بداية ليس بوسع المرء سوى أن يحترم حرص الأمريكيين على مصالحهم ومثابرتهم على تحقيق أهدافهم بغض النظر عن هوية الجالس فى البيت الأبيض.. فى مقابل طرف آخر لا يصد ولا يرد.. هذه ملاحظة كان لابد من ذكرها رغم غصة حسرة تفرضها الانهيارات الحالية فى مصر ونحن نتابع التحركات الأمريكية لمعالجة ملف مصر، ونشهد مجددا الدأب الأمريكى لاحتواء مصير هذه الدولة المحورية بالنسبة للمصالح الأمريكية فى العالم العربى ومحيط الشرق الأوسط الكبير وبعض من محيط العالم الإسلامى - حسب التصنيف الأمريكى لاستراتيجيتهم للقرن الجدي وبالتأكيد فإن التصريحات «المنفية» التى أطلقت مؤخرا حول نية حكومة مصر الحالية منح مثلث حلايب وشلاتين للسودان، وحول طرح مشاريع قناة السويس للانتفاع بدون قيود على جنسية وهوية المنتفعين ومصير شمال سيناء، ثم اللغط الذى صاحب هذه التصريحات سواء من قبل المعنيين الحكوميين أو قيادات الإخوان بالتأكيد هى بؤر اهتمام حساسة لواشنطن، وإذا كان كثيرون اعتبروا هذه الموضوعات بالونات اختبار لقياس ردة فعل الشارع المصرى فإنها فى نفس الوقت تضع يد أى محلل أو خبير محترف على جوانب تؤكد جدية هذه التوجهات.لكن دعونا أولا نبدأ بالخطوط العريضة الحالية التى تظهر السياسة الأمريكية اعتماد إدارة أوباما عليها لإدارة ملف مصر وهى كما عبرت عنها أفادت متنفذين فى واشنطن ممن ناقشتهم حول الأمر:
1-تأييد واضح لفصيل الإخوان مع التوصل معهم إلى تفاهمات أمنية وسياسية واقتصادية تغطى ملفات داخلية وإقليمية.
2- نية إدارة أوباما فى وقت لاحق هذا العام فى التحول نحو تأييد السلفيين فى تفعيل سريع للخطة «ب»، وهو المطلوب بعد الفشل السريع للإخوان داخليا، وبالتالى فالمتوقع أمريكيا الآن أن يتفوق السلفيون فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأحدهم فى واشنطن أبلغنى مازحا قبل أيام أن على أن أستعد لزيارة أسماء بارزة من هذا التيار إلى الولاياتالمتحدة ومنهم أشخاص كانوا على تواصل مع السفارة الأمريكية بالقاهرة، فسألته عن أسماء هؤلاء فرد بأن على أن أستعد لرؤية كثير من هؤلاء، قبل أن يستطرد بأنه شخصيا يراجع حاليا ملفات هؤلاء الشخصية وأن مكالمتى أتته وهو يطالع سيرة وصور طالب طب الإسكندرية السابق ياسر برهامى!
3 - استمرار الولاياتالمتحدة فى تشجيع وتدريب والدعم غير المعلن لشخصيات واعدة تؤمن بالقيم الأمريكية - وبالتالى تكون حليفة وموالية لواشنطن، وذلك إضافة لإفرازات برنامج ومشروع قديم تم تفعيله منذ أكثر من عقد لتدريب القيادات الشابة وزعماء المستقبل، وهؤلاء هم الذين يمكن من خلالهم تتويج الجهد الأمريكى للتأكد من استمرار مصر كحليف يقوم بالمطلوب منه وأكثر حين يصلون إلى سدة الحكم عبر انتخابات ديموقراطية، وهذا عمليا لا يمكن تحقيقه قبل مرور ثلاث سنوات على الأكثر حسب التقدير الأمريكى.
وهكذا وبفحص هذه التقديرات سنجد أنه من مصلحة واشنطن كسب الوقت عبر إشغال وانشغال مصر بقضاياها الداخلية، أى كما ذكرنا قبل أسابيع بأن المطلوب أن تترنح مصر، لكن دون السماح بسقوطها، فيتم دعم الإخوان والتأكد من قيامهم بكل المطلوب لمصالح أمريكا وحلفائها، ثم الدفع بفصيل آخر يسير على نفس الخطى ريثما يحين الوقت المناسب لتتويج الأصلح لسدة الحكم فى مصر التى ينبغى لها أن تظل فى المدار الأمريكى.
