إسلام وهبان «إن تحرير الأرض مرهون بتحرير العقل»، بهذه الكلمات حاول الروائى المصرى محمد سمير ندا، أن يوجز رسالته، خلال الكلمة التى ألقاها بعد إعلان فوز روايته «صلاة القلق» ب الجائزة العالمية للرواية العربية، فى حفل كبير أقيم بالعاصمة الإماراتية أبو ظبى، وسط تفاعل كبير من الحضور ليس فقط لفوزه، بل لدموعه الخاطفة وشعوره بأنه مدين بهذا الفوز لوالده صاحب هذه الكلمات الأديب الراحل سمير ندا. تدور رواية «صلاة القلق» فى فترة عصيبة من تاريخ مصر الحديث ما بين نكسة يونيو 1967 وسنوات الانفتاح أواخر السبعينيات، وفى أجواء ديستوبية يحكى العمل عن نجع المناسي؛ قرية صغيرة متخيلة فى صعيد مصر ومعزولة عن العالم الخارجى، حين يستيقظ أهلها على وباء غامض يصيبهم بعد سقوط نيزك أو جسم غريب أحال ظلمة إحدى ليالى النجع إلى نهار، ليجدوا أجسادهم أشبه بالسلحفاة، بعد أن يتساقط شعر رءوسهم والرموش، وتنتابهم حالة غريبة من القلق تسرق النوم من العيون. إعادة تعريف النكسة لا يقدّم محمد سمير ندا فى روايته الصادرة عن دار مسكيليانى، نكسة 1967 وضياع سيناء كحدث عسكرى، بل يعيد إنتاجها فى صورة نيزك يسقط من السماء، يزلزل المكان ويفكك التوازن النفسى للمصريين وللعرب، أو لأهل نجع المناسى. حيث تحوّلت الهزيمة من خبر عابر إلى بنية سردية أسطورية، حيث أعمى الضوء العيون، وخلخل الوجدان. الرواية لا تكتفى بتأريخ الزلزال السياسى الذى أحدثته هزيمة يونيو 67 وضياع حلم القومية وسقوط الأقنعة عن نظام عبد الناصر، بل تحفر فى طبقات وعى الجماعة المعزولة، تلك التى قُطعت عنها الأخبار، وعاشت لسنوات فى وهم الانتصار، وصدقوا أن أبناءهم على جبهات القتال وقد استردوا الأرض وفى طريقهم إلى تحرير فلسطين، بينما هم فى الحقيقة فُقدوا إلى الأبد! عزل جغرافى أم تغييب فكرى؟ المكان هنا ليس مجرد نجع أو قرية نائية فى صعيد مصر، بل استعارة لقرى عربية عديدة بل وشعوب بأكملها طُمست ملامحها السياسية والاجتماعية بعد النكسة. فلم يكن الحصار الذى فُرض حول كفر المناسى بتدشين حقل ألغام يحيط بالنجع سوى إسقاط على الحصار الفكرى والإعلامى الذى تمت ممارسته قبيل وعقب الهزيمة. فبينما تعلن الدولة عبر أثير إذاعاتها أخباراً وبيانات متتالية حول انتصارات وهمية، يتحول السكان إلى مسوخ أشبه بالسلاحف؛ برءوس تخلو من الشعر كما تفرغ العقول من الشك، ويصير القلق هو القاسم المشترك بينهم، كتجلٍّ للاغتراب أو صرخة لمحاولة تعرية هذه العقول التى طمسها الزيف والكذب، وضياع حتى زينتها الخارجية. «استفحل الوباء حتّى نال من الشيخ نفسه فى غضون أيّام، هو وزوجته وبناته الخمس. أقضَّ القلقُ مضجعَ أيّوب ابن الوليّ جعفر، حتّى تشابه عندَه اللّيل والنهار. طالت اللّيالى كأنّها ليلٌ واحدٌ ممطوط. وشعر الشيخ بأنّ ثمّة أمرًا جللًا يمنع الشمسَ عن البزوغ، فظلّ يناجى الله أن يهبه كرامةً من كرامات أبيه». فن صناعة الأكاذيب تمثل شخصية خليل الخوجة انعكاساً لنظام الحكم