فضائح التمويل الليبي تتواصل، ساركوزي أمام محكمة جديدة بتهمة التلاعب بشاهد    ترامب يعلن فرض حصار على ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات المتجهة إلى فنزويلا    هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على «كراسنودار» الروسية يتسبب في انقطاع الكهرباء    اليوم، منتخب مصر يغادر القاهرة إلى المغرب استعدادا لانطلاق أمم إفريقيا 2025    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم بحلوان    حبس المتهمين باستغلال نادى صحى لممارسة الرذيلة بالقاهرة    تامر حسني يعود إلى المسرح بعد أزمته الصحية ورد فعل هائل من جمهوره (فيديو)    مسئولو "الإسكان" يُشاركون بجلسات نقاشية بالمنتدى الوزارى العربي السادس للإسكان والتنمية الحضرية بقطر    وزير الاتصالات: تأهيل الشباب للعمل كمهنيين مستقلين يساعد فى توسيع نطاق سوق العمل وخلق فرص عمل لا ترتبط بالحدود الجغرافية    منح البورصة المصرية رخصة تداول المشتقات نهاية يناير المقبل    سيد محمود ل«الشروق»: رواية «عسل السنيورة» تدافع عن الحداثة وتضيء مناطق معتمة في تاريخنا    «عسل السنيورة»... قراءة في تاريخ وروح مصرية    حالة من الغضب داخل مانشستر يونايتد بشأن رفض المغرب مشاركة مزراوي مع الفريق    إعلان أسماء الفائزين بجائزة مسابقة نجيب محفوظ للرواية في مصر والعالم العربي لعام 2025    أحمد مراد: لم نتعدى على شخصية "أم كلثوم" .. وجمعنا معلومات عنها في عام    رئيس محكمة النقض يترأس لجنة المناقشة والحكم على رسالة دكتوراه بحقوق المنصورة    مصدر أمني ينفي مزاعم الإخوان بشأن هتافات مزعومة ويؤكد فبركة الفيديو المتداول    مصرع شاب داخل مصحة علاج الإدمان بالعجوزة    ضياء رشوان عن اغتيال رائد سعد: ماذا لو اغتالت حماس مسئول التسليح الإسرائيلي؟    38 مرشحًا على 19 مقعدًا في جولة الإعادة بالشرقية    حملة تشويه الإخوان وربطها بغزة .. ناشطون يكشفون تسريبا للباز :"قولوا إنهم أخدوا مساعدات غزة"    وزير الرياضة وهاني أبو ريدة يحفزان المنتخب الوطني قبل أمم أفريقيا    أحمد مراد: لا يقلقني جدل «الست».. ويمكن تقديم 1000 فيلم عن أم كلثوم    نصائح تساعدك في التخلص من التوتر وتحسن المزاج    بعد العودة من الإصابة، رسالة مؤثرة من إمام عاشور تشعل مواقع التواصل عقب فوز مصر على نيجيريا    تشيلسي يتأهل لنصف نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    مصطفى عثمان حكما لمباراة البنك الأهلي ومودرن سبورت في كأس عاصمة مصر    خطأ بالجريدة الرسمية يطيح بمسؤولين، قرارات عراقية عاجلة بعد أزمة تجميد أموال حزب الله والحوثيين    «كان مجرد حادث» لجعفر بناهي في القائمة المختصرة لأوسكار أفضل فيلم دولي    الإعلان عن إطلاق منصة رقمية للتمويل الإسلامي خلال منتدى البركة الإقليمي    جزار يقتل عامل طعنا بسلاح أبيض لخلافات بينهما فى بولاق الدكرور    تفاصيل مداهمة مجزر «بير سلم» ليلاً وضبط 3 أطنان دواجن فاسدة بالغربية    رجال السكة الحديد يواصلون العمل لإعادة الحركة بعد حادث قطار البضائع.. صور    اللاعب يتدرب منفردًا.. أزمة بين أحمد حمدي ومدرب الزمالك    كامل أبو علي ينصح حسام حسن: تجاهل السوشيال ميديا    ترامب يعلن أنه سيوجه خطابا هاما للشعب الأمريكي مساء غد الأربعاء    مسؤول إيرانى سابق من داخل السجن: بإمكان الشعب إنهاء الدولة الدينية