كنا فقط نعيد قراءة التاريخ بعد أن يفوتنا بعقود أو قرون.. لكن هذه المرة لا ندرى هل كان التاريخ رحيما بنا لما جعلنا نعيش لحظاته ونشارك فيها ونتدخل لصياغته؟! وبين ما عايشناه وعاصرناه وسجلناه بحواسنا وحفظناه بذاكرتنا.. كانت هناك مشاهد ومواقف وأشخاص لم تدركها إمكانياتنا المحدودة.. لأنها جرت فى غرف مغلقة، وعبر خطوط هاتف لم تصلنا، وشخصيات دفع بها القدر لأن تتحمل المسئولية فى توقيتات حرجة ولم يكن أمامهم اختيار إلا أن يحملوها وأن يكونوا فاعلين وشاهدين ولن تكتمل الرواية الدقيقة إلا إذا تكلموا! منذ 25 يناير 2011 وحتى يومنا هذا تتوالى الأحداث بوتيرة أسرع من قدراتنا على الفرز والفهم.. مما يجعل قدراتنا على استيعاب المشهد أقل، وإمكانياتنا فى تفهم وإدراك الصورة كاملة ناقصة.. ولأن المعرفة غريزة إنسانية تتضاعف أهمية أن يطل علينا الفريق «سامى عنان» بشهادته عبر مذكراته التى انتهى منها وتصدر بعد أربعة أشهر حتى تزيد قدرة استيعابنا وتكتمل نواقص إدراكنا لأهم سنتين ونصف فى تاريخ مصر المعاصر!
«عنان» الرجل الثانى ترتيبا فى المجلس العسكرى الذى أدار البلاد بعد تنحى الرئيس الأسبق فى 11 فبراير 2011 والأول على الأرض فى تحريك والإشراف على أعمال القوات المسلحة فيما أسند إليها من مهام إضافية بعد نزولها الميادين فى 28 يناير 2011 بحكم منصبه كرئيس لأركان القوات المسلحة، ثم كان هو والمشير طنطاوى على رأس السلطة فى تلك الفترة الدقيقة وحملا مسئولية سياسية وتنفيذية مازالت رهن الغموض فى تفاصيلها وإعادة تقديرها!
لما كان التاريخ حاصل جمع الروايات والشهادات المتطابقة والمكملة وطرح المتناقض منها، تتعاظم شهادة ومذكرات الفريق «عنان» الذى قبل أن تكون فى توقيت قريب ومعاصر لعلها تفيد فى تفهم ما جرى، وتوقع ماذا سيجرى؟ وثقة منه فى حق الجميع فى المعرفة، فى الاستماع لما غاب عنهم بعيدا عن التوقعات والتخمينات والتحليلات التى تفتقد لدقة المعلومة!
من حقه أن يقدم شهادته.. التى أظنها مثيرة، ومهمة، ومن حقه علينا أن نستقبلها بتجرد وتفهم ودون أى تأثيرات مسبقة، ومن حقنا عليه أن نناقشه فيها وألا نأخذها على علتها الأولى.. الرجل كان حاضرا قبل 25 يناير وطوال عامين ونصف العام وحتى بعد تقاعده، غائبا بمنصبه وحاضرا بسيرته وفاعلا طوال الوقت!
«روزاليوسف» حصلت على أحد أهم أجزاء مذكراته التى يروى فيها الأيام السابقة لأحداث 25 يناير والمهيئة لها، بداية من تقدير موقف المؤسسة العسكرية لانتخابات برلمان 2010 وتأثير نتائجها على الأحوال الداخلية للبلاد أمنيا، فلم يكن للجيش دور سياسى.. فيها يكشف ما دار بينه وبين المشير طنطاوى وبين «طنطاوى» و«مبارك»!
لغط كبير دار حول وجود الفريق «سامى عنان» فى نفس توقيت تفاعل الأحداث داخل البلاد فى 25 يناير وما فسره البعض على هواه دون تحقق.. لما كنا نحن مشغولين وأنظارنا موجهة للداخل جرت أمور واتصالات واستفسارات أمريكية على الجانب الآخر من النهر عن وضع الجيش وموقفه وتصرفه مما يجرى على الأرض.. هنا تكشفها لأول مرة المذكرات، حيث التقاه الجنرال «ماتيس» - قائد القيادة المركزية الأمريكية - فى قاعدة أندرو بشكل مفاجئ قبل عودته إلى مصر!