وعودة للمتواتر بشأن مخططات لتقسيم مصر، فلا يبدو حتى الآن على السطح ما يشير لتبنى علنى من قبل إدارة اوباما خيارات كهذه، ولكن المتوافر لدينا يشير إلى عكس ذلك فلا يمكن تجاهل حقائق على الأرض تثبت الاهتمام الأمريكى بهذه التوجهات ومنها: الاهتمام بقضية النوبة وتبنى كثير من مراكز صنع القرار فى أمريكا وبعضها محسوبة على اللوبى الإسرائيلى ادعاءات طرد سكان النوبة من أرضهم -المغمورة تحت المياه الآن- وإذكاء مزاعم تتحدث عن أحقيتهم فى أرض الجنوب كفصيل إثنى مختلف عن المصريين لهم حق فى استعادة لغتهم وحضارتهم التى تضمنت إقامة علاقات تاريخية من آلاف السنين مع بنى إسرائيل القديمة! وهناك مئات التقارير البحثية التى شارك فيها للأسف أستاذ مصرى أمريكى معروف باهتمامه بما يسمى الأقليات فى العالم العربى وبعض نوبيى المهجر.
وفى الشمال الغربى وعمقا حتى الواحات وجدنا اهتماما مماثلا لإذكاء انشطارات مماثلة لبدو الصحراء الغربية وظهور من يدعى حقوق «الأمازيج» فى أراضيهم بمصر وتشجيع أشخاص بالمال بزعم مطالبات حقوقية ومن هؤلاء سيدة تنحدر من جد مهاجر من المغرب لمصر. وبينما تتم عمليا محاولات اختطاف قناة السويس وسيادة مصر عليها بدعوى الاستثمار، وذلك ضمن منظومة مفعلة منذ أربعة عقود للسيطرة على مقدرات الدخل المصرى بدءا بتخصيص القطاع العام المصرى خاصة الاستراتيجى والتصنيعى والزراعى واشتراطات اقتصادية دولية تقلص الدخل القومى العام من الضرائب، بينما وبعد الثورة يستمر تباعا سحب مقدرات مصر، نجد مشروعا قديما قبيحا يسحب من الأدراج، وتعاود منظمات اللوبى الإسرائيلى الترويج له بعد زيارة الرئيس أوباما الأخيرة لإسرائيل والتى أعقبتها محاولات لوزير خارجيته الحالى لتفعيل عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المجمدة، وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد اعتمدت على فصيل الإخوان مؤخرا فى التفاهم مع حماس لصالح الحليف الإسرائيلى وأمنه، فإن زيارة الوفد الإسرائيلى الغامضة لمصر قبل يومين قد تشى ببعض من هذا التعاون، ولكن ماذا فيما يتعلق بالوضع الأمنى فى شمال سيناء وعلاقة حماس - التى هى بالأساس صنيعة إسرائيل لضرب انتفاضة الراحل أبو جهاد فى فلسطين- بمسألة مخطط التقسيم أو منح فلسطينيىغزة أرضا بشمال سيناء؟ الإجابة تقودنا إلى مخطط جديد طرحه مسئول أمريكى سابق على الرئيس أوباما وفريقه للشئون الخارجية أثناء حملة أوباما للانتخابات الرئاسية فى عام ,2008 وكذا عرضت على منافسه ساعتها جون ماكين وفريقه، وقبل الخوض فى تفاصيل هذه الخطة التى تشهد أروقة واشنطن حاليا نشاطا محموما لترويجها، فعلينا أولا أن نعود إلى الوراء قليلا وتحديدا لعام 1982 أى عام الغزو الإسرائيلى للبنان وإلى خطة أخرى وضعها عوديد ينون وكان كبير مستشارى وزير الخارجية الإسرائيلى، وحملت اسم «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط»، وبنيت خرائطها على محورين، الأول هو أنه وحتى تستمر إسرائيل فلابد أن تسيطر على المنطقة وتصبح قوة عظمى، والثانى أنه لكى يتحقق ذلك لابد من تقسيم العالم العربى إلى دويلات صغيرة، على أساس اثنى ودينى، وأن يكون حكامها خاضعين لإسرائيل، هذا كان مخطط ينون وخارطته التى توضح سيطرة إسرائيل من الفرات للنيل على دويلات مقسمة تشمل مصر، وللأسف فإن كثيرين ممن تهكموا وسخروا من هذه الخارطة لم يفهموا سوى المعنى الظاهر، أى تمدد إسرائيل واحتلالها للعالم العربى وفق مقولة تاريخية عن إسرائيل العظمى الممتدة من الفرات للنيل، وليس المغزى الحقيقى الذى يعنى سيطرة إسرائيل على هذه المنطقة سياسيا بعد النجاح فى تقسيمها على الأساس السالف ذكره، اعتمادا على تجربة الدولة العثمانية التى سيطرت على المنطقة لمدة 400 عام باعتماد تقسيمة الملل والنحل ومنحها حكما ذاتيا تحت هيمنة الآستانة.