في إيران    أرمينيا تتهم الاتحاد الأوروبي بالتدخل في شؤونها الداخلية    فيفا يكشف تفاصيل تصويت العرب فى «ذا بيست» 2025    ضياء رشوان: ترامب غاضب من نتنياهو ويصفه ب المنبوذ    هيئة الدواء: نظام التتبع الدوائي يوفر رؤية شاملة ويمنع النواقص    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: الحكومة هدفها خفض الدين العام والخارجى    "الصحة": بروتوكول جديد يضمن استدامة تمويل مبادرة القضاء على قوائم الانتظار لمدة 3 سنوات    نائب وزير الصحة: الولادة القيصرية غير المبررة خطر على الأم والطفل    بنك المغرب يحافظ على سعر الفائدة الرئيسي عند 2.25% وسط حذر اقتصادي    خبير تشريعات اقتصادية: زيادة حد إعفاء السكن من الضريبة خطوة مهمة لتخفيف الأعباء    تفاصيل خاصة بأسعار الفائدة وشهادات الادخار فى مصر    شيخ الأزهر يستقبل مدير كلية الدفاع الوطني ويتفقان على تعزيز التعاون المشترك    ما حكم من يتسبب في قطيعة صلة الرحم؟.. "الإفتاء" تجيب    مجلس النواب 2025.. محافظ كفر الشيخ يتابع جاهزية اللجان الانتخابية    السكرتير العام لبني سويف يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات الخطة الاستثمارية    المصريون بالأردن يواصلون الإدلاء بأصواتهم خلال اليوم الثاني لجولة الإعادة لانتخابات النواب    خالد الجندي: لن ندخل الجنة بأعمالنا    الندوة الدولية الثانية للإفتاء تدين التهجير القسري وتوضِّح سُبل النصرة الشرعية والإنسانية    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 16ديسمبر 2025 فى المنيا    من المنزل إلى المستشفى.. خريطة التعامل الصحي مع أعراض إنفلونزا h1n1    وزير التعليم ومحافظ أسوان يتابعان سير الدراسة بمدرسة الشهيد عمرو فريد    عضو بالأزهر: الإنترنت مليء بمعلومات غير موثوقة عن الدين والحلال والحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. مصطفي محمود يكتب : أسماء الله
نشر في صباح الخير يوم 24 - 08 - 2010


«ولله الأسماء الحسني فادعوه بها»
وهناك يوجا خاصة بالتسابيح اسمها «المانترا يوجا» من كلمة «مانترام» الهندية أي تسبيحة. ومن التسابيح السنسكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة. رهيم.. رهام.. آلاف المرات.. وهي كلمات تقابل.. رحيم.. رحمن.. عندنا وهي من أسماء الله بالسنسكريتية.
ويضع اليوجي في عنقه مسابح طويلة من ألف حبة.
والتسبيح الحقيقي في نظر الغزالي لا يكون بمسبحة ولا يكون باللسان وإنما بالقلب.. في الخلوة والسكون والصمت. مع دق القلب تتلو الروح في صمت وبدون صوت.. أسماء الله.
«واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول»
وهي أرقي درجات التصوف ولا يستطيع بلوغها إلا من بلغ سكون النفس وصفاء الروح وامتلك القدرة علي حصر الانتباه والتركيز والانصراف إلي التأمل بجماع القلب والهمة وقويت عزيمته فقهر شهواته وشواغله الدنيوية وصعد درب السالكين إلي الله. وهو صعود أشق من الصعود إلي القمر. لأنه يقوم علي الجهاد الهائل مع النفس.
وأول خطوة للمتصوف أن يتغلب علي نفسه. فالنفس حجاب، والعقل حجاب، والعرف حجاب. وكل هذه الأشياء هي جلد الإنسان الخارجي وليست حقيقته.. ولابد من تجاوز هذه الأسوار حتي يستشرف المتصوف علي روحه في بكارتها ويضع قدمه علي عتبتها ليري ما لا عين رأت ويسمع ما لا أذن سمعت.
والتصوف إدراك عن طريق المدارك العالية.
