يشكل التراث الفنى لكل أمة وعاء يحوى مكونات وعيها التاريخى من فكر وعلم وأدب وفلسفة وفنون، وهذا ما يشكل هوية الأمة ووجدانها وقوام شخصيتها ويرسخ لها وجودها لمواجهة تحديات الغزو الثقافى والحضارى. وإن كان التراث الفنى والحضارى يمثل فخراً للأمم فعلينا نحن أن نفخر بما لدينا من تراث تركه لنا من سبقونا وعلينا أن نبنى عليه حتى نترك لمن يأتى من بعدنا تراثاً يفتخرون به. أقرت الأممالمتحدة أن التعبير الثقافى والفنى عنصر ضرورى فى التنمية البشرية، ومع ذلك فقد تعرضت وسائل التعبير الفنى إلى هجوم من الرقابة والقيود المجحفة على الحق فى التعبير وحرية التعبير الفنى، وذلك بسبب خسائر ثقافية واجتماعية واقتصادية، مما يفقد روح الرأى والرأى الآخر عند النقاد.
ويعد التعبير الفنى فى مصر من أكثر الصور التعبيرية المستخدمة منذ القدم لتعبر عن الأحوال الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومن أقدم هذه الفنون النقش على الجدران لدى الفراعنة الذى كان يواجه به القمع بكل أشكاله ومراحله، ومن ثم تنوع الفن وتطور ومر بمراحل عدة حتى وصل لما نحن فيه الآن مواجهاً العديد من التحديات ومحاولاً الدخول فى التابوهات (الجنس - الدين - السياسة) التى تضع الرقابة عليها آلاف الخطوط وتحاول أن توصد أبوابها، وبصفة خاصة فإن القوانين المصرية تمنع المساس بالدين أو التعرض له بالنقد المباشر وقد عاصرنا فى الفترة الأخيرة الكثير من المبدعين فنياً يعرضون للمسألة القانونية بتهمة ازدراء الأديان. وبالتأكيد تمنع الرقابة تناول موضوعات جنسية لأنها لا تجوز أخلاقياً وثقافياً، أما منع الموضوعات السياسية فكان لفترة طويلة للحفاظ على النظام، ولكن بعد الثورة تغير الحال وأصبح الكثير يتناول الموضوعات السياسية ويناقشون أبعادها سواء بالتصوير أو الرسم أو التمثيل، ولكن ليس بحرية كاملة. وقد أكد على ذلك قرار وزير الثقافة رقم 220 لسنة 1976 المعايير التفصيلية للرقابة على الأعمال الفنية، التى تلتزم الإدارة العامة للرقابة على المصنفات بعدم تجاوزها، أثناء فحص الأعمال الفنية لمنحها التراخيص اللازمة بالتصوير أو التسجيل أو العرض أو البيع أو الاستغلال، وقد حددت المادة الأولى من هذا القرار هدف الرقابة بحماية: الآداب العامة-النظام العام-حماية النشء من الانحراف.
كما أن هناك ارتباطا واضحا بين القيود المنصوص عليها فى القانون رقم 430 لسنة 1955 بشأن الرقابة على المصنفات الفنية، وقرار مجلس الوزراء رقم 162 لسنة 1993 بشأن اللائحة التنفيذية لأعمال الرقابة، وقرار وزير الثقافة رقم 222 لسنة 1976 بشأن معايير الرقابة، وبين القيود التى يفرضها قانون العقوبات المصرى رقم 58 لسنة 1937 على حرية التعبير الفنى، من خلال النصوص المتعلقة بحماية الآداب العامة، وحماية الأديان، وحماية سمعة الأشخاص والمؤسسات، وهو ما ينعكس على أغلب قضايا الرقابة المنظورة أمام المحاكم المصرية، التى تدور موضوعاتها حول هذه القيود، حيث نجد أن أغلب ادعاءات فرض الرقابة على الأعمال الفنية قائمة على أحد أضلاع الثالوث المحرم فى مصر؛ وهى الدين والجنس والسياسة.
إن الدولة المصرية بوصفها عضواً فى المجتمع الدولى وتتمتع بعضوية عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، فإنه يقع على عاتقها التزام بتعديل تشريعاتها، بما يتوافق مع الحريات المنصوص عليها فى المواثيق والمعاهدات الملزمة للدول الأعضاء فى هذه المنظمات، والتى صدقت عليها مصر، كما يتحتم عليها تطبيق التوصيات الصادرة عن هذه المنظمات. نحن فى حاجة إلى إعادة هيكلة جهاز الرقابة، واستبداله بجهاز آخر؛ قائم على معايير مختلفة ولا يحاول المساس بمحتوى العمل الفنى أو فرض توجه معين على صاحب العمل، وبالإضافة إلى ذلك يجب على المسئولين اتخاذ خطوات إيجابية تجاه إنتاج فنون بعيداً عن الرقابة المجحفة التى تضيع معنى العمل الفنى.