هنا ننشر المذكرات كما هى دون أى تدخل منا فيها:
∎ البداية
أتاح لى موقعى كرئيس أركان حرب القوات المسلحة منذ العام 2005 أن أكون شاهدا على ثورة 25 يناير 2011 وما ترتب عليها من أحداث وتداعيات، وقد شاع بغير سند أو دليل، وفى سياق تداول الأكاذيب والشائعات كأنها الحقيقة، أن زيارتى للولايات المتحدةالأمريكية التى بدأت فى الثالث والعشرين من يناير، ذات صلة بالثورة وأحداثها، والحقيقة الثابتة الموثقة على خلاف ذلك تماما، ذلك أن الزيارة المشار إليها كانت مقررة منذ وقت طويل سابق وبالتحديد فى شهر أكتوبر 2010الهدف منها يتعلق بالتنسيق والتعاون العسكرى المصرى الأمريكى، واللجنة المعنية يرأسها من الجانب الأمريكى مساعد وزير الدفاع الأمريكى لشئون الأمن الدولى، ومن الجانب المصرى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية.
اللجنة تعقد سنويا، ويتم الترتيب لها فى مصر، ويسبقها تنظيم مؤتمرات متعددة لثمانية أشهر تقريبا، وتنشغل بالبحث فى جميع أنواع التعاون فى كل الأفرع والأسلحة، وتهتم بتحديد المطالب وتقييم ما تم إنجازه فى العام السابق.
صدقت القيادة السياسية فى مصر على الزيارة المحدد لها أكتوبر 2010 وقبل السفر بعشرة أيام تقريبا تحدثت مع السيد المشير «محمد حسين طنطاوى» وقلت لسيادته إن الموعد المحدد للسفر يواكب انتخابات مجلس الشعب المصرى، والمعروف أن إجراء العملية الانتخابية تستدعى أعمال تأمين وحماية تتولاها القوات المسلحة بإشراف رئيس الأركان، وهو ما يتطلب وجودى، وقد تقبل القائد العام وجهة نظرى، وطلب منى الشروع فى اتخاذ إجراءات تأجيل الزيارة، وتولى مهمة تبليغ القيادة السياسية بالأسباب التى ذكرتها، وأبلغ الجانب الأمريكى بالتأجيل فوافق على أن تكون الزيارة فى يناير .2011 هذه هى الحقيقة الكاملة حول زيارتى للولايات المتحدة قبل أيام من ثورة يناير، ولامبرر لتقديم تأويلات وأسباب مغايرة لا أصل لها.
∎ صدمة النتائج الانتخابية
فى 7 / 12 / 2010 ظهرت نتائج انتخابات مجلس الشعب التى بدأت فى 11/28 وأسفرت عن اكتساح مرشحى الحزب الوطنى الحاكم فى مواجهة المعارضة الحزبية والمستقلة، كانت النتائج مستفزة للرأى العام، فالحزب الوطنى لايحظى بشعبية تبرر مثل هذه النتيجة، وبصمات التلاعب واضحة.. على الصعيد الشخصى، وكمواطن مصرى أتابع الشأن السياسى ولا أتدخل فيه، شعرت بقدر كبير من المهانة والاستهتار والاستهانة بعقول المصريين، وكنت صريحا فى إبداء هذا الرأى الذى أبلغته للسيد المشير، وكان بدوره يشاركنى فى عدم الرضا، والذى أعرفه جيدا أن المشير طنطاوى قد فاتح الرئيس مبارك فى تخوفه من الآثار السلبية الوخيمة التى قد تترتب على النتائج المعلنة لانتخابات مجلس الشعب، ولم يكن الأمر خافيا - أيضا - على السيد اللواء عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات، وقد أخبرنى سيادته فى لقاء جمعنا بعد ثورة يناير بأنه أبلغ الرئيس بما يدور على الساحة السياسية وهما فى رحلة خارجية، فاستدعاه الرئيس الأسبق بعد العودة وقال له: لاتقلق يا عمر، أحمد عز مرتب كل حاجة!
