بقلم - إحسان عبد القدوس كنت أعلم أنها ستموت.. ورغم ذلك تزوجتها.. تزوجتها وملاك الموت يطوف حول فراشها الأبيض، ويهز أجنحته فوق عينيها الزائغتين، ويبصم فوق جبينها العالي بأصابعه العشر.. ولم أتزوجها شفقة بها كما تصور البعض.. ولم أتزوجها لأني سبق أن وعدتها بالزواج.. ولم أتزوجها طمعا في ميراثها كما قال الناس عندما احتاروا في أمر زواجي بها، ثم لم يجدوا سببا يقنعون به عقولهم الضيقة إلا أن يقولوا إني طمعت في ميراثها.. لا.. إنكم لن تعرفوا أبدا قصة زواجي بها، إلا إذا رويتها لكم بنفسي. وسأرويها.. لا إرضاءً لكم، ولكن فقط لأني أحب أن أتحدث عنها.. لأني أجد في الحديث عنها تنفيسا عن الصهد المتجمع في صدري، وعن النار التي تسري في أوصالي.. لقد التقيت بها منذ خمس سنوات كانت أيامها شابة يمرح الجمال والصحة في أعطافها.. وتحمل من الحياة أكثر مما يطيق جسدها الصغير الأنيق.. شابة تعطي.. تعطي دائما.. تعطي المرح، والحب، والأمل، والجمال.. تعطي كل من حولها.. كأنها تحمل خزانة سحرية مملوءة بالحياة، لا تفرغ أبدا.. وأحببتها.. وأحبتني.. ولا أدري متي بدأت أغار عليها.. ربما بدأت أغار عليها منذ اللحظة التي أحببتها فيها.. ربما قبل ذلك.. قبل أن أحبها.. كنت أغار عليها عندما أري صورتها منشورة في الصحف.. عندما أسمع اسمها يتداوله الناس.. عندما ألمحها من بعيد في أحد المنتديات الساهرة، وابتسامتها تسع الناس جميعا، وعيناها تصب السحر في قلوب كل الناس. ولعلكم يجب أن تعرفوني، حتي تقدروا كيف أحببتها. وكيف كنت أغار عليها. أنا شاب عشت حياتي في مجتمع منحل، يمسي ويصبح في الخطيئة.. يسبح في بحر من الخمر، ويقتات بالأجساد، ويملأ أذنيه بموسيقي تنسيه عقله.. وكانت هوايتي في هذا المجتمع سرقة الزوجات.. أتسلل بقامتي الطويلة وبشرتي السمراء، وشبابي الهائل، وأسرق.. أسرق بسهولة.. ودون أن أحس بمتعة إلا بمتعة السرقة. ولكني عندما تقدمت إليها، لم أحس بأني أسرق.. علي العكس.. أحسست أني سُرقت.. فقد شيء مني.. قلبي.. عقلي.. شبابي.. إنها المرة الأولي التي أحس فيها بأني لست السارق.. ولكني المسروق.. وهذا الإحساس دفعني إلي إحساس آخر.. دفعني إلي الإحساس بأنها أقوي مني.. أنا الضعيف وهي القوية.. ولأني ضعيف بدأت أغار.. لم أكن أغار علي امرأة من قبل.. كان كل النساء يغرن علي، وأنا لا أغار.. كنت دائما واثقا من نفسي.. واثقا بقوتي.. واثقا أن أحدا لا يجرؤ أن يعتدي علي.. واثقا من أن ليس هناك امرأة يمكن أن تخونني، أو يمكن أن تشتهي غيري.. ولكن هي، كانت أقوي مني.. هي، مزقت ثقتي بنفسي.. هي، جعلتني أعرف الغيرة.. وفكرت من فرط غيرتي عليها أن أتزوجها.. لم يكن قد انقضي ثلاثة شهور علي لقائنا عندما بدأت أفكر في الزواج بها. ولكن هل أستطيع أن أتزوجها؟! هل أستطيع بعد أن فقدت ثقتي بنفسي، وبقوة شخصيتي؟ هل أستطيع وأنا مقتنع بأنها أقوي مني؟ لا.. وإذا كنت أخاف عليها وهي عشيقتي.. فمن الأولي أن أخاف عليها وهي زوجتي.. فإن سرقة الزوجات أسهل من سرقة العشيقات.. وإن كنت لا أثق في نفسي وأنا زوج.. فإن خداع الزوج أسهل من خداع العشيق. وبدأت الغيرة تستبد بي، وتأخذ مظهرا أشبه بالجنون.. جنوني وأنا أحاول أن أبدو أقوي منها، وأن أغلب شخصيتي علي شخصيتها.. فآمرها، وأستبد بها، وأظلمها.. وكانت تحبني.. وكانت تطيعني.. ورأيتها جميلة، فحرمت عليها ألا تضع المساحيق علي وجهها، حتي تبدو أقل جمالا.. ولكنها عندما أزالت المساحيق، بدت أكثر جمالا.. وأقوي مني.. التي تكشف عن ذراعيها وصدرها.. فقررت أن تغطي ذراعيها وصدرها، ومزقت ثيابها الضيقة، لترتدي ثيابا واسعة لا تبرز مفاتن جسدها.. وعندما فعلت، رأيتها أكثر فتنة.. وأقوي مني!! وغرت عليها من عيون الرجال التي تلتهمها كلما ذهبنا إلي حفل أو سرنا في طريق.. فحبستها في بيتها.. فأصبحت أشعر وأنا أنظر إليها كأن آلافا من العيون الأخري تنطلق من رأسي وتنظر إليها معي.. عيون لا أعرفها.. عيون كل الرجال.. إنها مازالت أقوي مني.. وأنا في خلال ذلك أفكر في الزواج بها كل يوم.. ثم لا أستطيع.. لا أستطيع حتي أن أعدها بالزواج. إني أضعف من أن أتزوجها.. أضعف من أن أكون زوجا لها.. أضعف من أن أسيطر عليها.. ومرت خمس سنوات.. وأنا أحبها هذا الحب.. وهي تحبني هذا الحب.. لم تخدعني يوما.. ولم تخني.. ولم تعص لي أمراً.. ولكنها كانت دائما أقوي مني.. أقوي مني إلي حد أني لم أكن أستطيع أن أصدق أن كل هذه القوة تحبني.. وتخلص لي.. وتخضع لي.. ثم بدأت تشعر بآلام.. ولم أصدق أنها مريضة.. إن كل هذه القوة لا يمكن أن تمرض.. ولا أن تضعف.. إن قوتها هي قوة الحياة نفسها.. والحياة لا يمكن أن تهفت، ولا أن تقف.. واشتدت الآلام. وربما بدأت الدماء تذوب من تحت وجنتيها.. وربما بدأت شفتاها تمتقعان.. ولمعان عينيها يخبو.. وجسدها يذوي.. ولكني كنت آراها أكثر جمالا.. وأشد فتنة.. وأقدر علي العطاء.. وكانت دائما أقوي مني.. وكانت قوتها لا تنبعث منها، ولكنها كانت تنبعث من نفسي.. ثم تركتها وسافرت في بعض أعمالي.. وعدت.. ووجدتها في المستشفي.. ونظرت إليها في هلع.. إنها بيضاء في لون ملاءة السرير الذي ترقد عليه.. وليس علي وجهها قوة ولا ضعف.. علي وجهها لا شيء.. ورائحة غريبة تحيط بها.. كرائحة عطر قديم.. رائحة الموت. وفتحت عينيها ونظرت إلي.. نظرة لم أر فيها شيئا.. لم يكن في عينيها سوي ماء.. ثم همت بأن تقوم من رقدتها وهي تمد إلي ذراعيها.. ولكنها لم تستطع سقط جسدها.. وسقط ذراعاها وفي هذه اللحظة.. في هذه اللحظة فقط.. شعرت أني أقوي منها. وأسقطت نفسي بجانبها علي الفراش، ووضعت ذراعي حولها، واحتضنتها بعنف.. لم أكن أحس ساعتها بحزن ولا بلوعة، بل كنت أحس أني أحميها.. أحميها من الموت.. أحميها لأني أقوي منها.. وصرخت: - المأذون.. أستدعو المأذون.. أني الآن أستطيع أن أتزوجها.. أني أقوي منها.. ولن يستطيع أحد أن يأخذها مني.. ولن أغار عليها.. وجاء المأذون.. وارتسمت ابتسامة ضعيفة علي شفتيها.. ابتسامة أنا الذي منحتها لها.. أنا الذي أعطيتها لها.. إنها الآن لا تستطيع أن تعطي.. أنا الذي أعطي.. وكانت آخر ابتسامة ارتسمت علي شفتيها. - هكذا تزوجتها.. وقولوا أي شيء.. قولوا إني مجنون.. قولوا إني أناني.. قولوا إني سافل.. قولوا أي شيء.. فإنكم مهما قلتم فلن تقولوا أكثر مما أقوله لنفسي.. ولن تعذبوني أكثر من عذابي لنفسي.. عذاب الندم لأني عشت معها خمس سنوات دون أن أجد في نفسي القوة لأتزوجها. أتدرون.. إني مازلت أحس أنها أقوي مني.. حتي وهي في قبرها.. إحساس يؤرقني، ويكاد يصل بي إلي الجنون.