اقترح اختيار ميدان كبير في القاهرة يطلق عليه اسم ميدان المنتخب مع الإعلان عن مسابقة عالمية لإقامة نصب تذكاري ضخم لشحاتة ولاعبيه فرحة المصريين باللقب الأفريقى طغت على كل شئ قبل أن يسيء فهمي أحد، أُقر وأعترف أني مهوَّس بالكرة منذ بداية السبعينيات، وأنني لا أزال أحضر المباريات في الاستاد كلما تسنح الفرصة، وأنني لم أفوت مباراة دون مشاهدتها علي الهواء طوال ما يقرب من أربعين عاما، وأنني أحيانا ما يصعب عليّ النوم ليلة المباريات المهمة، وأنني إذا نمت أطلت في النوم حتي أصحو قبل المباراة بدقائق فلا يعذبني الانتظار، وفي زمان المدرسة وكنت في الفترة المسائية في الإعدادي كثيرا ما استنفدت أيام الغياب حتي لا تفوتني المباراة، وأنني أنشال وأنهبد وأنشرح وأنشكح مع الفريق الذي أشجعه وخصوصا المنتخب، وأنني مشجع أزلي أبدي مريد عتيد وعنيد للمعلم حسن شحاتة الذي كان يوم اعتزاله علامة فارقة في حياتي المحكوم عليها بالزملكاوية، ومازلت أقول حين أري الجمهور يهتف «كفاية كفاية» لينهي مسيرة نجوم كبار وموهوبين عظام إن حسن شحاتة هو الوحيد الذي ظل الجمهور يستحلفه بابنه سنوات ألا يعتزل، بل أعاده فعلا من الاعتزال ليبدع من جديد كما لم يبدع من قبل. لكل ما سبق لا أشك في أنني جزء من النواة الصلبة الفرحانة بفوز منتخبنا العظيم بكأس أفريقيا لثالث مرة علي التوالي. ولكنني أقف أمام نفسي عاجزا عن تفسير شعور تحتي خفيف وخفي بالأسي والانزعاج والأسف. أقول: مستكترين علينا لحظة مرح مستكترين القلب ليه ينشرح؟ زغرد وغرّد وانتشي، واختشي ياهم مش وقتك، ده وقت الفرح عجبي! ولكن عجبي من أن الهم لم يختش ولم يخف، بل ظل جاثما مراودا. ويطفو السؤال: هل أصبحت مصر أمة كروية فقط أو بس خلاص علي رأي فنان الجيل شعبان عبد الرحيم؟ أحدق في الشاشات فأري وجوها مصرية طيبة بذقون خشنة تقفز فرحا وتختطف الميكروفونات لتزعق في الفضائيات وفي السماوات المفتوحة (الحمد لله! الحمد لله! عظيمة يا مصر! هي دي مصر!)، وفي الصباح تعود للركض خلف الميكروباصات وتقفز من التوك توك وتصبّح علي الباشا والبيه وتواجه الحر والقر بجوز قمصان وبلوفر ولا سواها. في صيف عام 1998 خرجت فرنسا للمرة الأولي والأخيرة عن بكرة أبيها لتحية منتخبها الكروي الفائز بكأس العالم. ولكن لم يكن ذلك تعبيرا عن الفرحة فحسب، بل كان في الأساس استفتاء شعبيا غير رسمي علي هوية فرنساالجديدة. ذلك أن الفريق نفسه بتشكيلته التي ضمت حينها الأبيض والأسود والبيج والبني ذا الأصول المغربية واجه هجوما عنصريا قاسيا من اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة جان ماري لوبان، فكان الفوز فرصة سانحة لتعلن الجماهير كلمتها وانحيازها لكيانها الوطني بكل أطيافه وتضامنها تحت الأبيض والأحمر والأزرق ألوان العلم الفرنسي. هل هناك رسالة تحملها الجموع التي تسابقت القنوات في رصد فرحتها في شوارع مصر المحروسة إضافة إلي الفرحة بالفوز الكبير؟ نعم. الرسالة هي: نحن هنا. نحن هنا، فلا تغفلوا عن قوانا الكامنة وتطمئنوا لصبر أيوب الذي ورثناه أبا عن جد مع دودة البلهارسيا والطيبة والتسامح وتقديس الفرعون وتراب الخماسين والشمس طول السنة. نحن هنا، نبحث عن مصر المتفوقة القوية، نجدها الآن في الكرة ولكن لا تخطئوا فتظنوا أن هذا هو نهاية المطاف ومنتهي الأمل. نحن هنا، فهل تجدون يا سادة لطاقاتنا مجري ولسواعدنا عملا ولهتافنا كلمات؟ نحن هنا من أجل شحاتة ورجالته وليس من أجل كل من يحاول قطف الإنجاز. هل فيكم أنتم أيضا من هو حسن شحاتة؟ هذه هي الرسالة الباطنة التي تطلقها الحشود دون وعي منها. ولا حيلة لي كمثقف مصاب بفيروس الوعي إلا أن ألتقطها فتفسد عليّ فرحتي أو علي الأقل تمزجها بشيء من الحسرة. تتضاعف الحسرة ويشتد الانزعاج حين أجد أن الآلة الإعلامية ذات الجبروت في تشكيل الوعي الشعبي (أو تشويهه) تنساق بلا حياء وراء خطاب لا يقول سوي أننا الأقوي والأعظم والأقدم والأحسن، وميت فل وعشرة! وتتحول الاستديوهات إلي فرح بلدي بأولاد حسب الله وأولاد أبو الغيط والتنورة والمزمار وحجازي متقال وزكي يا زكي! ولا يكتفي صناع اللاوعي بتلوين الحاضر فتمتد أيديهم إلي تشويه الماضي، فيعيدون صياغة كلمات خلي السلاح صاحي وغيرها من أغنيات العبور المجيد (آخر إنجاز مصري حقيقي) لتتحدث عن أمجاد الكرة والملاعب! لماذا لا يكون الاحتفال وقورا وعلي قدر الإنجاز؟ لماذا لا يبرز الإعلام أن ما تم عظيم وكبير في مجاله ولكن بلدنا لا يزال في حاجة لكثير من العمل علي سائر الأصعدة؟ لماذا لا يوضح الإعلام حقيقة أن الشعب يحتفل في هذه اللحظة بإنجازات فردية، ويتساءل متي نحتفل بإنجاز جماعي؟ متي يحتفل الشعب بنفسه؟ لماذا لا نتساءل عن موعد فرحتنا المقبلة وهل يمكن أن تكون شيئا غير كأس أمم أفريقيا 2012؟ ثم تتضاعف الحسرات من جديد وتتسع الغصة حين نخفق في أن نري أن إنجاز شحاتة في جوهره هو نجاح لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب. فنأخذ هذا المبدأ نفسه لنعبث به ونتلاعب في كيميائه البدهية مهللين لجعله: لماذا لا يكون الرجل المناسب في كل مكان وخصوصا المكان غير المناسب؟ ونجد موجة عجيبة في بداية سنة الانتخابات التشريعية من إعلان نيات لاعبي كرة القدم الترشح لانتخابات مجلس الشعب! هل هذا معقول؟ هل دخلنا عصراً تنضاف فيه مؤسسة جديدة إلي نادي المؤسسات الحاكمة في مصر هي المؤسسة الكروية؟! والأدهي والأمر هو إحساسي شبه اليقيني بأن هؤلاء سيفوزون وعلي قوائم الوطني طبعا وسينتخبهم الشعب الطيب الغلبان الذي نحاول إفهامه (أو إيهامه) أن الكرة هي الأول والآخر وأن أهداف جدو الستة (باحتساب هدفه الودي في مالي) هي هي مبادئ الثورة الستة، بس احنا مش واخدين بالنا! إنني أقترح اختيار ميدان كبير في القاهرة ليطلق عليه اسم ميدان المنتخب، ويُعلن عن مسابقة عالمية لإقامة نُصُب تذكاري ضخم لشحاتة ولاعبيه علي مدي السنوات الست الماضية. اقتراح آخر: إصدار عملة ورقية وأخري معدنية وطوابع بريد توثق إنجاز هؤلاء، وتقترب من تخليده. أنا مع الفرحة ومع التكريم الحقيقي، ولكنني لست مع كذابي الزفة وسارقي الفرح.