توقفت عجلة الرسم فى المجلة وقال لى الزملاء والقراء: لابد لك أن تدخل السياسة برسومك.. وجاءتنى السكرتيرة نرمين فى صباح أحد الأيام مبكرا تعطينى صحف الصباح وفهمت من عينيها كما صرحت لى بعد ذلك أن واجبها كل صباح لبداية العمل فى المجلة مهمتان هامتان.. الأولى أن توقظ مخرج المجلة أبوالعينين من النوم لأنه يسهر كثيرا ولا يستيقظ إلا بعد الظهر والمهمة الثانية إعطاء الصحف اليومية إلى الرسام الولد الجديد الذى يرسم ولايفكر خاصة فى السياسة. وأعادت الوصف تسترضينى وتقول رأيها الخاص بى: نكاتك لها مذاق خاص وسخرية وتريقة على المجتمع وعلى نجوم الغناء والسينما ولكنك بلا وعى على الإطلاق بسياسة البلد.. والآن نحن على أعتاب ثورة مهمة غيرت مجرى الحال ولفتت أنظار العالم ورغم أنك رسمت سياسة تعتمد على رسم الأشخاص وفن البورتريه الذى أتقنته .. ولكنك ليس لك حضور وسط معارك العالم السياسية وتأثيرها على الداخل فى بلدنا. لذلك يؤكد لى رئيس التحرير قبل وصوله ويحذرنى ويردد لى كلمته التى لها نغمة خاصة.. خللى الولد الرسام الجديد ده يقرأ الجرائد ويفهم لعبة السياسة ماشية إزاى فى العالم ولا يكفى أن يرسم فقط وجوههم. وبدأت أتعلم ما يسمى الليبرالية والماركسية والبروليتاريا والديمقراطية والقمع السياسى والرأسمالية المتعجرفة والدكتاتورية العسكرية وصراع السلاح النووى والحزبية الرجعية وفاشية النازية وعميل مخابراتى وعميل مزدوج وديكتاتورية رأس المال واليسار المتطرف والانفجار السكانى والاستعمار وأذناب الاستعمار والقطط السمان وتهديد رأس المال والإحباط الثقافى والاستدراج العلمى وحروب العنصرية والفساد الملكى والدكتاتورية للمبتدئين. عشرات التعبيرات كأنها لوغارتيمات جبر وهندسة وأنا مازلت الولد الرسام الذى يتغنى برسم وردة وشجرة وشحرور وهدهد وفلوكا فى النيل وطبق فاكهة وأخيرا دروس الرسم للأشخاص، حيث تجلس الموديل ساعات طويلة أمامنا بإشراف الأستاذ بيكار عارية أحيانًا أبحث وسط جسدها أمامى عن مناطق الظل والنور والبحث عن الفورم ثم هارمونى اللون ورشاقة الخط المرسوم وفى النهاية أحصل على درجة تقترب من العشرين فى أغلب الأحيان18. احتار الولد الرسام خاصة عندما نادته أستاذة رسم فى إسكندرية ومفتشة وقالت له: ياولد إنت رسام هايل لكن بلا وعى.. تبقى بلا قيمة. عدت إلى طاولة الرسم فى مجلة «روزاليوسف» التى تنتظر المولودة الجديدة «صباح الخير» لأجيب عن هذه الأسئلة وأثبت حضورى فى الأفكار وتعليقات عن كبار سياسيى العالم. وبدأت أنسى الرسوم أحيانا لأقرأ ما تحت السطور. وكان خوفى وأنا ولد رسام فى العشرين مع بداية الثورة ماحدث لزملاء كثيرين أطلقنا عليهم مناضلين أمثال صلاح حافظ الذى يكتب بابًا ثوريًا جريئًا (انتصار الحياة) واختفاؤه سنوات ثم حضور أستاذ مطرود من الجامعة لأسباب شيوعية ويصبح زميلى فى المجلة هو محمود أمين العالم.. أما صديقى السياسى الجديد لى والقديم فى المجلة الذى له حضور مبكر كل صباح وهو يهدينى بعض الأفكار الكاريكاتورية السياسية وهو إسماعيل الحبروك الذى انتقل فجأة إلى رئاسة تحرير صحيفة الجمهورية قبل نهاية حياته القصيرة. مرت ثلاث سنوات مع نجاح الثورة وأصبحت مجموعة هؤلاء الشباب من الضباط الأحرار نوارة البلد بعد العصر الملكى الذى أطلقوا عليه مرحلة الظلام وعبروا عنه بالعلم الجديد بثلثه اللون الأسود ثم الأبيض والأحمر وكان أستاذنا فى قسم الزخرفة والهندسة عبدالسلام الشريف هو الذى صمم هذا العلم الجديد فوقع فى ورطة بين أعلام العالم العديدة والتى تقسم مساحة العلم إلى ثلاثة ألوان مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال.. فاضطروا لرسم نسر الثورة فى المساحة البيضاء مما أعطاها تميزًا عن بقية الأعلام. وبدأت مغامرتى الأولى فى الرسم فى مناسبة مهمة رغم أنى كنت قد رسمت غلاف المجلة وعليها أنف جمال عبدالناصر كالمنقار من أعلى الصفحة حتى نهايتها وهو يضحك خلف أنفه