قبل الثورة أو بعدها ابحث عن شخصية واحدة ستجدها مكتسحة الساحة من التأييد الحكومى الرسمى والشعبى أيضا، ولا تعلم أى ذاكرة يعتمد عليها المصريون فى تعاملهم مع صناع القرار فى هذا البلد. هو رجل كل العصور يستفيد من كل التغيرات فى النظم السياسية المتعاقبة لصالحه فى النهاية هو كمال الجنزورى، التلميذ النجيب الذى تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ليحصل على منحة الحصول على الدكتوراه فى الاقتصاد من جامعة ميتشجان بالولايات المتحدةالأمريكية، هو ابن محافظة المنوفية الشهيرة بتصدير المسئولين الذين يلتصقون بكراسى الحكم لسنوات طويلة. شغل عدة مناصب أكاديمية قبل أن ينتقل إلى عالم السياسة من أوسع أبوابها، حيث شغل منصب عضو مجلس إدارة أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، وعضو مجلس إدارة أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا، ثم شغل منصب مستشار اقتصادى بالمصرف العربى للتنمية الاقتصادية فى أفريقيا، وعضو المجالس القومية المتخصصة للإنتاج والتعليم والخدمات، فأستاذ بمعهد التخطيط القومى 1973ووكيل وزارة التخطيط عام 1974-1975 محافظ الوادى الجديد عام 1976 محافظ بنى سويف عام 1977 مدير معهد التخطيط القومى عام 1977 وزير التخطيط عام 1982 ووزيرلوزارة التخطيط والتعاون الدولى فى يونيو 1984 نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التخطيط والتعاون الدولى فى أغسطس 1986 نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التخطيط والتعاون الدولى فى نوفمبر .1987 بعد المشوار الطويل الذى قضاه الجنزورى فى دولاب العمل الحكومى فى عهد السادات ثم مبارك كان عليه أن يصعد خطوة للأمام ولكن هذه المرة كانت فائقة السرعة وهى توليه رئاسة مجلس الوزارة يناير 1996 - أكتوبر .1999 بدأت فى عهد وزارته الأولى بنظام حسنى مبارك عدة مشاريع ضخمة بهدف تسيير عجلة الإنتاج والزراعة والتوسع بعيدا عن منطقة وادى النيل المزدحمة، من ضمنها مشروع مفيض توشكى الذى يقع فى أقصى جنوب مصر، وشرق العوينات، وتوصيل المياه إلى سيناء عبر ترعة السلام، ومشروع غرب خليج السويس، بالإضافة إلى الخط الثانى لمترو الأنفاق بين شبرا الخيمة (بالقليوبية) والمنيب (بالجيزة) مرورا بمحافظة القاهرة للحد من الازدحام المرورى بمحافظات القاهرة الكبرى. كما أقر مجموعة من القوانين والخطوات الجريئة منها قانون الاستئجار الجديد، كما ساهم فى تحسين علاقة مصر بصندوق النقد الدولى وكذلك بالبنك الدولى. كما شهد عصره تعثر بنك الاعتماد والتجارة فتدخلت الحكومة لحل الأزمة وتم ضم البنك إلى بنك مصر. ولكن كما قالت الحكمة الشيطان يكمن فى التفاصيل، فهذه المشروعات العملاقة، حصل منها الجنزورى خلال فترة رئاسته للحكومة ولمدة أربع سنوات على صلاحيات استثنائية، وكوش على السلطة مدعما بقوة من مبارك، ولما خرج من الوزارة عام 1999 كان يتحكم عمليا فى ست وزارات وملفات، بالإضافة إلى رئاسة الحكومة. بدأت فى عهد وزارة الجنزورى أزمة القروض المتعثرة ثم الهاربة فهو الرجل الحديدى القوى الذى يتحكم فى كل الوزارات آنذاك، وفقا لتقرير المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية صدر فى 2010 بأن أموال القروض المتعثرة والهاربة فى عهد الجنزورى تقدر بنحو 100 مليار جنيه، فكل مشروع جديد يتطلب تمويلا وأموالا ضخمة، والأموال فى