والمتصوف عارف
ولكن هدف معرفته هو الله في كماله.. وليس طلب المعارف الجزئية كالطبيعة والكيمياء والجغرافيا والتاريخ
إنه يسعي إلي معرفة كلية بحاسة مختلفة ووسيلة مختلفة عن وسيلة المنطق وأدوات العلم الوضعي المألوفة ولهذا كانت أول عقبة أمام المتصوف هي نفسه ذاتها ومألوف عاداته. «فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة»
وفي بعض أخبار داود أنه قال.. يارب أين أجدك.. فقال له.. اترك نفسك وتعال.. غب عنها تجدني.
وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسي في القرآن:
«فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوي»
إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد.. هوي النفس وملذات الجسد.. فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد.
والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلي الأرض.
ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس.
والقرآن يخبرنا أنه بعد الموت والبعث يتم الشهود فنري الله ونلقاه.
«واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين»
«وكلهم آتيه يوم القيامة فردا»
«يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه»
«ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة»
«وجاء ربك والملك صفا صفا»
«وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما»
«ولو تري إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم»
«تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريما»
«يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم علي شيء ألا إنهم هم الكاذبون»
«هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر»
وقد أنكرت بعض الفرق الإسلامية إمكانية رؤية الله في الآخرة وفسرت هذه الآيات بأنها رموز وإشارات ومجاز لا حقيقة، وأنها تفهم علي باطنها لا علي ظاهرها.
وكانت حجتها أن العين لا تري إلا المحدود المتناهي في الزمان والمكان، والله لا محدود ولا متناه ومتعال علي الزمان والمكان وبالتالي لا يمكن لعين أن تراه، وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي.. فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا، وهو أمر ينكره القرآن فيقول عن النشأة الأخري «وينشئكم فيما لا تعلمون» أي أنه سوف ينشئنا نشأة مختلفة تماماً عن كل ما نعلم.
ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود.. وأن تري الله كما يراه الملائكة.
والقرآن يعرفنا بتسعة وتسعين اسماً من أسماء الله الحسني.. بعض هذه الأسماء مما يختص الله به نفسه مثل اسم «الله» وأسماء أخري مثل الكريم والحليم والرءوف والودود نطلقها علي أنفسنا فنقول عن الواحد منا إنه كريم وحليم ورءوف وودود ولكن لا يصح أن نقول إنه «الله» لأنه اسم علم علي الذات الإلهية بينما الأسماء الأخري أسماء للصفات والأفعال الإلهية والذات الإلهية سر مطلسم ليس لبشر أن يخوض فيه.. أما الصفات والأفعال فلنا أن نتأمل فيها.
والله يجيب من يدعوه بأسمائه.. «ادعوني أستجب لكم».
«وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان»
وهي حقيقة.. ولكن الوسيلة إليها ليست مجرد شقشقة اللسان بأن نقول يارب.. فكل واحد يقول يارب.. بعقل فارغ تمامًا عن مدلول الكلمة.. إنما النداء علي الله أمر جليل.. وهو صميم التصوف.. بل هو التصوف ذاته.. ولا يقدر عليه إلا أصحاب القلوب والبصائر والهمم العالية.
وليس يعني هذا أنه لابد أن تكون درويشًا لتدعو الله فيستجيب.. وإنما طهر القلب وخلوص الضمير والتوجه بجمع الهمة هو الشرط.
أما الذي يقول.. يارب ارزقني مائة جنيه.. فهو رجل يمزح مزاحًا سخيفًا.. فهذه أمور يمكن أن يسعي إليها بأسبابها الدنيوية المعروفة وليس طريقها التصوف.. وكشك سجائر علي ناصية عماد الدين يحل المشكلة.
والمتصوف متجرد.. وهو قد نفي المطلب الدنيوي من باله لأنه يريد مطلبًا أعظم.
والمتصوف لا يسأل.. وهو يمرض فلا يسأل الله الشفاء.. ويقول في أدب.. كيف أجعل لنفسي إرادة إلي جانب إرادة الله.. فأسأله ما لم يفعل.. وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني.. كيف يعترض الذي لا يعلم علي الذي يعلم.. ومن يدريني أن مرضي وآلامي ليست الوسيلة إلي خلاصي. وهو من باب الأدب لا يطلب من الله إلا ما يطلبه الله منه.. فيقول كما قال النبي إبراهيم: «رب اجعلني مقيم الصلاة».
