الثابت أنه باستثناء «خديجة بنت خويلد» التى عقد عليها «صلى الله عليه وسلم» قبل البعثة، وتوفيت عنه بعدها، عقد رسول الله العقد ودخل بإحدى عشرة زوجة «ليس فى وقت واحد»، ونحو سبع أخريات عقد عليهن ولم يدخل بهن، فيما يميل بعض الروايات غير الموثقة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد خطب حوالى ثلاثين امرأة لأسباب مختلفة وإن كان لم يعقد عليهن جميعا، ولم يدخل بهن جميعا، وبعضهن أبين الزواج منه، بل وتعوذن منه أحيانا، فكانت من تفعلها يقول لها قد استعذت بعظيم ويسرحها، وأشهرهن «عمرة الكلابية»، حيث قيل إنه «صلى الله عليه وسلم» سرحها لما رأى بياضا بها، بينما يروى عن عائشة أنها قالت «أستعيذ بالله منك»، فأعاذها وتركها!
إن رجلا - بعد الأربعين - يتمتع بعلاقات بهذه السمعة الحسنة بين النساء لهو أمر يستحق الدراسة فعلا، كما أن حالتى «تعوذ» فقط، لا يعتد بهما بين هذه الكوكبة النسائية، والمسجل أن إحداهما أصلا يبدو أنها كانت من باب التدلل، حيث روى أنه دعا أسماء بنت النعمان إليه، فأبت من باب التدلل وأجابته بل ائتنى، فآلمه ذلك منها، بينما على الروايات الأرجح أنها لسبب ما قالت: «أستعيذ بالله منك»، فقال: «قد استعذت بعظيم»، وردها إلى أهلها، ففعلت وأسمت نفسها «الشقية» حتى ماتت، باعتبارها تسببت لنفسها فى صنف من اللعنة والطرد من نعيم صحبة الرسول. وكما يتضح من سرد الرواة فإن من بين زوجاته كانت عائشة من «يُعمل حسابها»، وبعد زواجه من «حفصة» بنت عمر بن الخطاب، كان بين المرأتين ثمة اتفاقية إدارة غير معلنة على باقى نسائه، وكان قد تزوج «صلى الله عليه وسلم» حفصة بعد ترملها، وبعد أن عرضها أبوها على أبى بكر الذى كان «محمد» قد أسر إليه برغبته فيها فلم يشأ أبوبكر إفشاء سر خليله ولم يعط ابن الخطاب رأيه، فآلمه أن أبا بكر يرفض مصاهرته، وكذلك ابن عفان، وذهب شاكيا لنبى الله، فقال «يتزوج حفص من هو خير من أبى بكر، ويتزوج عثمان من هو خير من حفص»، فكانت زيجة حفص من النبى التى أثلجت صدر ابن الخطاب كثيرا، وجعلته يرفع رأسه بين الناس لمصاهرته النبى، وكان أن تزوج عثمان من «أم كلثوم» بعد وفاة رقية، وبعد دخول حفص بيت النبوة، كانت «عائشة» تعتبرها من بين نسائه «المكافئة» لها، فتلك بنت الخطاب وهذه بنت أبى بكر. وفدت «السيدة ماريا القبطية المصرية» مع أختها سيرين بنت شمعون إلى كنف النبى باعتبارهما هدايا من المقوقس والى مصر، وعظيم قبطها، وكانتا ابنتين لرجل قبطى عالى القدر بين مسيحيى الصعيد، وكانتا جميلتين للغاية، فكانت «ماريا» بيضاء دعجة على حد وصف عائشة، وجميلة الملامح، دعك من أنها مصرية، ولعلنا نقول دون تعصب كبير أن للمصريات فضلا وجاذبية خاصة فى تاريخ شبه الجزيرة، فكانت هاجر الولود أم إسماعيل نعم الزوج للخليل، ومن تركها فى عراء الصحراء القاحلة فلم تنبس ببنت شفة وامتثلت لأوامر ربه عن إيمان عميق بأن الله لن يضيعها وولدها، وكان المقوقس قد احترم خطاب رسول النبى «حاطب بن أبى بلتعة»، وحسن بيانه، وجنوحه للأدب فى الحديث مع والى مصر، وعظيم مسيحييها، فأرسل معه الجميلتين، وجرار عسل من بنها، وبغلة صبورا يقال لها «دلدل»، وبعض خيرات مصر، وقبل النبى الهدية قبولا حسنا. دعك مما قيل عن إسلام «ماريا»، فبعض الرواة يؤكد أنها اعتنقت الإسلام بعد استفاضة «ابن أبى بلتعة» فى وصف دين محمد لها ولأختها طوال الطريق من مصر إلى شبه الجزيرة، وجنح البعض إلى أنها أسلمت فى كنف رسول الله لما لاقته من حسن المعاملة، أيا كان الأمر فإنها دعيت القبطية حتى بعد وفاتها، وقد حبسها النبى لنفسه، وأهدى سيرين أختها إلى شاعره حسن الخلق واللسان «حسان بن ثابت»، لكن الثابت كذلك أن النبى لم يضمها إلى داره حيث باقى نسائه، بل تخير لها موضعا كثير الخضرة والزرع على خلاف الصحراء العربية إكراما لمنبتها وأصلها