الذى يملأ المساحة كاملة. إلا أن المناسبة الحالية مع بداية الخمسينيات هى اعتراف الثورة بالديمقراطية مع أول افتتاح جديد لمجلس الشعب بعد أن كان اسمه البرلمان وهى كلمة ملكية أو رويال ولكن مجلسًا يرتبط فى اسمه بالشعب هو روح جديدة لأعضاء ينتخبون بأصوات أهل دائرتهم ثم لهم حقوق يتكلمون بالنيابة عنهم لبناء مصر الجديدة بعد مرحلة الانتقال من الملكية إلى الجمهورية. المطلوب الآن من رسام المجلة -الولد الرسام الجديد الذى لايزال يدرس قوانين الخط والظل والنور فى كلية الرسم- أن يعبر عن هذه الخطوة الجديدة لاحتفال تاريخى مهم وهو افتتاح أول دورة لمجلس الشعب. فى اجتماعى مع رئيس التحرير إحسان عبدالقدوس فى مكتبه وهو يشعرنى بأننا زميلان وصديقان نفكر سويا وليس اللقاء الرسمى بين رئيس تحرير ورسام ناشئ ونضجت الفكرة: أن أرسم عبدالناصر ينظف قبة البرلمان التى كنت أراها من نافذة المجلة وهى فى الشارع التالى الموازى لشارع مجلس الشعب.. رسمت القبة من النافذة كنوع من الدراسة فى اسكتشات أو كروكيات سريعة للتحضير للوحة الغلاف. المشكلة الطارئة فى تفكير رئيس التحرير وتنفيذ الرسام هو البطل الثانى من رجال الضباط الأحرار ثم رجال الثورة هو النجم المتألق فى هذه الفترة هو صلاح سالم الذى يدير لقاءات عديدة فى كل مكان وله طلعة مهمة فى حجمه الرشيق ورأسه اللامع فى صلعة ثم عوينات سوداء ثم شارب أنيق. أغلقت غرفة الرسامين المساء التالى وبدأت فى تنفيذ اللوحة ولكن فى خيالى وأنا أرسم وجهات نظر جديدة حول رجال الثورة لذلك رسمت جمال عبدالناصر عملاقا وصلاح سالم صغيرًا جدا. الأول يمسك بالفوطة وهو فى زى ساعى أو فراش أو عامل وبجواره صبى العامل يمسك له بطرف الفوطة لتنظيف قبة البرلمان القديم بمعاركه القديمة بين الباشوات والأحزاب، صلاح سالم يحمل لزميله عبدالناصر الجردل ويتساقط الماء حولهما وبالإضافة إلى درج أو سلالم متنقلة لسهولة التحرك حول الأعمدة والقبة. صدرت «روزاليوسف» باللوحة ملونة بالأسود والأحمر فقط وهما اللونان المسموح بهما فى هذا الزمن من الخمسينيات لاضطرار المطابع القديمة للاعتماد على أسلوب الكليشيهات مع أوامر أو تعليمات السيدة صاحبة المجلة بشراء المطابع الحديثة الجديدة وتغيير الورق مع التقدم الذى يوازى تقدم الصحف العالمية. فى ذات يوم صدور العدد دخلت السكرتيرة مديحة وهى لا تضحك هذه المرة كعادتها مع جمال كامل ولكنها شدتنى من قميصى وهى تقول فى مكر: رئيس التحرير عاوزك حالا.. تعال قدامى دلوقتى، أسلمتنى مديحة إلى السكرتيرة الخاصة برئيس التحرير وهى نرمين القويسنى التى دفعتنى مع شىء من العنف إلى غرفة رئيس التحرير الملحقة بالصالة الصغيرة ثم أغلقت الباب خلفى وأصبحت وجها لوجه مع رئيس التحرير وهو فى حالة غاضبة ومعه سماعة التليفون يقول لى فى عتاب صارخ: - تحب أسمعك كلام صلاح سالم بيقول إيه عليك.. مش عاجبه رسمك وليه رسمته صغير بجوار عبدالناصر رغم أنهما متساويان فى مشوار الثورة. ولم أفهم أن هناك منافسة بين الصحاب الذين نجحوا فى تنفيذ الثورة وتغيير الحكم إلا أننى اعترفت مع نفسى وأنا أرسم هذا الغلاف ومعى شعورى.. من متفوق على نفسى بحرية الخط والرأى رغم خوفى من اختفاء زملائى الشيوعيين ومنهم زميلى الرسام المبدع جمال كامل. كأنى أتنبأ بأهمية شخصية عبدالناصر وبعدم قناعتى بشخصية صلاح سالم وكان نجما فى هذه الفترة وظهور صورته عاريا يرقص فى الخرطوم فى أول زيارة للثورة إلى السودان للتعبير عن حبنا الكبير للجوار والأغانى بدأت تنشد الشعارات لحب وجوار مصر فى وادى النيل بين مصر والسودان. إلا أننى رغم أنى فى مرحلة الولد الرسام المبتدئ لكنى رسمته صبى المعلم فى اللوحة يحمل الجردل ويصعد الدرج بينما المعلم الكبير العملاق ينظف أو يضع اللمسات الأخيرة لتهيئة مجلس الشعب وقبته لمناسبة الديمقراطية. كأنى أتنبأ بأن اسم صلاح سالم فى تاريخ الثورة لا يكفى سوى أن يكون اسم طريق يحمل اسمه.