فى شهر فبراير 2011 وفور تنحى الرئيس مبارك، طالبت بسرعة تشكيل جمعية تأسيسية تضم الخبرات كافة لإعداد دستور جديد للبلاد، بعيداً عن اختيار أسماء تنتمى لأى من القوى السياسية المطروحة على الساحة حينئذ، لكن الوضع كان متأزماً لأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حاول فى البداية التخلص من الفترة الانتقالية سريعاً، فأصدر قراره بتشكيل لجنة لإجراء بعض التعديلات الدستورية، ثم فاجأنا جميعاً بعد قرابة شهرين من التنحى ونزيف الأموال فى إجراءات استفتاء 19 مارس على تلك التعديلات الدستورية والقلق الشعبى المستمر وبدايات فكرة الخلاف المجتمعى وما استتبعها من مناوشات للعنف التكفيرى، فاجأنا بإصداره إعلانا دستوريا متكاملا فى الثلاثين من مارس! مُهملاً تماماً فكرة إعداد دستور جديد والاستفتاء الشعبى عليه.
حين أعلنتُ مراراً حلمى للعودة إلى ليلة الحادى عشر من فبراير، ما توقعت أن يلبِّى العليم القدير حلمى بهذه السرعة، لكنه العلىِّ العظيم قادر على إيلاد الأحلام من رحم اليأس. وبقدر إعجابى بصياغة البيان الثانى للقوات المسلحة الذى تلاه الفريق أول السيسى فى غرة يوليو الماضى، بقدر ما توقفت نوعاً أمام بعض صياغات البيان الأخير، رغم أهدافه ونتائجه الواثبة. وبقدر سعادتى بما آلت إليه البلاد من زوال الاحتلال الإخوانى لمصر، بقدر قلقى من المستقبل التنظيمى للدولة المصرية وضبط أساسيات القواعد الدستورية والقانونية لسلطاتها ومؤسساتها بأنواعها!
فالبيان أوقف العمل بالدستور الحالى مؤقتاً، وقرَّر تشكيل لجنة تضم جميع الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذى تم تعطيله مؤقتاً، ولعل تأكيد تكرار لفظ «مؤقتاً» يُعطى الإيحاء المبدئى بالإقرار الضمنى للهيكل البنائى للدستور الحالى، حتى ولو تم تعديل معظم مواده عن طريق تلك اللجنة المزمع تشكيلها! لأنه مهما كانت عبقرية الترقيع فى نصوص الدستور، يظل الجسد الدستورى مُنهكاً بالعديد من العورات التى أصر النظام السابق وأعوانه على وضعها من خلال الجمعية التأسيسية التى سيطر على أغلبية أصواتها، ثم بتمرير عن طريق أصوات هذا الشعب الكريم البسيط بعد مزايدات فجَّة على عواطفه وطيبته باسم الدين! أما ما حواه البيان من مُناشدة المحكمة الدستورية العليا لسرعة إقرار مشروع قانون انتخابات مجلس النواب والبدء فى إجراءات الإعداد للانتخابات البرلمانية، فإنه يدعِّم الافتراض فى فكر قيادة المرحلة القادمة، من استمرار العمل بالدستور الحالى مستقبلاً بعد تعديله!
إن مبدأ تغيير الدستور بالكامل يضع أساسا جديدا لسلطات ومؤسسات الدولة، يتوافق مع المتطلبات الثورية لأجيال متتالية من الشباب حالمة بمصر جديدة تختلف عن مصر التى عايشها آباؤنا، طامحة إلى الوصول بمستقبلنا ومستقبل آبائنا وأبنائنا من بَعد إلى دولة قوية تتوسط الشرق الذى أربك الحسابات الأمريكية الأوروبية بعد موجات الربيع العربى المُتتالية! فمصر تحتاج إلى وضع الاُسس الدستورية على بياض دون أن يلوثها تيار أو قوى سياسية معينة بأغلبية أو أقلية، لذلك كان اقتراحى ومازال بألا يكون لأعضاء الجمعية التأسيسية أدنى انتماء أو توجُّه سياسى رسمى، فيكفى أن يكونوا من الخبراء فى المجال الدستورى والقانونى والاقتصادى والاجتماعى، لأنهم الأجدر على وضع قواعد عامة مجردة تفيد مصر القادمة من بعيد، تُحدد سلطات الدولة كافة وأهدافها وطرق تكوينها وصلاحياتها، ثم سبل اختيار رئيس الجمهورية واختصاصاته، وتدشين الجديد من الهيئات والمفوضيات التى تُرسِّخ دعائم الاحتياجات المصرية فى شتى المناحى.