فهو يجعل من إرادة الله إرادته الخاصة ومسعاه.. حباً واحترامًا لخالقه. والحب هدف المتصوف الأسمي
ليس لي في الجنان والنار حظ
أنا لا أبتغي بحبي بديلا
وهو لا يري شيئًا إلا رأي الله فيه
والله عنده ليس في حاجة إلي عبادتنا
وهو يفسر الآية القرآنية:
«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون».
إن معناها:
ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون.
فلا يمكن أن تتم عبادة بدون معرفة ولا يمكنك أن تعبد ما لا تعرف.. إنها لا تكون عبادة. وأنت لا تكون عابدًا لله إلا إذا كنت عارفًا بالله.
ولا يمكن أن تعرف الله إلا إذا عرفت نفسك أولا ثم تجاوزتها مهاجرًا إلي خالقها.
وتتضمن الآية جميع هذه المعارف.
فالله خلق الإنسان ليعرف نفسه ثم يعرف ربه.. فيتم بذلك للإنسان جلاء البصيرة الكامل والارتقاء الحقيقي عبر صراع الجسد والروح.
إنه الارتقاء والتكامل من خلال معركة دموية بين طبيعة التراب وطبيعة الروح. «لقد خلقنا الإنسان في كبد».
خلق الله الإنسان ليكابد هذه المعركة.. ووعده بميراث السماوات والأرض إذا انتصر. والعبودية للخالق هي دائمًا منتهي الحرية أمام الخلق.
والذل للخالق منتهي الكرامة أمام الخلق.
فالعبودية لله تعني أولاً التحرر من استعباد المال واستعباد الشهوة واستعباد المنصب واستعباد الرغبة. ومن عبد الله لا يعبد الجماهير والغوغاء طلبا للمنزلة عندها. لا تكون عبدا لله إلا إذا فرغت قلبك من كل هذه العبوديات أو أسقطت من حسابك كل ما هو غير الله ليكون قلبك خالصا لخالقك.
ثم إنك لا تصل إلي أعلي مرحلة من العبادة إلا إذا استطعت أن تفني عن نفسك وتفني عن رغباتك.. فيصبح ما تريده لنفسك هو ما يريده الله لك .. كادت إرادتك أن تكون إرادة الله المطلقة.. وهي ذروة الحرية والخلوص من كل العبوديات.
والمتصوف إنسان مفكر متأمل شفيف الحس نافذ البصر.
يقول لك المتصوف:
الصاحب الذي يدوم لك هو الذي يصحبك وهو عالم بعيبك وليس ذلك إلا إلهك وخالقك العالم بخفاياك المطلع علي سرك وعلانيتك.. إن عصيته سترك .. وإن اعتذرت إليه قبل عذرك. ويقول لك :
إذا قل ما تفرح به قل ما تحزن عليه.
إن أردت ألا تعزل فلا تتول ولاية لا تدوم.
إذا ادعيت لنفسك التواضع فأنت المتكبر حقًا.
إن كنت لا تعرف الله إلا في النعمة فأنت لا تعبده وإنما تعبد نفسك.
خلق لك الله الدنيا لتكون في خدمتك فتحولت أنت إلي خدمتها.. أرادك ملكا وأردت لنفسك أن تكون مملوكًا.
ويقول للفقهاء:
أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي يموت.. تقولون حدثنا فلان عن فلان عن فلان وكلهم موتي.. والواهب الحق علام الغيوب أقرب إليكم من حبل الوريد وهو معكم أينما كنتم.. ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم.. فكيف تتركونه وتأخذون العلم عن سواه.
ولهذا يقول المتصوفة عن علمهم بأنه علم لدني.. من لدن الله.. لا علم نقلي من الكتب.
ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحضرة.. ويأخذون أنفسهم بالرياضات الروحية العنيفة والصيام والعبادة المتصلة إلي درجات إفناء الذات في الله.
وسيلتهم إلي الله أسماؤه الحسني
مستحيل معرفة ذات الله وكنهه، ومستحيل رؤيته لعين بشرية.. لأن العين البشرية لا تدرك إلا كل ما هو محدود متناه في المكان محصور بالزمان.. والله متعال علي المكان متعال علي الزمان.. ليس كمثله شيء.
وفي آيات بديعة الإيقاع يقدم لنا القرآن هذه الحقيقة الأزلية:
«عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال..»
