اصطحبت معي صوت فيروز الرقيقة ومنير الدافئ المتمرد.. اصطحبت صوتهما معي محاولة أن أرسم ملامح «المدينة الفاضلة»، أستعير هذا المسمي ليس بحثاً عن الكمال التام، وإنما حاولت أن أبحث عن لحظة هدوء. سرت في أكسفورد وسط زحام المشاة، ما بين عرب وإنجليز وسواح أجانب، فتختلط اللهجات، وتتقارب الوجوه، الجميع يسيرون، وكأن هناك من رسم للجميع خطاهم ودقات الكعوب المنظمة، صانعة إيقاعاً واحداً، وكأن هناك شبه اتفاق علي النظام، هناك إشارات مرور تجسدك علي الوقوف، لا يستطيع أحد أن يحيد عنها، فالإشارة الحمراء هنا لاتزال تحمل نفس المعني، وهو الوقوف. قد يتساءل البعض: لماذا فيروز ومنير في إنجلترا، قد يبدو الأمر غريباً ولكن لأني أحاول يومياً أن أستحضر بصوتهما حالة مزاجية هادئة ولا أقول سعيدة لأنها أصبحت شيئاً بعيد المنال، حالة نحلم بها نحن أهالي مصر المحروسة.. سكان القاهرة العاطرة الساحرة علي رأي عمنا سيد حجاب، حالة لا تتحقق لنا هنا في هذا البلد الذي كان جميلاً، فيومياً نبدأ طقوسنا بقراءة الجرايد فتصبح سبباً رئيسياً للعكننة، ثم نحاول أن نعافر في الزحام وشدة الحرارة لنصل إلي أعمالنا منهكين، مهللين، بعد أن اصطدمنا حتماً بسائق تاكسي «غتيت» أو لجنة مرور وقف بها ضابط شرطة ينهر السائقين، أو مطب عميق يفسد شكمان سيارتك، أما إذا كنت من راكبي التاكسيات فياويلك من «بونديرة» التاكسي الأبيض أو مبالغة سائقي التاكسي الأسود، أما راكبو الميكروباصات فلا عزاء لهم فالعكننة تتربص بهم يومياً. نسم علينا الهوا من نفراء الوادي / ياهوي ياأهل الهوي خدني علي بلادي.. يأتيني صوت فيروز عبر سماعات استقرت في أذني باحثة عن حالة الهدوء التي أنشدها، أسير وسط الزحام غير عابئة به، لا يعكنني ولا يشد أوتار أعصابي فكل شيء هنا محسوب فقط بشرط أن نتقبل ونرضي بالنظام الذي نعيش فيه، لا شيء متروك للصدفة، تأتيني نسمة باردة تتبعها قطرات من المطر يسمونها الإنجليز shower أي دش، فالمطر في هذا الوقت من العام رقيق ينساب علي وجهك فيرطبه ويجعله نديا. أسرح قليلاً في تعبير «خدني علي بلادي».. ولأول مرة أشعر أنني لا أريد أن أعود، لا أريد أن أدخل يومياً معركة من المعارك الروتينية التي تنهال علينا يومياً من أجل فقط أن نعيش، ولا أكون أكثر صراحة من أجل أن نحيا، فمجرد أن نحيا في هذا البلد أصبح من المستحيلات بدءاً من الهواء الفاسد الذي نتنفسه وانتهاءً بالغلظة التي أصابت البشر مروراً بالحوادث والغلاء والحر الشديد. الكون كله بيدور وإحنا وياه بندور اليوم بحر نعديه للي إحنا بنحلم بيه حبيبي من ايديك ده العالم ملك إيدينا.. صوت منير الدافئ الذي يخلق في وجداني دائماً ركناً يقظاً حراً ينفر من القبح، ويسعد بالجمال، ركناً مازال يمتلك القدرة علي الدهشة، وفيضا جارفا من الحماس.. ذهبت أنشد لحظة هدوء فهل أجدها؟!! • آخر حركة آخر صوت استمعت إليه قبل سفري كان حسين الجسمي وهو يغني «عيني علي أهل كايرو.. لبط مين يسايروا.. الكل عامل مثالي.. ونازلين في بعض يعايروا».