كما أن فكرة الإبقاء على الدستور وتعديله بما يتوافق مع أغلبية الآراء، فإنها ولئن كانت سليمة من الوجهة الدستورية والقانونية، إلا أنها ستصطدم بكثير من العوائق الثورية والطموحات الشبابية لأجيال استطاعت مرتين خلال عامين ونصف العام انتزاع مصر من أيدى سجَّانيها، فالتوجه المُعلن لأعضاء اللجنة صغيرة العدد سيأتى ببعض من لهم انتماءات سياسية، مما سيُخرج نصوصاً تخدم أغراضا معينة لقوى عديدة، لأن التصويت داخل اللجان كبيرة العدد عموماً والصغيرة خصوصاً قد يتم بالتراضى حول بعض النصوص وتمرير نص ما لتوجه معيَّن مقابل الموافقة على نص ثانٍ لتوجه آخر! وهو ما يولِّد فى النهاية نصوصا دستورية عامة ومجردة فى ظاهرها لكن جوهرها ينضح بالعكس.
والواقع أن الدستور الحالى صدر نتاج تنظيم سياسى ممنهج، ليس فقط من قِبل الرئيس السابق محمد مرسى أو جماعة الإخوان المسلمين فقط، بل شارك فى تدشين أفكاره جميع التيارات السياسية المُتمسحة فى الدين الإسلامى والمتخذة منه غطاءً سياسياً للوصول إلى سلطات الحكم فى مصر. وعن نفسى فبعد أن اعتذرت عن الترشُّح لعضوية الجمعية التأسيسية الأخيرة لاستشعارى بالترتيبات التصويتية بمجرد تصفحى للأسماء والإجراءات، قامت كتاباتى بتفنيد المشروع الدستورى الذى أنتجته هذه الجمعية فى مقالات عديدة نُشرت فى أكثر من صحيفة ومجلة، كان نصيب «روزاليوسف» منها اثنين خلال شهر ديسمبر الماضى، الأول بعنوان «الدستور فيه سم قاتل» والثانى بعنوان «الطامة الكبرى»، رغم اعترافى بالمواد الجيدة فى جنباته! وقد اهتم النظام الحاكم ومن والاه من الأنصار بالعمل على تدعيم وجوده ووضع العديد من النصوص الأساسية والانتقالية التى تهدف إلى بقائه فى السلطة إلى أقصى مدى ممكن، والهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة من الداخل، وإحقاقاً للواقع ما كان ذلك بفعل الإخوان المسلمين وحدهم، بل كان مع الأسف بدعم من جميع الأحزاب والقوى التى اتخذت من دين الإسلام الحنيف غطاء سياسياً زايدت به على عواطف الشعب المصرى، واستطاعت مجتمعة تمرير المُنتج الدستورى الذى أنتجته الجمعية التأسيسية فى استفتاء شعبى هلَّل له النظام الحاكم وأعوانه.
وبالتالى فإن المطلب الثورى والشعبى والشبابى من الإعلان الدستورى المزمع صدوره سريعاً، أن يُعلن صراحة مواقيت خارطة الطريق الانتقالى، ثم يضع - ضمن ما يُشرِّعه من ضروريات تسيير المرحلة القادمة - الأسس القانونية لتشكيل جمعية تأسيسية لإعداد دستور مصرى جديد بالكامل، لا تشتمل إلا على المتخصصين فى المجالات المختلفة أبرزهم الخبراء الدستوريون دون شك، شريطة ألا يكون لأعضائها أى انتماءات سياسية، وياليت طريقة الاختيار تعتمد على الانتخاب لا التعيين حتى لا ندخل من جديد إلى شبهة هوى الإدارة فى اختياراتها، كما يلزم ألا تُبقى مواد هذا الإعلان على مبدأ وجود أحزاب سياسية على أساس عقائدى أو مذهبى، تماشياً مع روح السماحة التى نأمل عودتها فى المجتمع المصرى والتى أثبتت تجربة العامين الماضيين مدى انهيارها أمام التلاعب العقائدى فى نطاق السياسة!
نحن أمام توجهات مختلفة لأجيال تتباين فى أعمارها وأحلامها وطموحاتها، أجيال تُدير وأجيال تثور، وكانت التجربة مريرة فى المساحة الزمنية بين فبراير 2011 ويوليو 2013، فهل ننال العظة من تجنيب تغيير النص الدستورى بالكامل بعد تنحى الرئيس مبارك، والعمل على عدم تكرار أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية والبُعد عن فكرة التعديل الدستورى الآن بعد عزل الرئيس مرسى، فيجب على الجميع إبراز الإيمان الحقيقى بمصر الآتية.
ألا هل بلَّغت لثانى مرة.. اللهم فاشهد على حكام مصر ومن والاهم.