«يجادلون في الله وهو شديد المحال».
«وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين».
«ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها»..
الكل يسجد لله.. من لا يسجد طوعا يسجد كرها.
لأن الكل يجري علي سنن الله الطبيعية التي أقامها ويخضع لقوانينه التي رسمها.
قلب المؤمن وقلب الكافر كلاهما خاضع للقوانين الفسيولوجية التي أبدعها الخالق.. كلاهما ينبض خاضعا لنفس القوانين.. وكذلك تنبض كل خلية في كل جسد.. وفي ذلك يقول القرآن:
«أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون».
الكل أسلم الأمر للقوانين الإلهية التي تجري علي سننها الحياة.
ونعرف الآن الكثير من هذه القوانين مثل:
قانون الضغط الازموزي، وقانون التوتر السطحي، وتماسك العمود المائي، والتوازن الكهربائي والأيوني في المحاليل، وقانون التفاضل الكيميائي بين هورمون وهورمون فيكون الواحد منهما حاكما علي الآخر، وقانون رفض الفراغ، وقانون الفعل ورد الفعل، والكثير غيرها مما تجري الحياة علي وفاقها ويطيعها كل مخلوق ويسلم لها طوعا وكرها.
الله وقوانينه قائم علي كل شيء من الذرة إلي الفلك.. به وبقوانينه تقوم الحياة.
فهو «قيوم» هو «الحي» الذي به الحياة.
وهكذا يقدم لنا القرآن أسماء الله وصفاته وأفعاله في تسابيح جميلة.
«هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر». «هو الله الخالق البارئ المصور» ويتكلم الله عن نفسه بضمير الجمع «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وحبل الوريد هو العرق الذي يجري به الدم في الرقبة، فهو أقرب إلينا من الدم في أجسادنا.
وهذا منتهي القرب.
والمتصوفة يقولون إنه يبعد عن إدراكنا لفرط قربه، ويخفي علينا لفرط ظهوره، ويشرحون هذا بقولهم إننا عرفنا نور الشمس بغروبه... وأدركنا ألوان الأشياء من النور وليس من الأشياء.. فهي زرقاء وحمراء وخضراء لأنها تمتص أمواجا مختلفة من النور.. وبالظل عرفنا النور.. والله ليس له ضد ليعرف به، ونور الله مشرق أبدا ولا ظل له.. ولذلك نقول إن الله احتجب عنا لفرط إشراقه ودوامه.
ونحن نولد في هذه الحضرة الربانية ونحن فاقدو العقل ثم نكبر فتشغلنا الشهوة مع ظهور العقل ثم يشغلنا الجاه والرياسة والدنيا ثم ننضج فيشغلنا العقل نفسه.. وطول هذا الوقت تصبح الحضرة الربانية عرفا، وتصبح عجائب الله في السماوات والأرض وفي أنفسنا عادة.
ويقول الشاعر الصوفي:
وكيف يعرف من بالعرف قد سترا
استغراقنا في الأسباب يخفي عنا المسبب.. كمن يصله كتاب مؤلف فينشغل بالبحث في نوع الحبر ونوع الورق وبنط المطبعة، وينسي الكلام والمعاني أو ينشغل بالكلام وينسي مبدعه. ومن شأن الدوام أن يخفي عنا الحقيقة - فدوام حركة المصعد تخفي عنا حركته، لا ندرك أنه كان يتحرك إلا لحظة وقوفه.
وبالمثل دوام الله أخفي عنا حضوره وشدة قربه أبعدته عن الإدراك وفرط ظهوره أخفاه.. فهو أخفي من كل خفي لأنه أظهر من كل ظاهر.. لا يحتجب عنا إلا بحجاب وهمنا.. وهم شهواتنا الذي أسدلناه علي أعيننا.
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
لو حجبه شيء لستره.. ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وتعالي الله وتقدس عن أن يكون هناك من يحده ويحصره.
وبالمثل لا يري الواحد منا سواد عينيه لشدة قربه منه.
والله عند الصوفية ليس في حاجة إلي إثبات.. وإنما الدنيا هي التي تغدو محل شك وهي التي تصبح في حاجة إلي إثبات، وهم يثبتونها بالله، فهي موجودة به وهو لا يوجد بها.
