سألت مدرس اللغة العربية وأنا في الصف الثالث الإعدادي .. ما معني «نهج البردة» .. وكنت قد سمعت أغنية في الراديو تغنيها أم كلثوم بهذا الاسم .. وأجابني الأستاذ .. إن «النهج» يعني الطريق .. و«البردة» في اللغة هي رداء يشبه العباءة .. ولكنها في الأدب عنوان لقصيدة شهيرة في مديح سيدنا محمد كتبها الإمام البوصيري عندما رأي في المنام أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يعطيه بردته. وكان الرسول قد فعل ذلك فعلا مع أحد الشعراء المعاصرين له والذي كان يدافع عنه بالشعر ضد هجاء الكفار للرسول .. حيث كان الملوك يمنحون الشعراء صررا من الذهب والفضة .. لايملكها سيد الخلق .. فأعطي الشاعر بردته. وهكذا فإن «نهج البردة» هي اسم القصيدة التي كتبها أحمد شوقي أمير الشعراء علي نفس وزن وقافية قصيدة «البردة» للإمام البوصيري .. وهو ما يسمي بفن المعارضة .. أي أن الشاعر يتصدي لقصيدة ذائعة الصيت رائعة المعاني ويكتب قصيدة من نفس الوزن والقافية وفي نفس الموضوع متحديا جمال القصيدة الأصلية .. ومتحديا نجاحها واستقرارها في وجدان الناس! وهكذا عرفت من عنوان قصيدة لأحمد شوقي .. أن هناك مادحا عظيما للرسول هو الإمام البوصيري .. وأن له قصيدة مهمة في تاريخ الأدب اسمها البردة .. وعرفت قصتها .. وعرفت أن هناك فنا في الشعر اسمه (المعارضة)! فما بالكم بما تعلمته بعد ذلك بالاستماع مجددا إلي قصيدة «نهج البردة» بلحن رياض السنباطي وغناء سيدة الغناء! الأغنية بهذا المعني تحولت إلي جامعة يتعلم فيها الملايين تعليما مقترنا بالمتعة الفنية والأدبية .. وبدون امتحانات في آخر العام !! من هنا كان اهتمام أمير شعراء الفصحي بالأغنية العامية .. التي أراد من خلالها أن يصل بسلاسة إلي الملايين ومن هنا استمعنا إلي قصائده العامية المغناة .. «النيل نجاشي» و«في الليل لما خلي» و«رأيت خياله في المنام محلاه ياوعدي» و«أحب أشوفك كل يوم» و«أهون عليك» و«كل اللي حب اتنصف» و«بلبل حيران»، و«اللي يحب الجمال»، وقد وصلت إلينا جميع رسائله الفنية من خلال عاميته وفصحاه فأحببناها وتفاعلنا معها .. ولقد استقرت في وجداني علي سبيل المثال كلمات أغنيته لعبد الوهاب «في الليل لما خلي» التي يقول فيها أمير الشعراء: في الليل لما خلي .. إلا من الباكي والنوح علي الدوح حلي .. بالصامت الشاكي ماتعرف المبتلي .. في الروض من الحاكي سكون ووحشة وضلمة وليل مالوش آخر ونجمة مالت ونجمة حلفت ماتتاخر دا النوم ياليل نعمة .. يحلم بها الساهر وأذكر أن الفنان المبدع المخرج المسرحي الكبير سمير العصفوري استدعاني لكتابة أغنية «بالعامية» ضمن أحداث مسرحية «الست هدي» التي كتبها أحمد شوقي بالفصحي .. فوجدتني أرد علي ماقاله في قصيدة «في الليل لما خلي» فأقول: لامؤاخذة ياجناب الأمير عمري ماشوفت الليل خلي مهما النهار .. عاش ف الديار الليل تملي بيتملي اللي عبد .. صلي وسجد .. واللي رأي سيدنا الولي واللي هبد .. خير البلد .. وفات علي ما بصلي واللي سرق .. واللي اتسرق .. واللي برق واللي اندلق واللي بنار حبه اتحرق .. وقال ياعيني ليَّلي حتي نهاية الأغنية التي قلت فيها : تسع رجال .. نالوا المنال أيام ما كان الريال .. ريال تسع رجال .. زي الخيال ولا سندوا حيط .. ولا عدلوا حال شوقي الأمير .. جه بالضمير فوق الرءوس .. علق سؤال : ليه الرجال .. بعد النضال لو شافوا سُلطة .. ولاّ مال بيريّلوا زي العيال