بعد النكسة؛ ذلك الذى يحترف إعادة صياغة الوقائع وتزييف الحقائق. حيث يصدر جريدة بصفحة واحدة ويطلق عليها «جريدة الحرب» ليضفى عليها صبغة مهيبة، ويقوم على توزيعها ابنه الأخرس، فى مفارقة تكثف فكرة احتكار الرواية الرسمية على حساب أى صوت آخر. «الخوجة» لا ينقل الواقع بل يعيد تأليفه، ويستخدم صور الطائرات والدبابات كدليل زائف على المعركة، بينما الحرب الحقيقية تدور فى رأس كل فرد من سكان النجع. إنه تجسيد لخطاب السلطة التى صنعت نصراً مزيفاً من قلب الهزيمة، واحتكرت تفسير المصير. لذا حاول الكاتب أن يقاوم هذه الأحادية باستخدام تقنية تعدد الأصوات، فى محاولة منه لخلق تيار وعى، حتى وإن كان وعياً مشوشاً، فالرواة هنا يحكون الحدث ذاته، لكن كل من زاويته المحاصرة، وكأننا أمام ضمير جمعى مهزوز لا يستطيع قول الحقيقة الكاملة التى طُمست عن عمد. الدين كطقس للتمويه تتناول الرواية ثنائية الدين والسلطة بشكل مغاير، فلم يقف رجل الدين إلى جانب أهل السلطة لخدمة مصالحهم المشتركة ولم تقدم الرواية أيضا صورة لرجل الدين التنويرى الذى يبارز السلطة فى سبيل خدمة الناس وزيادة الوعى لديهم، بل اشتد الصراع بين الدين والسلطة بشكل خفى فقط لتحقيق مصالحهم الفردية، فالشيخ أيوب يقف فى مواجهة الخوجة، كصوت دينى مأزوم، يخلط الأسطورة بالإيمان، ويحوّل الدين إلى أداة تخدير بدلًا من أن يكون وسيلة لفهم المصير. يبتدع صلاة يطلق عليها «صلاة القلق» ليبرر الغياب والنكبة والخراب ليوهم الناس بأن فى الأمر حكمة إلهية لا يدركها العباد. ورغم الصراع الخفى على النفوذ والوصول إلى أن الدين فى واقع الأمر هنا يشتبك بالسياسة، ويصير الخطاب الدينى امتدادًا للخطاب السلطوى، فى تثبيت الحصار الذهنى وشرعنة التغييب. فالشيخ لا يقدّم يقينًا، بل يتحول إلى واجهة رمزية لعجز المؤسسة الدينية عن مساءلة الحاكم أو تفكيك الخطاب الرسمي. «هو يكره خليل الخوجة! يضايقه أن يستحوذَ الرجلُ على ما يستحقُّه هو من اهتمامٍ يليق برجل دين. هو إمام مسجد النجع الوحيد، وآخر نسل المنايسة الآيل إلى الانقراض. إنّه ابن الشيخ الذى عادَ من الموت بعد دفنه. وهو الوريثُ الوحيد للرجل صاحب الكرامات والمعجزات. ثمّ إنّه مَن وَأَدَ كلّ التوتّرات طيلةَ الوقت. هو كاتم الصوت الذى دأبَ على امتصاص التذمّر فى مهده، وهو وحدَه مَن صبغ الحربَ الضروس بإطارٍ دينيٍّ يروّض آذانَ المتسائلين بعباراتٍ عن القداسة والجنّة ونصر الله القريب. هو من يربط على قلوب الملتاعين الباحثين عن مصائر أبنائهم». فلسطين.. الغائب الحاضر فى خريطة الوباء رغم أن الرواية لا تدور فى فلسطين، إلا أنها كانت حاضرة بقوة، من خلال شخصية زكريا النساج، ذلك الرجل ذو الأصول الفلسطينية، الذى فقد أبناءه فى الحرب، والذى يمثل صوت المقاومة ويشجع على الكتابة كوسيلة للبقاء، وكأنها إشارة من الكاتب إلى أن من يحمل الذاكرة الحقيقية لا يمكن أن تبتلعه لعنة النسيان أو الاندثار. أو أن الفلسطينيين وحدهم