى إلى استمرار هزيمة مصر.. وفى الوقت نفسه كنت أريد تبرير هزيمة الجيش المصرى عام 1948 بأن أثبت أن المقاتل المصرى لم يهزم إلا لأنه لم يكن يحمل سلاحا يمكن أن يحقق النصر. وكان تحقيق الهدف يفرض على أن أبحث عن مستندات دامغة تثبت فساد الأسلحة التى كانت تستورد، وكان أول ما وصلت إليه من المستندات عن طريق خلافات كانت قائمة بين مستوردى السلاح لدرجة أن أحدهم تقدم بمستندات ضد الآخرين. ثم بدأ بعض ضباط الجيش الشبان يتصلون بى ويمدوننى بمستندات استطاعوا الحصول عليها من فراش وزارة الدفاع، وقد عرفت أنهم من تنظيم الضباط الأحرار ولم يكن بينهم أنور السادات كما أذاع أخيرا أحد الكتاب. ولم يستمر نشر حملة الأسلحة الفاسدة أكثر من ثلاثة أسابيع أصدر النائب العام بعدها أمرا بوقف النشر وبداية التحقيق.. وقد أدت المستندات التى قدمتها إلى القبض على بعض قادة الجيش المصرى وعلى بعض المستوردين ومن بينهم النبيل عباس حليم الذى حاول فيما بعد قتلى واغتيالى، وقد تطور التحقيق حتى بدأ يصل إلى الملك فاروق شخصيا الذى كان مشتركا فى استيراد هذه الأسلحة، وهنا عزل النائب العام وتوقف التحقيق واختفت قضية الأسلحة الفاسدة. ولكنى كنت خلال ذلك قد تعمدت تجاهل موضوع الأسلحة الفاسدة وإثارة موضوع القيادات والنظم العسكرية متعمدا إثارة الرأى العام داخل الجيش، إلى أن قامت ثورة 23 يوليو .1952 وبعد الثورة عادت قضية الأسلحة الفاسدة وعرضت على المحاكم، وقد قلت أمام المحكمة أن الهدف الذى كان يدفعنى إلى إثارة القضية تحقق بقيام الثورة، لذلك فليس لدى ما أقوله ويكفى أن ترجع المحكمة إلى ما سبق أن كتبته. وربما تأثرت المحكمة بما قلته فلم تصدر أحكاما قاسية على المتهمين مكتفية بإبعادهم عن الجيش المصرى، واستيراد الأسلحة عموما لايزال حتى اليوم هو الموضوع الأساسى الذى تقوم عليه كل الأحداث التى تؤثر على الكيان المصرى وكيان العالم العربى كله.∎