* بعد ليلة فرحت فيها مصر كما لم تفرح في عمرها كله.. ولبست فيها ثوب عرسها الأبيض المدندش بالألوان والزهور في زفة أسطورية شبع فيها المصريون رقصا وزمرا وطبلا. احتفالا بانتصار فرقة حسن شحاتة الكروية محققة نصرا كرويا هائلا بكأس إفريقيا لسابع مرة ولثالث مرة علي التوالي.. وسط زفة كروية من حملة أعلام مصر الخفاقة.. هزني من ذراعي وأنا بين الغفوة واليقظة وأصوات المؤذنين من خلف ميكروفونات الجوامع.. تاهت وضاعت وسط ضجيج مزامير وصخب عرس مصر الكروي شيخ بالغ الورع عظيم الجلالة جليل المقام.. قائلا بصوت كأنه قادم من الغيب: أنا الحكيم أمينوبي.. تمالكت نفسي وقلت له بصوت مرتعش: أمينوبي صاحب البردية الشهيرة ذات الثلاثين فصلا التي أفرج عنها المتحف البريطاني في لندن أخيرا؟ قال: وقد أرسلتها إليك مع رفيق دربك وطريقك المدعو زاهي حواس.. ذلك العالم الحشري الذي لا يكف عن التنقيب والبحث في أسرار الملوك والفراعين والحكماء والفلاسفة الأقدمين.. إنه يزعجنا كثيرا.. ولكنه يعرفكم بأمجاد الأجداد ويعرفنا بأحوال الأحفاد! قلت: أحوالنا عال العال.. بعد النصر المحال! قال: أمعقول أن تختصروا عظمة مصر كلها ومجد مصر كلها وتاريخ مصر كلها في مجرد ماتش كورة؟ قلت: أصبحت يا حكيم الزمان ترطن بلسان الفرنجة.. إنه ليس مجرد ماتش كورة كسبناه ولكنه إنجاز رياضي كروي هائل غير مسبوق وغير ملحوق.. لسابع مرة نحن أبطال القارة الإفريقية كرويا.. ولثالث مرة علي التوالي! قال: عظيم ولكنكم تستحقون ما هو أكثر وأعظم.. فأنتم أيها المصريون أول من آمن بالله الواحد الأحد.. من بني البشر.. وأنتم أول من علم الدنيا ما لم تعلم.. وأول من كتب بالقلم وأول من زرع وأول من حصد وأول من بني وعمر.. وأول حكومة في الأرض.. حكومة مصرية من أيام مينا نارمر وبالتحديد عام4541 قبل الميلاد.. يعني منذ6251 عاما بالتمام والكمال! قلت: ياه.. يعني أول حكومة قبل أكثر من ستة آلاف عام.. وآخر حكومة هي حكومة الدكتور نظيف.. يعني حكومة نظيف تبقي حكومة رقم كام؟ أسأل عمنا أمينوبي: وياتري هل كان الناس في عهد أول حكومة مصرية يعانون ما نعاني منه الآن:32% من المصريين تحت خط الفقر+ هذا الكلب المسعور الذي اسمه غلاء المعيشة الذي ينهش في رقاب العباد+ انحدار العملية التعليمية وانحدار الخدمات الصحية+ هجوم شرس لأشرس الفيروسات.. فيروس إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور+ نحو10% من الشعب بلا عمل.. وحاجات كثيرة كده ليس هذا وقتها ونحن في ساعة فرح وزمر ورقص وطبل! قال بأسي: لكم أحزنتني كثيرا.. .............. .............. تركت له الكنبة الخضراء الطرية التي تتوسط غرفة المعيشة.. وجلست مربعا تحت قدميه.. ولما حاول أن يعترض قلت له: هذا مكاني يا كتاب الحكمة أمينوبي الذي رفعك المصريون قبل نحو ثلاثين قرنا من الزمان إلي مرتبة الأنبياء والرسل.. أنت والحكيم بتاح حتب والحكيم آني وأخناتون العظيم.. والأول من الأسرة الخامسة.. أسرة بناة الأهرامات.. والثاني