أعتقد أن الرد نفسه قد تلقاه المشير طنطاوى، فلم يعلق عليه أو يجادل فيه لأن المؤسسة العسكرية لاشأن لها بتفاصيل العملية السياسية، فهى مؤسسة وطنية فى المقام الأول والأخير، لكن قادتها يقدمون النصيحة لوجه الله والوطن، ولايتابعون العمل بها.
وقد ترددت خلال هذه الفترة مقولات ومزاعم غير صحيحة حول استياء القيادات الوسطى وصغار الضباط فى الجيش، وأؤكد أن كل ما قيل لا أصل له، فالالتزام كامل لاتشوبه شائبة، والتعامل مع الأحداث السياسية يتم من منطلق أن الضابط كبيرا كان أم صغيرا، مواطن يتابع ويتأثر بما يدور فى الواقع، لكنه - فى الوقت نفسه - يعرف حدود مهامه جيدا ولا يتجاوزها.
انتهت العملية الانتخابية، وبدأت فى الاستعداد لإتمام الزيارة المؤجلة للولايات المتحدةالأمريكية فى الموعد البديل، وقبل أيام من سفرى اشتعلت الثورة فى تونس، وتبادلت حوارا مهما مع المشير طنطاوى بدأته قائلا:
- الرئيس التونسى زين العابدين بن على أصدر أوامره لوزير الدفاع بالتعامل العنيف مع المتظاهرين لكنه رفض.
ورد المشير على الفور:
- التعليمات كانت لرئيس الأركان وليس لوزير الدفاع.
كنت أعرف هذه المعلومة، لكننى حرصت على استخدام تعبير «وزير الدفاع» تأدبا، على اعتبار أنه السلطة الأعلى فى الأنظمة العسكرية الشرقية التى تتأثر فى هيكلها بالنموذج الروسى، وهو النموذج الذى لاتتبعه التجربة التونسية، حيث يمثل منصب وزير الدفاع تكليفا سياسيا.
وواصل المشير طنطاوى الحوار، فوجه لى سؤالا:
- لو حصل هذا الأمر عندنا فى مصر.. ماذا تفعل يا سامى؟
- أجبته بلا تردد:
- لن أضرب متظاهرا مصريا، فدورى هو تأمين المتظاهرين والحفاظ على أرواحهم، حتى لو صدرت لى الأوامر بالضرب لن أفعل، وأنا متأكد أن سيادتكم لا يمكن أن تصدر أمرا بضرب النار.
وبادرنى المشير معلقا:
- لماذا أنت متأكد؟
فذكرته سيادته بما حدث عند الاجتياح الفلسطينى فى رفح، وأنه أصدر الأوامر بالمعاملة الإنسانية الراقية دون عنف، وعندما طلبت القيادة السياسية التعامل بعنف عند الاجتياح الثانى رفضتم سيادتكم وقلتم إن السلاح المصرى لا يمكن أن يتم إشهاره فى وجه فلسطينى، فمن باب أولى ألا يتم توجيهه إلى المصريين.
كان الشعور بالتوجس سائدا عند الكثيرين من قيادات الدولة المصرية، وقد حضرت احتفالات الشرطة بعيدها يوم 23 يناير، لكن أحدا لم يتحدث عن المظاهرات المتوقعة وأسبابها وآثارها وبدأت رحلتى إلى أمريكا يوم 24 يناير.
∎ رحلة لم تكتمل
أقلعت بى الطائرة ظهر يوم 24 يناير، متأخرة عن موعدها بأربع ساعات، واتجهت من باريس إلى أمريكا لأصلها ظهر يوم 25 يناير، كنت أتابع أخبار الوطن بطبيعة الحال، وتصلنى تقارير منتظمة من السفارة المصرية عن تطورات الأوضاع، كان برنامج الزيارة يسير وفق التخطيط الذى سبق إعداده، لكن تصاعد الأحداث أدى إلى إنهاء الزيارة قبل موعدها.