الذى لا يعرف سوى الخضرة ولين الأرض، ويشقى أبناءه صفرة الصحراء وجدبها. كان هذا أول امتياز تتحصل عليه «الجارية» الوافدة على باقى النساء، وكان يزورها فى بيتها، ويمكث عندها طويلا لحسن ضيافتها وجمال أخلاقها وطباعها، فكان أن تحركت الغيرة مجددا فى قلب عائشة، حتى أنها اشتكت مشقة ذلك عليها، أى خروج النبى من كنف نسائه جميعا إلى حيث ماريا، وبقاءه عندها، ثم حملت ماريا، فكان النبى يعودها بنفسه يوميا، ويخدمها ويسهر عليها وهو ابن الستين، ثم أنجبت ولده «إبراهيم»، وهو الأمر الذى لم تحتمله عائشة التى لم تنجب له أولادا، فلما قيل أن محمدا أنجب من جاريته، قال النبى: أعتقها ولدها، واستجلب لها مرضعا كما جرت عادة سادات قريش من النساء آنذاك، وخصص لها عنزا تطعمها وترضع ولدها، ومنحها حريتها فصارت زوجته وأم ابنه، بعد أن لم يتبق له من أولاده كلهم من خديجة إلا فاطمة، ويكفيك فخره بابنه منها أن أسماه خلفا لجده إبراهيم زوج هاجر المصرية، وكأنه يعيد سيرته. الحق أن عائشة - بحس المرأة - لم تتوقف لحظة عن محاولة الدفاع عن بيتها ومنظومتها التى تتمركز حول زوجها، حتى أن حفصة بنت الخطاب فيما يبدو قد آثرت السلامة معها، فدخلت تحت جناح إدارتها، ويتضح ذلك من واقعة «عسل المغافير» التى يميل الرواة إلى تأكيد حدوثها بتدبير من عائشة واستهدفت بها «السيدة ماريا»، التى يمكن القول دون تجاوز كبير أنها كانت «فى حالها»، ولم تمل إلى الخلطة مع نساء النبى العربيات، ولم تتفق مع طباعهن، كما لم تدخل بحال تحت لواء عائشة، وظلت حتى وفاتها لا تتصل إلا بأختها سيرين، ولا تزور سواها ولا تزورها إلاها تقريبا. ثمة نمط انعزالى هنا لم تعتده عائشة ولم ترتح إليه، فكان أن رتبت مع حفص أن تشكو نساؤه جميعا من رائحة فيه التى تحمل بعض ريح نبتة قوية يقال لها مغافير، وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يكون لجوفه ريح، ويستطيب أن يكون له رائحة السواك لا غيره، ووافقت النسوة وامتثلن لعائشة، فكان أن اشتكين رائحة جوفه، فنفى تناوله للنبتة، وقال أنه شرب عسلا عند زينب - يقصد بنت جحش، والأرجح أن الواقعة جرت مع ماريا التى بات عندها، والتى يقال أيضا أنه أصابها على فراش حفص لشوقه إليها، وبعد أن استئذنته حفص فى يومها للخروج إلى بيت أبيها، فلما رجعت لدارها وجدت الباب مغلقا، فانتظرت حتى خرج يتصبب عرقا، وخلفه ماريا، فتضايقت، المهم أنه لسبب ما يخص ماريا وغيرة النسوة الأعرابيات منها، حلف الرسول أنه لن يقربها مرضاة لبعض زوجه، وطلب ألا يخرج أمر قسمه هذا عن نطاق السرية التى أفضى بها إليها، فكان أن أرادت حفص أن تبرد نار عائشة وتتكسب المزيد من ودها وتتقرب إليها، فنقلت لها أمر قسم النبى بشأن ماريا، وقالت «أراحنا الله منها». ويرجح كذلك الرواة فى هذا السياق أن آيات صدر سورة التحريم قد نزلت فيها، بعد أن حرم النبى على نفسه لقاءها إرضاء لبعض نسوته، فعاتبه الله على ذلك، وعلى إفشاء بعض نسائه سره إلى بعضهن، والمعروف كذلك أن النبى حزن حزنا شديدا لوفاة ابنه إبراهيم من ماريا، التى دفنت بعده بقليل إلى جواره فى البقيع. إن واقعة التحريم نفسها تشى بكم كان النبى رقيق القلب «يبغى مرضاة أزواجه»، حتى أولئك اللاتى لسبب أو لآخر لم يرضين بدخوله عليهن، لم يكن يغلظ لهن القول، ولم يضايقهن أو يأتيهن كرها أو غصبا، على خلاف ما يشاع عنه من قبل بعض المستشرقين، والمثير للدهشة فعلا أن نساءه لم يقلن عنه إلا خيرا، حتى أن ماريا المصرية عاشت فى كنفه تبغى مرضاته، وتوفى راضيا عنها كما قال، ثمة إجماع حريمى هنا على أن «محمد» الرجل، لم يكن غليظا أو خشن الطبع، بل كان رجلا سعت نساؤه لإرضائه والتقرب إليه كزوج وكرجل قبل أن يكون نبيا رسولا، مكانة كتلك لا تتحقق إلا بحسن العشرة وابتغاء مرضاة الزوجة، والحب الذى قدمه إليهن عن طيب خاطر.