صاحب كتاب الموتي الذي تحدث عن البعث وحساب الملكين في القبر, وحساب يوم القيامة والجنة للمتقين العابدين والنار للأشرار والكفرة.. قبل التوراة بنحو2500 سنة.. وقبل الانجيل بنحو3000 سنة.. وقبل القرآن الكريم بنحو3500 سنة! ثم يجيء أخناتون العظيم الذي أزعم هنا أنه من بين كتيبة الأنبياء والرسل الذين لم يذكرهم الله في قرآنه الكريم لنبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام, كما جاء في القرآن الكريم: منهم من قصصنا ومنهم من لم نقصص.. قال أمينوبي مصححا: أناشيد أخناتون وتراتيله وصلواته للإله الواحد الأحد.. تكاد تكون نسخة طبق الأصل مما جاء في مزامير سيدنا داود عليه السلام الذي جاء بعده.. أما تعاليمي أنا أمينوبي.. فإنك تجدها في كتاب العهد القديم في سفر الأمثال.. أسأل أمينوبي العظيم حكيم الزمان والمكان: بردية أمثالك في ثلاثين فصلا كلها كما قال لي رفيق الطريق زاهي حواس حكم في نصح ولدك الذي كان يسعي لوظيفة بسيطة مجرد قياس للأرض.. تماما كما قال الحكيم لقمان الذي ينصح ولده في القرآن الكريم.. ما الفرق بينكما؟ قال: لا فرق بيننا.. كلنا حكماء الزمن الغابر.. ننصح أبناءنا وأبناء أمتنا المصرية.. بتاح حتب+ آني+ أخناتون+ لقمان+ سيدنا الخضر.. وإن كان الأخير ينصح نبيا لايتمالك نفسه عند الغضب هو سيدنا موسي عليه السلام.. أما أخناتون فقد كان يقود شعبه إلي الهدي والخير والسلام ودين الحق.. ولكن جيوش الشر انتصرت في النهاية وقضت علي أول رسالة للتوحيد في مصر؟ أسأل أمينوبي العظيم: لماذا ينتصر الشر دائما في النهاية؟ قال: الحياة صراع دائم بين الخير والشر.. يتبادلان النصر والهزيمة.. هذا ملح الأرض ياعزيزي.. وإلا ما نزل الإنسان إلي الدنيا.. ولما قامت الحياة وما استقامت.. وما نزل الأنبياء والرسل والمصلحون وأولياء الله.. وما وجد الشيطان عملا! ............ ........... ولكي تقطع الطريق علي كل من تسول له نفسه الشريرة الصيد في الماء العكر.. وحتي لا يفسر أحد كلامنا وحديثنا هنا بالمكر كله وبالخديعة كلها.. سوف أترك للحكيم أمينوبي أن يتلو علينا نصائحه لابنه قبل أن يلتحق بالوظيفة.. وما جاء في سفر الأمثال في التوراة من بعده دون تدخل مني: * يقول الحكيم أمينوبي: لا تزحزحن علامات حدود الحقول.. ولا تكونن شرها من أجل ذراع أرض, ولا تتعدين علي حدود أرملة.. ** ويقول سفر الأمثال: 10 لا تزحزحن حدود الأرملة ولا تدخلن في حقول اليتامي.. * ويقول أمينوبي الحكيم المصري: لا تتعبن نفسك في طلب المزيد.. حينما تكون قد حصلت بالفعل علي حاجتك.. وإذا جلب إليك المال بالسرقة فإنه لا يمكث معك سواد الليل, وعندما يأتي الصباح لا يكون بعد في منزلك, بل يكون قد صنع لنفسه أجنحة كالأوز وطار إلي السماء.. ** ويقول سفر الأمثال: 4 لا تتعب لكي تصير غنيا. 5 هل تطير عينك نحوه وليس هو؟ لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة كالنسر يطير نحو السماء.. * ويقول أمينوبي: لا تصاحبن رجلا حاد الطبع.. ولا تلحن في محادثته.. ** ويقول سفر الأمثال: 34 لا تستصحب غضوبا ومع رجل ساخط لا تجئ.. * ويقول أمينوبي: لا تقولن قد وجدت حاميا والآن يمكنني أن أهاجم الرجل الممقوت.. ضع نفسك في ذراعي الإله يهزمهم صمتك.. ** ويقول سفر الأمثال: لا تقل إني أجادي شرا.. انتظر الرب فيخلصك,, لا تقل أجزي علي الشر بل انتظر الرب فيخلصك.. * ويقول أمينوبي: لا تطلقن قلبك من لسانك.. فإنك بذلك تحظي بنجاح كل مقاصدك.. وبذلك تكون رجلا ذا وزن أمام الجمهور ومقبولا بين يدي الله لأن الله يمقت الرجل صاحب القول الكاذب وأكبر ما يمقته الرجل ذا القلبين.. ** ملحوظة من عندي يقول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في حديثه ملعون ذو الوجهين ................ ................ كما أهل علينا أمينوبي العظيم.. يهل علينا من الغيب الشاعر أمل دنقل وأديبنا الكبير طه حسين والمفكر الفيلسوف د. زكي نجيب محمود.. ** ملحوظة من عندي: الحقيقة لقد هل علينا الثلاثة من دفتي كتاب مصر في مرآتي للكاتب الباحث المدقق إبراهيم عبدالعزيز! راح الشاعر الرقيق أمل دنقل ينشد ونحن له منصتون: مصر لا تبدأ من مصر القريبه إنها تبدأ من أحجار طيبه إنها تبدأ منذ انطبعت قدم الماء علي الأرض الجديبه ثوبها الأخضر لا يبلي, إذا خلعته.. رفت الشمس ثقوبه العصور اتحدت حتي انتهي ال كل في الواحد, في الذات الرحيبه وهي أم الدين, وهي ابنته إن يكن للدين أو وربيبه! أرضها لا تعرف الموت فما الموت إلا عودة.. أخري.. قريبه نسأله: ما عنوان قصيدتك يا عمنا أمل؟ قال: مصر أرضها لا تعرف الموت! صفقنا طويلا نحن الخمسة: أمينوبي, وطه حسين, ود. زكي نجيب محمود, وأنا. وقال عميد الأدب العربي بصوته الدافئ الرصين: شعر فيه رصانة وأصالة وفكر ورومانسية عظيمة.. بادرنا د. زكي نجيب محمود بقوله: نحن ايها السادة اسياد العالم منذ بداية التاريخ.. إذا كانت الفلسفة قد جاءتنا من اليونان.. فإن الإسكندرية قد أصبحت منارة العالم الفكرية والعلمية والفلسفية.. عندهم أفلاطون ولدينا أفلوطين.. ثم جاءت المسيحية تلوذ بمصر وبها بدأت بذور المسيحية الأولي في مصر, وشيئا فشيئا ولمدة أربعة قرون أو خمسة قرون انتشرت المسيحية في مصر, مرة أخري أقول انتشرت.. أسأله: كيف؟ قال: هنا ظهرت العبقرية المصرية.. العبقرية البناءة.. ثم جاء الإسلام في أوائل عهده, عندما كان الرسول لايزال علي قيد الحياة.. جاء الإسلام إلي مصر, الحقيقة أنني لا أكاد أنظر إلي الإسلام في مصر والوطن العربي إلا وقلت: لولا مصر لما كان إسلام أو علي الأقل لما كان هناك تراث إسلامي.. لماذا؟ لأنه خلال القرون الثلاثة الأولي للإسلام, التي هي القرون الثالث عشر, والرابع عشر, والخامس عشر, كان التتار يزحفون علي العالم الإسلامي ودخلوا علي بغداد, وأحرقوا كل ما فيها من كتب, حتي تقول الأساطير إنهم من كثرة القتل جعلوا نهري دجلة والفرات نهرين من الدم.. ولم يردهم إلا الجيش المصري في عين جالوت بقيادة السلطان قطز والظاهر بيبرس! نسأل: كيف حمت مصر اللغة العربية؟ هو يقول: مصر عندما أسلمت أخذت اللغة العربية أيضا, ولم تكن هذه هي الحال بالنسبة لأي من البلاد التي أسلمت, تركيا أسلمت لكنها لم تأخذ اللغة العربية, إيران أسلمت ولم تأخذ اللغة العربية, باكستان وأجزاء من الهند أسلمت ولم تأخذ اللغة العربية, إندونيسيا والبلاد الإفريقية أسلمت ولم تتكلم العربية, ربما نصف المسلمين لا يتكلمون اللغة العربية. ولكننا هنا أخذنا اللغة العربية, والغريب في الحقيقة أن تتحول من لغة إلي لغة. الواقع أنني شخصيا أتمني أن أري بحثا يدلني علي: كيف نشأ هذا التحول في اللغة؟ التحول في الدين أسهل, لأن الدين عقيدة نؤمن بها.. ولكن اللغة آذان فكرية.. وعلي كل حال هذا ما حدث. ومنذ ذلك التاريخ فقد أضفنا طابقا شامخا رابعا إلي العمارة التي نبنيها أمام الزمن, عشنا في الطابق الأول الطويل الذي يمثل الحضارة الأولي, ثم بنينا عليها, لأن كل حضارة ما كانت تمحو داخل المصري حضارته الأولي, ولكنها كانت تقوم علي ما قبلها, ثم يحدث الامتزاج بين الحضارتين لتتولد صيغة ثقافية للحياة الحاضرة. والذي حدث هو أن الثقافة الأوروبية عندما أخذت تطرق أبوابنا, جاء محمد علي وبني الدولة الحديثة علي أساسها, قصد بناء الجيش, ولأول مرة في التاريخ منذ الفراعنة أراد أن يكون الجيش مصريا.. أراد أن يكون للجيش أطباء, فأنشأ مدرسة الطب, ومن قبل بدأ من المدارس الأولية, مدرسة الطب عمرها في مصر الآن أكثر من190 سنة. أنشأ أيضا مدرسة الهندسة المهندس خانة لأن الجيش يحتاج إلي المهندسين, ومدرسة الهندسة عمرها الآن نحو188 سنة, ثم أنشأ مدرسة الصنايع, فمطبعة بولاق وهي المطبعة الأميرية الآن.. وهكذا, ثم أوفد البعثات إلي أوروبا, استن محمد علي سنة البعثات ولم تزل مصر تواصل إرسال البعثات إلي أوروبا إلي يومنا هذا. ولم تتوقف البعثات إلا فترة قليلة أيام سعيد باشا ولكنها استمرت حتي وقتنا هذا.. أرسل البعثات لتأتينا بالحضارة الغربية, وجاء بالكتب ليتم ترجمتها في مدرسة الألسن علي يدي رفاعة الطهطاوي وتلاميذه. المشكلة التي اصطدمت بها مصر, أن مصر ظلت تقوم بدورها الإبداعي إلي أن جاء الأتراك في سنة1513, وانطفأت المصابيح المصرية لمدة ثلاثة قرون متواصلة, وأصبح الجامع الأزهر لا يقول إلا ترديدا لما قاله الأولون. الكتاب مجرد ترديد لكتاب آخر مع شرحه وتفسيره أو تلخيصه إلي آخره, أما فكر جديد, فلم تشهد مصر هذا النوع إلا ربما نادرا, لقد خيمت هذه القرون الثلاثة علي مصر بالظلام الدامس! ............... .............. قلت لعميد الأدب العربي: ماذا حدث لك يا أستاذنا الكبير عندما أخبروك في باريس أنه ليس هناك جنسية اسمها الجنسية المصرية؟ قال: لا تذكرني بهذا اليوم الأسود.. علي أي حال مادمت مصرا.. فإليك ما حدث: قيل لنا ذات يوم حين كنا طلابا للعلم في باريس في أثناء الحرب العالمية الأولي إن الحكومة الفرنسية قد رأت لأمر من أمور الحرب أن تخضع الأجانب في فرنسا لملاحظة دقيقة, ومراقبة شديدة, وأن تعلم من أمرهم ما ظهر وما بطن, وأنها من أجل ذلك قد فرضت علي كل أجنبي أن تكون له تذكرة شخصية يستخرجها من إدارة الشرطة, في البلد الذي يقيم فيه, وأن هذا الأجنبي ملزم أن يظهر هذه التذكرة كلما طلبت إليه في أثناء إقامته وسفره, وفي أثناء استقراره واضطرابه, وحين يكون عاكفا علي الدروس في داره, أو جالسا إلي السمر مع أصحابه في ناد من الأندية. وما هي إلا أيام حتي تلقي كل واحد منا دعوة إلي إدارة الشرطة في الحي الذي كان يقيم فيه, وكلف أن يصطحب الأوراق التي تثبت شخصيته. فذهبت صباح يوم من أيام الجمعة إلي إدارة الشرطة في ناحية من أنحاء الحي اللاتيني, وهناك دخلت علي رجل فرنسي شيخ, ما أري إلا أنه كان خليقا أن يحال إلي المعاش لولا أن الحرب كانت تصرف الشبان والكهول إلي الميادين, وتضطر الدولة إلي استبقاء الشيوخ, وأشباه الشيوخ في أعمالهم. وكان هذا الرجل موظفا فرنسيا بأدق ما لهاتين الكلمتين من معني, فإن للموظفين الفرنسيين خصالا يمتازون بها عن الموظفين في البلاد الأخري, هم أحرار العقول, ولكنهم محافظون أشد المحافظة في أعمالهم الفنية. دخلت علي هذا الموظف الفرنسي فلقيني في هذه الغلظة العنيفة التي أشرت إليها, التي كنت أعرفها حق المعرفة, فلم أكن أحفل بها, ولا أشفق منها, وجعل يسألني عن اسمي, واسم أبوي, وعن تاريخ مولدي, وتاريخ رحلتي إلي فرنسا, وأسباب هذه الرحلة. وكان يلقي علي هذه الأسئلة كأنه قاضي التحقيق حين يسأل متهما مخوفا, ولكنني كنت أسمع منه وأرد عليه مبتسما راضيا, كأنما كنت أسمع منه مداعبة ومزاحا, ثم انتهي السؤال والجواب إلي جنسيتي, وكنت قد سافرت من وطني مصريا خاضعا لسيادة الترك العثمانيين, ثم أعلن أصدقاؤنا الانجليز حمايتهم بعد ذلك, ولكني لم أحفل ولم أفكر فيها ولم يخطر لي أنها ستكون ذا بال في يوم من الأيام, ولم أفكر علي أي حال في أن هذه الحماية ستمسني من قريب أو بعيد.. فلما سألني هذا الموظف الفرنسي عن جنسيتي؟ أجبته بأني مصري. فاستعاد الجواب, ثم قال مبتسما مغيظا في وقت واحد: ولكن هذه ليست جنسية.! قلت: لا أعرف إلا أني مصري. فضحك في شيء من السخرية, ثم ظهرت ناحية من نواح الخلق الفرنسي الذي يمتاز به الموظفون الفرنسيون ناحية الحاجة إلي البحث والفهم والاستقصاء, يحبون ذلك أشد الحب ويقدمون عليه مع ذلك كارهين متثاقلين لا يخفون ضجرهم وتبرمهم. نهض هذا الموظف إلي كتب ودفاتر, فاحتملها ووضعها أمامه, وجعل يقلب أوراقها, ويطيل النظر فيها, وكأنه قد نسيني نسيانا تاما, وانصرف إلي بحث علمي شغل به ساعة علي أقل تقدير, ثم التفت إلي مشرقا, وقد بعث من حلقه أهة المنتصر المظفر, وضرب بيده علي المائدة كأنه قد تخفف من عبء ثقيل, وقال: لقد عرفت الآن صفتك السياسية فأنت رعية عثمانية ومحمي بريطاني! قلت مغيظا: فإني لا أعرف إلا أني مصري. وخرجت محزون القلب منكسر النفس كاسف البال تدور في رأسي هذه الجملة: أنت رعية عثماني وحماية إنجليزي! علي أي حال انتهي الأمر بصدور