البنوك، خصوصا البنوك العامة التى تقع تحت ولاية رئيس الحكومة، وهكذا اندفعت البنوك العامة فى منح قروض هائلة دون ضمانات حقيقية، وأهم ضمان هو ضمان بدء المشروع نفسه. أضاف التقرير أن القروض كانت تمنح وقتها بمجرد الموافقة على تخصيص أراضٍ لرجال الأعمال فى المشروعات الكبيرة، ويعتقد الكثيرون من أهل البنوك أن معظم هذه القروض قد خرجت بمجرد تليفون، وبالأمر من رجل الجنزورى القوى المستشار طلعت حماد، ووسط هوجة القروض ضاعت القواعد المصرفية، وهرب بعض رجال الأعمال معظم هذه القروض للخارج، إما كودائع فى البنوك، أو فى شكل مشروعات أقيمت خارج مصر، وعندما فشلت مشروعات الجنزورى القومية ضاع الجزء الآخر من هذه القروض على البنوك أو المودعين، وقد سجن رؤساء بنوك وماتوا فى السجن لأنهم لم يستطيعوا إثبات أن القروض الضائعة من بنوكهم خرجت بالأمر المباشر. أزمة أخرى نشأت فى عهد حكومة الجنزورى الأولى وهى إفلاس الشركات العامة، فلم تكن المشروعات الوهمية التى أعلن عنها سوى كارثة وقعت على عاتق هذه الشركات، حيث جرفت هذه المشروعات أهم وأكبر شركات المقاولات العامة إلى حافة الإفلاس، فقد تعهدت الدولة بإنشاء البنية الأساسية لمشروعاته الكبيرة، والبنية الأساسية تعنى شق طرق عامة للمشروع ومبانى إدارية وترعا للمشروعات الزراعية، وقامت شركات القطاع العام بهذه الأعمال، ولم تستطع خزانة الدولة أن تمد هذه الشركات بالأموال اللازمة لهذه الأعمال، ولجأت هذه الشركات إلى البنوك للسحب على المكشوف فى شكل ديون جديدة تقدر بالمليارات من الجنيهات، وكانت على رأس هذه الشركات شركتا المقاولون العرب وحسن علام. ∎ مشروع توشكى روجت حكومة الجنزورى ونظام المخلوع آنذاك أن مشروع توشكى على اعتباره «الهرم الرابع»، وهو المشروع الأكثر ضخامة من حيث الإهدار والفشل الذى لاحقه، حيث أنفق القائمون عليه 6,5 مليار جنيه لزراعة 4,2٪ من المساحة المستهدفة، حيث بدأ المشروع فى عام 1997 وكان من المقرر الانتهاء من العمل به فى عام 2017 مما يعنى أنه من المفترض أن يكون مشروع توشكى الآن قارب على الانتهاء، إلا أنه وحتى هذه اللحظة لم يحقق المشروع أية فائدة أو أى عائد اقتصادى، بل تم إنفاق ال5,6 مليار جنيه عليه، فيما بلغت جملة المساحة المنزرعة فى عام 2008 فقط 13 ألفًا و200 فدان، من إجمالى 540 ألف فدان، أى بنسبة 2,4٪. كما أشار تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات إلى أن مشروع توشكى لم يبدأ بدراسة جدوى، حيث جرى إعداد دراسة الجدوى بعد عام من البدء فيه، أى فى عام 1998 ووفقًا لآخر تقرير للجهاز وصلت المساحة المزروعة لعام 2013 على نحو 100 ألف فدان من إجمالى 540 ألف فدان، وليست مملوكة للدولة بل مملوكة للوليد بن طلال. ومنذ العام 1999 إلى 2011 مارس الجنزورى مهنة واحدة بعد خروجه من رئاسة الوزراء وهى الصمت والابتعاد عن الأضواء، وفى أحد اللقاءات الإعلامية النادرة له آنذاك قرر الاستقالة لأن نظام مبارك ضيق الخناق عليه وحاصره وقوض صلاحياته إلى أن عاد الجنزورى من جديد بعد ثورة يناير. رشحه المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير محمد حسين طنطاوى لرئاسة الوزراء، وكلفه بتشكيل الحكومة معلنًا أنه سيكون له جميع الصلاحيات، يوم 25/11/2011 بعد مليونية 18/11/2011 «جمعة الفرصة الأخيرة» والتى استقالت بعدها حكومة عصام شرف. بمجرد أن ترددت أنباء عن تشكيل الدكتور كمال الجنزورى للحكومة، مساء الخميس 24 نوفمبر 2011 تعامل معها المتظاهرون- الموجودون بميدان التحرير حينها استعدادًا لمليونية الفرصة الأخيرة بعد أحداث محمد محمود- بسخرية نظرًا لسن الجنزورى الكبيرة حيث بلغ وقتها 79 عامًا، مسجلين اعتراضهم على كونه أحد رجالات محمد حسنى مبارك والذى ظل موجودًا تحت قيادته فى مناصب عدة حتى تم تعيينه رئيسًا للوزراء فى عام 1996 قبل أن يرحل بعدها بثلاث سنوات ويتوارى تمامًا عن الأنظار إلا فى المؤتمرات السنوية التى كان يعقدها الحزب الوطنى الديمقراطى. فى الأول من فبراير 2012 وقعت مذبحة استاد بورسعيد التى راح ضحيتها ما يزيد على 73 فردًا وعشرات المصابين بعد اعتداء مسلحين بالأسلحة البيضاء على مشجعى النادى الأهلى فى غياب وتواطؤ للشرطة (حسبما أثبتت تحقيقات لاحقة للنائب العام المصرى)، فاتخذ كمال الجنزورى قرارًا بإقالة محافظ بورسعيد وإقالة كل من مدير أمن بورسعيد ومدير مباحث بورسعيد. بحلول مارس 2012 بدأ عدد من المتهمين الأجانب فيما يُعرف بقضية التمويل الأجنبى فى مغادرة مصر، بعد قرار النائب العام فى ذلك الوقت المستشار عبدالمجيد محمود المفاجئ برفع أسمائهم من قوائم الممنوعين من السفر، لإسدال الستار على القضية التى أثارت توترًا حادًا فى العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، وذلك رغم صدور حكم قضائى بمنعهم من السفر. وبعد تصاعد المطالبة الشعبية بإقالة الجنزورى وسط احتجاجات واسعة ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام البرلمان المصرى بمساعٍ وصفت بأنها شكلية لاستجواب الحكومة تمهيدًا لإقالتها إلا أن استجواب البرلمان للحكومة لم يكن فعالا، وشدد على أهمية التعاون مع الحكومة لمحاسبة المتسبب فى الجريمة، وبسبب وقوف البرلمان وراء الحكومة وضد المطالبات الثورية بإقالتها وتنديده بالمظاهرات أمام وزارة الداخلية، ووصف بعض النواب للمتظاهرين بأنهم يتعاطون «ترامادول» ومخدرات، فقد البرلمان التعاطف الشعبى وصار ضعيفًا فى مواجهته مع الحكومة التى اشتدت فيما بعد إلى أن انتهت بقرار حل البرلمان. مضى الجنزورى فى رئاسة الوزراء من نوفمبر 2011 حتى يوليو 2012 وتسلم الإخوان المسلمون للسلطة، حدثت فى هذه الفترة كوارث كبيرة يحاكم عليها الجنزورى سياسيًا منها مذبحة بورسعيد، وأحداث محمد محمود الأولى، ومذبحة رفح الأولى، إلى أن تولى الدكتور هشام قنديل الإخوانى الوزارة فى حكومة المعزول محمد مرسى. وحين تولى المستشار عدلى منصور رئاسة الجمهورية فى الفترة الانتقالية، استمر الجنزورى فى نفس المنصب كمستشار لرئيس الجمهورية وكأنه الوحيد فى البلد، وكأن مصر عقمت عن إنجاب مستشارين غيره. ولما انتخب الشعب عبدالفتاح السيسى رئيسًا للجمهورية فى يونيو 2014 اختار الجنزورى كمستشار لرئيس الجمهورية للشئون الاقتصادية، ليبقى قابعًا حاصلاً على راتبه من مؤسسة الرئاسة بلا أى داعٍ أو أهمية، فلم نر تصورًا واحدًا جديدًا خرج به فى حل الأزمة الاقتصادية، ولا تأخذ الدولة المصرية منه سوى مزيد من إهدار المال العام وبس! واليوم الجنزورى يقاتل مستميتًا للاستمرار فى الحياة السياسية، وأن يحافظ على مقعد دائم له فى المعركة القادمة على انتخابات مجلس النواب، فهو يحلم بأن يختم تاريخه وعمره الذى تجاوز 81 عامًا برئاسة مجلس الشعب، وهو الذى طالما تحدث وتشدق بتمكين الشباب.∎