مساء يوم 27 يناير، كنت فى عشاء عمل بدعوة من الجانب الأمريكى، وتطرق الحوار إلى المظاهرات التى تشهدها مصر، سألنى السفير ألكسندر فرشبو، رئيس اللجنة الأمريكية المناظرة للجنة المصرية:
∎ هل تتابع المظاهرات فى مصر؟
أجبته:
- أتابعها عبر وسائل الإعلام.
∎ هل تسمح لى بسؤال؟
- تفضل بكل سرور.
∎ ماذا يفعل الجيش لو نزل إلى الشارع؟
- ثق أن الجيش لن يفعل ذلك إلا إذا حدث تهديد للمنشآت والأهداف الحيوية، وسيكون هدفه الوحيد هو التأمين.
∎ ألن تضربوا المتظاهرين؟
- لا بالطبع.
∎ حتى لو صدرت الأوامر بالضرب؟
- أثق أن مثل هذه الأوامر لن تصدر، وحتى إذا صدرت فلن نطلق النار على أبناء وطننا.
ولن أنسى ما حييت التعليق العفوى لألكسندر، ونبرة الإعجاب والتقدير فى صوته:
- إن القوات المسلحة المصرية على قدر عال من المهنية والاحترافية والفروسية.
عدت إلى الفندق بعد العشاء لأتابع ما تبثه قناة «الجزيرة» القطرية ذات البراعة المشهودة فى صناعة التوتر، وسارعت بإجراء اتصال تليفونى مع السيد المشير محمد حسين طنطاوى لأطلب العودة إلى مصر، لكنه رفض وقال إنه ينبغى استكمال المأمورية التى سافرت من أجلها.
كنت قلقا لأن مقابلتى مع الأدميرال مولن موعدها يوم الاثنين، بسبب إجازة السبت والأحد من ناحية، ولوجوده خارج واشنطن من ناحية أخرى، وبدافع من الشعور بالخطر الشديد ارتديت ملابسى وطلبت من زوجتى أن تستعد للعودة إلى مصر، وعاودت الاتصال بالمشير فلم أجده بالاستراحة أو الوزارة، وعرفت أنه موجود فى قيادة المنطقة المركزية مع اللواء حسن الروينى، وعندما أخبرته بأننى أريد العودة، قال كلمة واحدة:
- ارجع.
وتصاعد شعورى بالخطر.
تدارست مع بعض أعضاء الوفد كيفية الرجوع إلى القاهرة فى أسرع وقت، مع مراعاة أن الطريق من واشنطن إلى نيويورك مغلق لشدة العواصف، واستقر الأمر على العودة برحلة مصر للطيران من نيويورك فى الخامسة مساء، للوصول إلى القاهرة ظهر اليوم التالى. طلبت من رئيس مكتب التعاون العسكرى الأمريكى، ومكتبه بالقاهرة أن يتصل بوزارة الدفاع لتجهيز طائرة تعود بى من واشنطن إلى نيويورك، وأثناء وجودى بالفندق، اتصلت باللواء الروينى قائد المنطقة المركزية للاطمئنان على المشير، فقال لى:
- صدرت الأوامر يا أفندم بنزول القوات المسلحة لمعاونة الشرطة فى تأمين المنشآت والأهداف الحيوية.
طلبت منه أن يتصل برئيس هيئة العمليات، اللواء أركان حرب محمد صابر، فأعطانى تماما بالموقف وباتخاذ كل الإجراءات اللازمة، توجهت بعد ذلك إلى قاعدة أندرو، وفوجئت بوجود الجنرال ماتيس، قائد القيادة المركزية الأمريكية، والصديق الشخصى المقرب للرئيس أوباما، لم أتخيل أنه حضر خصيصا لمقابلتى، لكنه طلب أن نتكلم على انفراد فى مكتب قائد القاعدة، سألنى عن الأوضاع فى مصر بعد نزول الجيش، ثم قال بالحرف الواحد: - سيادة الفريق.. هل ستطلقون الرصاص على المتظاهرين؟