باقي من الزمن عامان وتحتفل ثورة 23 يوليو المجيدة بعيد ميلادها الستين، وأظن أن هذه السنوات كافية جدًا لكتابة تاريخ هذه الثورة التي غيرت وجه الحياة السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر وإلي الأبد، بل امتد هذا التأثير ليشمل أقطارًا عربية شقيقة وأخري أفريقية أيضاً. إن معظم المؤلفات والكتب التي تمت كتابتها عن ثورة يوليو تمت كتابتها بعد سنوات طويلة جدًا، واختلط فيها الشخصي بالموضوعي والخاص بالعام، كما امتلأت بحكايات لا يصدقها عقل تدخل في البطولة بأثر رجعي، مثل ذلك الذي رواه أحد الضباط الأحرار في منتصف السبعينيات وقال إنه قام بتكتيف جمال عبدالناصر بالحبال وراح يوبخه!! (تصوروا).. ولعل أغرب ما يخص كتابة تاريخ الثورة والضباط الأحرار هو ما رواه السيد «جمال منصور» وهو واحد من أهم وألمع الضباط الأحرار، بل إنه صاحب هذه التسمية أيضًا، وللسفير جمال منصور كتاب خطير بل بالغ الخطورة عنوانه «ثورة الجيش المصري: وثائق الإعداد والتمهيد 1945- 1952» صدر عن المكتب المصري الحديث عام 2006. كتب السفير «جمال منصور» يقول: من سنة 1945 إلي سنة 1952 سبع سنين عجاف هي فترة الإعداد والتمهيد للثورة نسيها التاريخ مرغمًا بين الظلم والظلام، فلم يكتب عنها أحد ولم نجد لها صورة ولا أثرًا، وكأن رياح الصحراء قد طمرتها بين الرمال، أو أتت عليها مياه البحر وذهبت بها إلي قاع النسيان. ولم يكن قادرًا علي كتابة التاريخ عن هذه الفترة سوي الطلائع الأولي التي عاصرت الأحداث بكل تفاصيلها، وعاشت مع الفكرة، وجسدت الأمل إلي أن تحقق مع الفجر المضيء يوم 23 يوليو 1952. اجتمعت هذه الطلائع في أغسطس 1952 - «الجماعة التأسيسية لسلاح الفرسان» - في ميس السلاح المسمي بالميس الأخضر- اجتمعت بأحد الصحفيين من مجلة المصور وهو الصحفي «مرزوق هلال» من أجل تسجيل هذه المرحلة المهمة في تاريخ مصر وإحياء للأحداث التي وقعت بين عامي 1945 و1952 وبدا الصحفي كما لو كان يعيش في مغامرة صحفية لا يعرف بداية ولا نهاية لها، وكادت أحاسيسه تنطق بالأسي لهذا اللقاء المغامر مع مجموعة من الضباط المغمورين فلم يسمع بهم أحد، ولم تلمع أسماؤهم في سماء مصر مثلما لمعت أسماء أخري مع النجوم بعد قيام الثورة. وبدأت الجماعة في سرد قصة الثورة منذ بدايتها في عام 1945 واستمع الصحفي «مرزوق هلال» بمزيد من الاهتمام وأدرك أن هناك حقائق يجب إظهارها، وأن طلائع الفرسان تسجل أحداثًا في تسلسل مضطرد في قصة حقيقية كاملة البنيان، ليس بغرض إبراز دورها في الثورة ولكن اقتناعًا منها بواجبها نحو مصر، فالتاريخ ليس ملكًا لصانعيه ولكن الأمة وحدها هي صاحبته ومالكته! ويكمل السفير «جمال منصور»: قامت الجماعة التأسيسية لسلاح الفرسان بإخطار مجلس الثورة أي الزعماء الجدد بأنها سوف تبدأ في تسجيل أحداث هذه الفترة، ووافق المجلس علي ذلك، ولكن لم تمض أيام ثلاثة حتي حضر إلينا رسول من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة وهو «خالد محيي الدين» زميل السلاح ورفيق رحلة الجهاد، حضر «خالد» ليبلغنا بأن مجلس الثورة يريد أن يطلع أولاً بأول علي ما نكتبه، ووافقت اللجنة علي ذلك اقتناعًا منها بأن مجلس الثورة أصبح قمة القيادة في البلاد ومن حقه أن يعرف كل ما يحيط بالثورة ويصون تاريخها. وبعد ثلاثة أيام جاءنا نفس الرسول ليبلغنا بأن مجلس قيادة الثورة أصدر قرارًا بإيقاف الكتابة في هذا الموضوع خوفًا من إحداث بلبلة في نفوس الضباط(!!) وهنا نتساءل: لماذا لم يوافق مجلس قيادة الثورة علي كتابة التاريخ، وبالذات مرحلة الإعداد والتمهيد للثورة؟! ونجيب بأن الزعماء الجدد أدركوا أنه إذا ما ظهرت هذه الحقائق علانية، فإن الناس والتاريخ سوف يقفون ليسألوا بعض أعضاء مجلس الثورة: أين كنتم في هذه السنين السبع؟! وماذا قدمت أيديكم وما دوركم في هذه المرحلة؟ وسوف يري التاريخ والناس أن بعض أعضاء القيادة الجديدة لم يكن لهم أي دور في هذه المرحلة، أو كانت لهم أدوار تتضاءل كثيرًا عما قام به ضباط آخرون مجهولون، الأمر الذي يدفع ببعض أعضاء القيادة إلي صفوف أخري ليست بكل تأكيد- هي الصفوف التي قفزوا إليها- وربما أتت صفحات التاريخ بأسماء ضباط آخرين لم يكن أصحابها من بين الجالسين علي عرش الخلافة! ولم تكن الجماعة التأسيسية لسلاح الفرسان سعيدة بقرار مجلس قيادة الثورة، ولكنها قبلته حتي لا تحدث فتنة، وحتي تعطي الفرصة للثورة أن تتقدم علي الطريق آمنة نحو الهدف المنشود دون أن تؤرقها أحداث الماضي وحقائق التاريخ!! وكان رد فعل القيادة الجديدة أن قامت بوضع الجماعة التأسيسية لسلاح الفرسان تحت أعينها وخططت للإطاحة بأعضاء هذه الجماعة! وفي إحدي الجلسات الأولي لمجلس قيادة الثورة خاطب «جمال عبدالناصر» أعضاء المجلس قائلاً: إن الخط الثاني هو الذي قامت علي أكتافه الثورة وهو قادر علي القيام بثورة أخري، وإن أي عمل مضاد للثورة لن يأتي إلا علي أيدي ضباط الخط الثاني، ولذلك لابد من التخلص منهم في أقرب وقت لأنني لا أريد أن تهتز الكراسي من تحتكم! وأخيرًا يقول السفير جمال منصور: ولم تمض شهور قليلة علي قيام الثورة حتي أصدرت القيادة الجديدة قراراً بإلغاء تنظيم الضباط الأحرار ونقل أعضاء اللجنة التأسيسية بسلاح الفرسان إلي أماكن نائية في الصحراء والواحات.. تم القبض علي الضباط الأحرار في سلاحي الفرسان والمدفعية ومحاكمتهم أمام أعضاء القيادة الجديدة وإيداعهم السجون، وهكذا تخلصت القيادة الجديدة من طلائع الضباط الذين قامت علي أكتافهم الثورة وهم رجال الخط الثاني كما أسمتهم القيادة الجديدة. ولم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة في كتاب السفير جمال منصور!!