«ملطشة».. ونعكشة.. وفرفشة في الحارة المصرية! التقطت لحظة هدوء نفسي نادرة في لندن. لم تكن فقط لحظة، بل لحظات كثيرة، وفي مواقف عدة ولايزال صوت منير وفيروز يكملان الصورة بداخلي، كنت أتعجب سابقا من الذين ينشدون الهدوء والراحة خارج القاهرة وعبارة يرددونها أنهم يشحنون بطارياتهم، يستجمعون قواهم ليتمكنوا من الصمود أمام الإحباطات العامة والخاصة. الشيء الذي كان يعزيني ويعزي الكثيرين من عشاق هذه الأرض هو أن ناسها طيبون، كانت هذه الطيبة تمحو ذنوبا كثيرة ترتكب في حقنا، كان هناك سحر يرتسم علي الوجوه، شهامة وجدعنة قلما تجدها في بلدان أخري، حتي هذه الميزة اختفت أو تحولت وتبدلت، فأصبحنا نسمع عن جرائم داخل المساجد ساعة صلاة التراويح. أستقل القطار من برمنجهام المدينة الثانية من إنجلترا لأصل إلي مدينة أكسفورد وقد يختلط الأمر علي كثيرين متصورين أن أكسفورد هي الجامعة أو الشارع الشهير في لندن، ولكن الحقيقة أنها مدينة صغيرة تتوسطها الجامعة كل شيء به عتيق مصبوغ بلون القدم المباني الشوارع، الدفء، فالمدينة كلما صغرت كلما شعرت بمتعة أكبر وأن تتجول بين أرجائها لايزال ناسها يحملون طيبة وهدوء فيرحبون بالقادمين إليها، أتوقف في أحد الشوارع وأسأل عن مكتبة لأجد ثلاثة من الشباب الإنجليز سكان هذه المدينة الهادئة، يشرحون لي وبهدوء كيفية الوصول إلي عدة مكتبات، أتركهم وأتجه حسب الوصفة لأجد بالفعل عدة مكتبات متجاورة. لايزال صوت منير يصاحبني «يا بنت يا موا المريلة كحلي/ يا شمس هالة وطالة من الكولة/ لو قلت عنك في الغزل قوله/ ممنوع عليا ولاَّ مسموح لي. هنا في هذه البلاد لا مانع لدي أحد أن يقف طابور طويل قد يمتد لنصف ساعة انتظارا لدوره ولا مكان لواسطة تنقذك من الانتظار، هنا تعلم وتدرك متي سيصلك القطار أو الأندرجراوند متأخرا بضع دقائق، فإن هناك صوتا يأتيك عبر الميكرفون معلنا عن التأخير أعود فأقول كان زمان ما يميز بلادنا هو ناسها ولادها أطفالها ونساؤها، أما الآن فالأمر اختلف وجعل هذا تيترات مسلسلات رمضان هذا العام فتجد مثلا تيتر مسلسل «أهل كايرو» الذي يرسم ملامح الشخصية المصرية موديل 2010 فيقول: «هنا حرامي.. قالوا عصامي.. عامل فيها للشرف محامي.. هنا فلاتي.. قالوا شعراني.. وبالليل هات نفس يا سامي.. كل اللي يغلط علي راسو بطحه.. بقي النهارده يا عينه يا جمايله». نعم لم تعد القاهرة منورة بأهلها علي رأي يوسف شاهين، بل تحولنا وتحول البلد إلي فرح شعبي في حي عشوائي فتري كل الموبقات والقبح الذي تدركه الذي قد تراه لأول مرة يأتينا صوت حسين الجسمي بدفئه وتدفقه وكلمات أيمن بهجت قمر وألحان وليد سعد. لذلك فطوال رحلتي التي امتدت لعشرة أيام كنت أبحث عن لحظات من السكينة تعينني علي العودة إلي قاهرتنا الصاخبة. آخر حركة في تيتر مسلسل «الحارة» استخدم الشاعر ألفاظا مثل ملطشة وفرفشة ونعكشة وجميعها ترسم صورة الحارة، وللحديث بقية.