أما عن المخطط الجديد والذى تم إخراجه من الأدراج الآن فهو خطة طرحها جيورا إيلاند من معهد دراسات الأمن القومى «الإسرائيلى» والرئيس السابق لمجلس الأمن القومى «الإسرائيلى» فى إطار صيغة حل وصفه «بالخيار الإقليمى» يتم بمقتضاه خلق «دولة فلسطينية» على أرض تقدمها مصر طواعية فى شمال سيناء تمتد من ساحل البحر المتوسط 600 كيلومتر و30 كلم جنوباً وبعمق يبلغ 20 كلم من ساحل المتوسط، لتتمدد فيها غزة بحيث يمكن بناء ميناء للفلسطينيين ومطار دولى شريطة أن يقام فى أقصى الجنوب الغربى، كما ستقام بنية تحتية تصل الميناء الفلسطينى بمدينة ستبنى فى غزة الموسعة تتسع لمليون فلسطينى فيما يقوم الأردن بالتنازل عن أراض تعادل 5٪ من الضفة قرب نهر الأردن للدولة الفلسطينية وتعوض دولة عربية الأردن بأرض بديلة، بينما تعوض «إسرائيل» مصر بأرض فى النقب يجرى التفاوض عليها لاحقاً مع منح مصر المزيد من الامتيازات.
وكان إيلاند قد طرح هذا الحل للمرة الأولى فى ورشة عمل سبقت انتخاب أوباما وحضرها كبار مستشارى أوباما ومنافسه الجمهورى جون ماكين مع حرص المعهد على أن يذكر أن هذه الأفكار على مسئولية صاحبها فى محاولة لإطلاق بالون اختبار لردود الفعل العربية، لا سيما أن مقدم الاقتراح محسوب على مؤسسة الحرب «الإسرائيلية» من واقع عمله 33 عاماً فى جيش الاحتلال، حيث شغل منصب رئيس التخطيط العسكرى.وساعتها مهد إيلاند لاقتراحاته تلك بشرح تعليمى للحضور حاول فيه تأكيد فشل «حل الدولتين» وقال إن الطرفين الأساسيين - أى الفلسطينيين و«الإسرائيليين» - لا يريدان حقيقة «حل الدولتين»، وإن العالم العربى لا سيما الأردن ومصر لا يؤيده حقيقةً، وإن هذا الرفض يجعل من الصعب التوصل لاتفاقية حل نهائى.
وبرر إيلاند أسباب الإخفاق وفشل حل الدولتين باستحالة التوصل لحل الموضوعات الأساسية التى تحكم الصراع حاليا وهى الحدود وأمن «إسرائيل» وبالنسبة للاجئين، فاعتبر أن الخلاف كان بسبب السياق التاريخى وليس مشكلة العودة نفسها وهو ما ينفى إمكانية تحقيق شرطين أساسيين هما إنهاء الصراع وإغلاق باب المطالبة بتعويضات، أما بالنسبة للمستعمرات فقال: إن الفلسطينيين والإسرائيليين لا يعتقدون أن «إسرائيل» ستكون قادرة على تفكيك أغلب المستعمرات الكبيرة، وأكد إيلاند وجود صعوبات جديدة تعوق أى اتفاق محتمل حول مدينة القدسالمحتلة ومستقبلها لأن إسرائيل لا تؤمن بأن الفلسطينيين يمكنهم منع حماس من التحكم فى الضفة الغربية مستقبلا وما يشكله ذلك من خطورة على إسرائيل.
أتذكر هنا أنى لدى متابعتى لهذه المناقشات صحفيا أن البعض تحدث عن رفض مروان المعشر وزير الخارجية الأردنى الأسبق طرحا آخر يتمثل فى سيطرة مصر والأردن على القطاع والضفة.ولكن إيلاند فى معرض ترويجه للحل الإسرائيلى الجديد طرح تفاصيل حول الحل الإقليمى أو الخيار الإقليمى المقترح ذكر فيها بأن 13٪ من مساحة الضفة ستضمها إسرائيل وأن تلك المساحة ستكون تقريباً موازية ومسار الخط الأصلى للجدار الفاصل.
وبالتوازى مع استمرار اللوبى الصهيونى ودون كلل بمطالبة الرئيس الأمريكى المنتخب أوباما بأن يسارع بإقناع الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل قبل القيام بأى مجهود فى إطار عملية السلام لأن من شأن هذا الاعتراف أن يسهل أى جهود أمريكية بشأن عملية السلام. الغريب أن بعض أقطاب هذا اللوبى تحدث مؤخرا عن موافقة سعودية وأردنية حصلت عليها إسرائيل تتنازل بموجبها السعودية عن قطعة أرض صحراوية للأردن ويتنازل الأردن عن أرض بديلة لفلسطينيى الضفة الغربية أى تبادل أراض.
وهكذا وفيما توضح هذه المعطيات الصورة وتمحو بعض علامات الاستفهام التى أحاطت بتصريحات قيادات إخوانية على نسق حق الرئيس وبالدستور فى إعادة ترسيم الحدود، يتبقى أن نؤكد مرة أخرى على العنصر الغائب الحاضر والذى فرض نفسه على حسابات الجميع من واشنطن للمقطم وحتى تل أبيب، إنه الشارع المصرى وإرادته التى لا يمكن ضمان احتوائها أو حتى مجرد تخيل ردة فعله، إنه الشارع القادر على سحق هذا المخطط وإبقائه مجرد خطة حتى لو نفذوا جميع خطواتها.