والذين يطلبون الله بالبرهان هم أهل الحجاب، الذين يشهدون الكون ولا يشهدون المكون. ويقول ابن عطاء متسائلاً:
متي غاب حتي يستدل عليه؟ ومتي بعد حتي تكون أسباب الدنيا موصلة إليه؟..
وهم يطلبون القرب من الله حبا وليس خوفا من نار أو طلبا لجنة... ويقولون إنهم في هجرة دائمة إلي الله.
من الأكوان إلي المكون.. وهي غير الهجرة المعروفة علي الأرض من مكان لآخر.. وهذه عندهم أشبه بدوران حمار الرحي يبرح المكان ليعود إليه أما الهجرة الحقيقية فهي الانتقال من وطن الملك إلي وطن الملكوت ومن وطن الحس إلي وطن المعني.
والمتصوفة أهل أطوار وأحوال ولهم آراء طريفة لها عمقها ودلالتها فهم يقولون لك إن المعصية تكون أفضل أحيانا من الطاعة.. فرب معصية تؤدي إلي الرهبة من الله وإلي الذل والانكسار.. وطاعة تؤدي إلي الخيلاء والاغترار.. وهكذا يصبح العاصي أكثر قربا وأدبا مع الله من المطيع.
ومن رأي طاعته واختال بها ورأي حسناته واطمأن إليها فإن رؤيته لها دليل علي أنها ليست حسنات.. لأن الحسنات ترفع إلي الله فور حدوثها والكلمة الطيبة تصعد إلي الله فلا يراها صاحبها.. فالصالح الحقيقي لا يشعر بأفعاله الصالحة.. وإنما هو في رهبة من الله علي الدوام.. وهذا تفسيرهم للآية القرآنية.
«إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه».
وهم يقولون لك إن الشكر ليس كلمة «الحمد لله» وإنما الشكر علي العطاء ألا تعصي به من أعطاك فتتخذ من نعمته وسيلة إلي أذي نفسك وأذي الآخرين. إن الشكر فعل وليس كلمة.. والمتصوف واليوجي والراهب كلهم علي درب واحد وأصحاب منطق واحد وأسلوب واحد في الحياة هو الزهد.
وهم يرون أن الشهوة حجاب والهوي حجاب وحب الدنيا حجاب.. كذلك العلم عند عالم مغرور مختال بعلمه من أشد للحجب .. وكذلك للعبادة بالنسبة لعابد مزهو بعبادته والصلاح بالنسبة لصالح متفاخر بصلاحه حجاب.
وهكذا يكون العلم أحيانا حجابا علي المعلوم والعبادة حجابا علي المعبود والصلاح حجابا علي رؤية المصلح.
ولهذا يفسرون كلام القرآن عن النبي.
«مالهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق».
بأن الستر الآلهي ستر به سر النبوة في ثوب بشري عادي لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. حتي لا يبتذل السر بالإظهار والاشتهار... واليوجي والراهب والصوفي المسلم يطلبون القرب والوصل بنفس الأسلوب.. بالتسابيح.. فيدعون الله بأسمائه:
ومحبته القصوي التي تملأ كل ذرة من القلب فلا يعود لهم شاغل إلا ذكره.. لا يرون شيئا إلا رأوا الله فيه.
هؤلاء هم أهل السر والقرب والشهود الأولياء الصالحون حقا، وهم ندرة شحيحة.
إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا لأنهم لا يعلنون عن أنفسهم ويخفي الواحد منهم كراماته كما يخفي عورته لأنها السر الذي بينه وبين ربه وعلامة المحبة والخصوصية والقرب.
وما بين المحب والمحبوب لا يصح إفشاؤه وابتذاله، وقانونهم الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف.
وهم ليسوا دراويش الأرصفة ولا شحاذي المساجد ولا المجاذيب ولا الثرثارين ولا المدعين ولا محترفي الشعوذات، وإنما هم الأصفياء الأخفياء، يقول عنهم الله في حديثه القدسي:
«أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» .
ويقول في حديث آخر عن هذه الخصوصية: «لم تسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن» وفي حديث ثالث: «عبدي أطعني أجعلك ربانيا يدك يدي ولسانك لساني وبصرك بصري» وما أندر هؤلاء الربانيين في هذا الزمان.
مصطفي محمود
«البقية العدد القادم»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.