ما بين شركة تبالغ فى مخاوفها وحرصها على عدم خسارة أموال باهظة أنفقتها، ومخرج يغالى ويصر على التمسك بأفكاره ومبادئه وعدم الخنوع لأى مؤسسة إنتاجية أو دينية، يقف فيلم «نوح» منتظرا القفز فى سفينة تنقذه من الطوفان الآتى من قبل المتشددين وتمنحه فرصة الحياة والتواجد على شاشات العرض السينمائى. الأزمة التى تحدث الآن حول فيلم «نوح» بين استوديو إنتاجه وتوزيعه (بارامونت) ومخرجه (دارين أرونوفسكى) تشبه إلى حد كبير الأزمة التى تعرض لها فيلم «آلام المسيح» عام 2004 فالمؤسسة الدينية المتعنتة التى تحارب أى محاولة إبداعية تتعلق بشىء يخصها. رافضة أية تصورات جديدة أو أية أفكار مبتكرة لتقديم قصة مقدسة.
قصة النبى نوح عليه السلام تأتى فى فيلم جديد يقوم ببطولته «راسل كرو» فى دور النبى نوح ومعه «أنتونى هوبكنز»، «جينفر كونللى» و«إيما واتسون». السيناريو والإخراج ل«دارين أرونوفسكى» صاحب أفلام «البجعة السوداء» و«المصارع». والإنتاج والتوزيع لاستوديوهات «وارنر بروس» التى وضعت ميزانية إنتاج ضخمة وصلت إلى 125 مليون دولار لتضع الفيلم فى قائمة الأفلام الملحمية الكبرى فى تاريخ السينما.
قصة النبى نوح كما يتحدث عنها المخرج من أكثر القصص التى تعلق بها منذ كان فى الثالثة عشرة. وتحويلها إلى فيلم سينمائى حلم يتمنى تحقيقه منذ عام .2007 ولكن السيناريو الذى يتناول القصة بشكل شديد الاختلاف عما جاءت عليه فى الكتب المقدسة. كان مخيفا لشركة الإنتاج والتى قررت قبل البدء فى التصوير عرضه على بعض النقاد الملمين بتعاليم الديانة المسيحية. وبالفعل كانت المخاوف فى محلها واعترض معظم من قرأ السيناريو منهم. وكتب أحدهم ''بريان جوداوا'' مقالة عن رأيه فى السيناريو وقام بنشرها على الإنترنت فى أكتوبر .2012 مفندا الاختلافات ما بين السيناريو وما جاء فى الكتب السماوية الثلاثة (التوراة - الإنجيل - القرآن). وتوضح المقالة أن الاختلافات لم تقتصر على بعض المحاور، بل تسيطر على رؤية الفيلم بالكامل. ف«نوح» عليه السلام فى الكتب المقدسة نبى ينقذ الصالحين فى الفلك الذى يشيده قبل مجىء الطوفان، لكنه يأتى فى الفيلم كبطل محارب منقذا للطبيعة والكائنات الحية، فهو يظهر كرجل يعتنى كثيرا بالحيوانات والبيئة التى يدمرها الإنسان، ولديه ما يشبه المستشفى البيطرى الذى يعالج ويرعى فيه الحيوانات. وهذا غير صحيح ولم يرد فى الكتب الثلاثة. أيضا نجد نوح فى الفيلم تراوده الأحلام بأن هناك عواصف وطوفاناً سوف يحدث ويدمر الأرض وهذا ما لم يأت فى النصوص السماوية أيضا. التى تبين أن الله أمر النبى نوح ببناء سفينة وحذره بشكل مباشر من الطوفان المنتظر. هذا الطوفان الذى يأتى فى الفيلم نتيجة إرادة الله فى حماية الحيوانات والطيور من البشر الذين يعذبون هذه الكائنات ولا يحسنون استخدام البيئة المحيطة بهم. ويقول «نوح» فى الفيلم: «جميع ما يخلقه يموت بأيدينا الحيوانات والأشجار والبيئة، لو تغيرنا وحافظنا عليها ربما نحافظ على أنفسنا من الهلاك». وهذا ما يصعب استيعابه. فهل يهلك الله البشر فقط بسبب إيذائهم للبيئة والحيونات. أم بسبب طغيان المفسدين وارتكابهم للمعاصى كما جاء فى النصوص المقدسة. هذا ما يتساءل عنه بعض النقاد.