فى هذا العالم هم من يملكون «مفتاح الذاكرة» وحق العودة. اختيار اسم زكريا نفسه وطريقة موته أيضاً لم يكن مجرد حدث عارض، بل بمثابة ذروة رمزية تُدين الأنظمة التى قتلت القضية الفلسطينية، وأفرغت التضامن من معناه. لقد قُتل الفلسطينى فى الرواية، لا برصاص المحتل، بل برمز الحاكم المحلي. متلازمة تخليد المهزومين استطاع محمد سمير ندا من خلال لغة شاعرية لافتة وسرد متصاعد تمرير العديد من الإسقاطات والأفكار المهمة، مثلاً حكاية التمثال الذى يشبه الزعيم فى تحيته لكنه مبتور الرأس وتقديس أهل النجع له، كانت شديدة الرمزية وتعكس مدى غياب الوعى لدى أهل النجع وقدرة البعض على خلق أساطير عن الحاكم رغم هزيمته، وكأنهم يواسون هزيمتهم الداخلية، كما أنه إشارة إلى الصورة الموازية للقائد الذى أفقدته الهزيمة رأسه وحولته إلى إيماءة! ويظل انتصابه هو الدليل الوحيد على وجوده ولو غابت ملامحه. فضلاً عن كونها تُعيد طرح تساؤلاتٍ عديدة ومْلحة منها: كيف يتحوّل الحاكم إلى رمز خالد رغم الهزائم والانكسارات؟ وكيف تستمر الشعوب فى إعادة إنتاج صورته المقدسة حتى بعد أن تفتك بها الأوبئة والهزائم؟ «ظنّ بعضُهم أنّه أحد تماثيل الفراعين، لكنّ بعض الأذكياء لاحظوا أنّ التمثال لرجلٍ يرتدى حُلّةً رسميّة، ويرفع يمناه ليُحيّى جماهير لا يراها سواه، ولا يسمع أصداء هتافاتها غيره. قال الخوجة إنّ التمثال للزعيم المُلهم، وإنّه منحوتٌ فى القاهرة، ثمّ أفادَ أنّ صانعيه مصابُو حرب. فتعجّب بعضُ السامعين من تفرّغ المُصابين لنحت التماثيل لمن زجَّ بهم فى الحرب، لكنّهم واصلوا دفعَ ربع إيراداتهم للمجهود الحربيّ كما جرت العادة، بل طالبَ أغلبُهم بتوفير الخامات والتدريب اللّازمَين لنحت تمثالٍ أكبر حجمًا فى النجع، وسمّى آخرون التمثالَ بمسخوط الزعيم، قبل أن تسرى بين الناس حكاياتٌ بطلُها تمثالٌ للزعيم مبتورُ الرأس ينشط بعد مغيب الشمس، فيغادر موضعَه ليجوب الطرقات كأنّه يتفقّد أحوالَ رعيّته!» الغناء كمخدر للحواس صوت عبد الحليم حافظ وأغانيه كان حاضراً بقوة، كعنصر زمنى وشعورى، يُعيدنا إلى حقبة ارتبط فيها الفن بخطاب الدولة. الأغانى التى يرددها الجرامافون فى بيت الخوجة، فى مواجهة صوت الابن الأخرس حكيم، والتى تشى بحالة من التناقض الصارخ بين صوت الحنجرة الذهبية التى تغنى للحب والنصر، بينما الواقع غارق فى العتمة والصمت العميق. استخدام أغانى عبد الحليم فى الرواية ليس فقط نوستالجيا، بل أداة نقدية لتفكيك العلاقة بين الفن والسلطة. فقد تحوّل صوت عبد الحليم من وعد بالأمل إلى خلفية تزيّن مأساة، وتُسكر وعى الجماهير، تمامًا كما فعل الخطاب الإعلامى الرسمى بعد الهزيمة. «صلاة القلق» ليست مجرد رواية عن الوباء ولا المنسيين، بل هى مساءلة نقدية للهزيمة الكبرى التى ما زالت تتفاقم فى واقعنا العربى، وتضع القارئ أمام سؤال أصبح حتمياً: هل نرغب حقًا فى كسر حصار التغييب؟ وهل لدينا الجرأة لاجتياز السور والسير فى حقل الألغام؟