قانون الجنسية المصرية كما يقول الكاتب إبراهيم عبدالعزيز في رائعته مصر مرآتي والذي نشر الأهرام نص القانون في العدد الصادر يوم الخميس28 فبراير عام1929.. وتضمن القانون الجديد سبعا وعشرين مادة: والمادة السادسة منه حددت ماهية المصري التي انطبقت علي أربع حالات, من ولد في القطر المصري, أو في الخارج لأب مصري, من ولد في القطر المصري أو في الخارج من أم مصرية مادامت نسبته لأبيه لم تثبت قانونا, من ولد في القطر المصري من أبوين مجهولين, ويعتبر اللقيط في القطر المصري مولودنا فيه ما لم يثبت العكس, وأخيرا من ولد في القطر المصري لأب أجنبي ولد هو أيضا فيه, إذا كان هذا الأجنبي ينتهي بجنسه لغالبية السكان في بلد لغته العربية أو دينه الإسلام. ** ملحوظة عندي: يعني المصري عاش خمسة آلاف سنة مصري تنحني له كل الرؤوس ويفخر به كل الخلق.. ثم جاء الاستعمار البريطاني في عام1882 ليلغي اسم المصري من الوجود ويقول له: انت رعيه عثماني وحماية بريطاني! ويظل47 عاما بلا هوية! عجبي: كما قالها صلاح جاهين! أسأل أديبنا الكبير: ماذا تحب في مصر؟ قال: قل ما شئت وتصوروني كما أحببت, واحكم علي بما تريد أن تحكم به, ولكنني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين. وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذة ومتاعا وشعورا بالمصرية الخالصة. نصفق قلنا لصاحب الأيام., هو يضيف بصوته الذي يشبه لؤلؤ البحر في صدفاته: ولكن مصر أيها السادة أكبر من أهلها وأكبر من هذا الثوب الضيق الذي فرض عليها. لقد خلعت العمة وخلعت الجبة وخلعت القفطان ودخلت في هذه الثياب الأوروبية فكم ضقت بها وكم كرهتها وكم ندمت علي جبتي وقفطاني, أسأله: استاذنا العظيم ماذا تقول لمصر؟ قال: مصر جديرة بأن تري نفسها عظيمة.. بأن تفرح.. بأن تغني.. أنا مصري قبل كل شيء.. وبعد كل شيء.. ولا أعدل بمصر بلدا.. ولا أوثر علي الشعب المصري شعبا آخر مهما يكن! نصفق كلنا مرة أخري.. ............... ............... قبل أن ينفض سامر المحتفلين بنصر مصر الكروي: رسول الحكمة أمينوبي, وعميد الأدب العربي طه حسين, والكاتب الفيلسوف زكي نجيب محمود, والشاعر المبدع أمل دنقل.. وقب أن يذهبوا من حيث أتوا إلي عالم الغيب والسلام.. فاجأنا الشاعر الغنائي مصطفي الضمراني بقوله: من فضلكم اسمعوني.. ثم راح ينشد ونحن له منصتون: وتعيشي ياضحكة مصر.. وتعيشي يا فرحة مصر وتعيشي يا كل بلادي.. ويعيش وياكي النصر فرحانة وعال العال.. بالنصر في أي مجال.. ربنا.. عالم.. بالحال وبالناس الحلوة في مصر,. وتعيشي يا ضحكة مصر طلي يا ضحكتنا.. وهلي.. باركي لأفراح الشعب., مكتوب في تاريخنا.. تملي.. بنخطي جسور الصعب وندوس علي أي آلام.. نصنع فرح الأيام.. ونكون دايما قدام.. يجمعنا بمصر الحب.. ونشوفها في أحسن حال.. منصورة في أي مجال.. وربنا.. عالم.. بالحال.. وبالناس الحلوة في مصر.. وتعيشي يا ضحكة مصر غنينا كلنا في صوت واحد: وتعيشي يا ضحكة مصر.. [email protected]