ويستمر الفيلم على هذا المنوال. النبى «نوح» لم يوح له الله بشكل مباشر ببناء السفينة. بل ذهب لطلب النصيحة من جده «متوشالح»- يؤدى دوره «أنتونى هوبكنز» - وكان أطول الناس عمرا فى ذلك الزمان. فيعطى «نوح» حبة سحرية لإنشاء غابة سحرية فى الصحراء. يستفيد «نوح» من أخشابها لبناء السفينة. ويستعين «نوح» من مخلوقات أنزلها الله على الأرض، أنصاف ملائكة أنصاف بشر، ليساعدوه فى بناء السفينة. لم تحمل السفينة من بنى البشر سوى «نوح» وأسرته المقتنعين بأن نجاتهم جاءت كى يرعوا الحيوانات التى أنقذت. ولأن الإنسان فى الفيلم لم يعد وجوده على الأرض أمرا مرغوبا. يخبر النبى «نوح» من على السفينة بأنه غير مسموح بإنجاب الفتيات.. حتى لا يتكاثر البشر وربما فى إشارة لوأد البنات. وعندما يجد امرأة حاملا على السفينة يقول لها إنه سوف يقتل المولود إن كانت فتاة. وبالفعل تنجب المرأة فتاتين. فيحاول «نوح» قتلهما ولكنه لم يستطع فعل ذلك. فيقول فى المشهد مخاطبا الله - فى إشارة إلى أن الأمر جاء هذه المرة بشكل مباشر من الله - يقول «نوح» عندما يوشك على قتل الطفلتين: «أنا آسف أنا آسف.. لا أستطيع فعل ذلك». «نوح» يفهم مع نهاية الفيلم أن نجاته ومن معه ربما تكون لأنهم يستحقون الحياة وليس فقط من أجل إنقاذ الحيونات. هذا ما جاء فى السيناريو والفيلم فيما بعد والذى ما إن تم الانتهاء من تصويره، أعمال المونتاج وتحديد يوم 28 مارس 2014 للعرض العام. حتى عادت الأزمة من جديد عندما استشعرت شركة «بارامونت» القلق والجدل الذى من الممكن أن يسببه الفيلم. لذلك قررت الشركة أن تعرض الفيلم بشكل محدود جدا ثلاث مرات على فئة من اليهود، المسيحيين ومجموعة من المشاهدين ذوى الاتجاهات الدينية المختلفة. وبالفعل تم استقبال الفيلم بكثير من الاستنكار من قبل من شاهدوه.
النقاد الذين شاهدوا الفيلم انقسموا إلى فريقين، وإن كان الفريق الرافض هو الأغلب، وهو الذى نصح الشركة بتعديل الفيلم حتى لا يتسبب فى إحداث أزمة كالتى أحدثها الفيلم المسىء للرسول محمد عليه السلام. والتى أدت إلى مظاهرات واضطرابات أودت بحياة بعض الناس. نتيجة فيلم قصير، ردىء الصنع، قليل التكلفة ولم يعرض سوى على شبكة الإنترنت فما بالك بفيلم هوليوودى ضخم الإنتاج، جيد الصنع، يمثل فيه نجوم عالميون وسوف يشاهده الناس فى قاعات العرض السينمائى فى كل دول العالم. أيضا هاجم هؤلاء النقاد المخرج الذى أعاد تأويل القصة التى لا تحتمل التغيير أو التأويل لأنها مقدسة عند أصحاب الديانات الثلاثة وأن الجمهور لن يتحمل هذا العبث بمعتقداته. وأن هذا الفيلم ما هو إلا أموال هدرت وبطل مقدس دمرت فكرة تقديمه فى عمل فنى آخر لعقود من الزمان. أما الفريق الثانى فهو من أنصار حرية الرأى والتعبير الفنى ويستند فى ذلك إلى أن «أرونوفسكى» ليست وظيفته إعطاء دروس دينية فهو ليس عالم لاهوت ولا حتى مؤرخا.
«أرونوفسكى» فنان من حقه أن يقدم رؤيته عن أى موضوع كيفما يشاء. وقد قدم فى فيلم «نوح» رؤية عصرية تناسب العلمانيين. وفى نفس الوقت على المتدينين أن يتفهموا أنه استعار القصة لتقديم معان تناسب ما يحدث الآن من مخاطر تتعرض لها البيئة بسبب ما يفعله بها الإنسان.
وبعيدا عن الجدل القائم حول مضمون الفيلم. إلا أنه فنيا يعد من أهم الأفلام التى صنعت فى التاريخ على مستوى المؤثرات البصرية. فالحيونات فى الفيلم كلها مصنوعة على الكمبيوتر. ليس فقط لأن منها حيونات انقرضت ولكن أيضا لأن بعضها اختلف شكله فى عصرنا الحديث عن زمن النبى «نوح».