فجأة أحكم إغلاق التاكسي ب«السنترلوك» زجاج وأبواب، السيارة تركض في مكان غير مأهول.. القمامة تحيطه من كل اتجاه، أنفاسها تتسارع قلبها يخفق بنبضات تكاد تسمعها رعب، ترقب لحظات تمر كأنها الدهر كله.. وسؤالها الحائر ماذا سيفعل مع فتاة وضع بنفسه كرسيها المتحرك علي سطح التاكسي؟! لم تتخيل أنه لن يرحم ضعفها ولا عجزها.. ولا قدميها المشلولتين.. كانت كل دعواها.. بعد أن تركها بين أكوام القمامة «يارب نزل الرحمة في قلبه دقيقة واحدة وانزعها تاني بس يرجع لي الكرسي المتحرك»! من بين دموعها التي لم تنقطع من يومها.. روت لي إيمان حكايتها التي تنزف من بين سطورها.. حزنا وألما.. لكن اكتشفت خلف تلك الدموع قصة كفاح غير عادية. إيمان مراد عثمان - 30 سنة - حاصلة علي ليسانس الآداب قسم فلسفة بجامعة القاهرة وأيضا الحاصلة علي ليسانس الحقوق من نفس الجامعة.. والحاصلة علي دبلومة القانون الدولي العام ودبلومة الإجراءات الجنائية الخاصة والتي كانت علي وشك مناقشة رسالة الماجستير بعد شهر تقريبا. قالت إيمان: في يوم الحادث خرجت من حرم الجامعة حوالي الساعة السابعة مساء بعد انتهاء محاضراتي، وكالعادة زملائي لا يتركونني وحدي بل يسارع أحدهم لمساعدتي حتي يطمئنوا أني ركبت التاكسي. وانطلق التاكسي في طريقه إلي المقطم كما طلبت منه.. وخلصنا طريق صلاح سالم وقبل أن يدخل إلي المقطم وجدته ينحرف في مدخل آخر.. سألته فقال لي هاتعرفي أكثر مني هو ده طريقي.. وفجأة سمعت صوت السنترلوك يغلق الأبواب والزجاج كله ويقف في منطقة بين منشأة ناصر والمقطم.. اسمها العزبة.. عشوائية جدا وكلها زبالة ولا يوجد بها بشر إلا نادرا. روحي راحت مني.. إنت عايز مني إيه ورحت أردد الآية الكريمة للعذراء مريم «أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا». لم يرحم دموعي ولا ضعفي ولا حتي عجزي وعدم قدرتي حتي علي المقاومة.. «عايز مني إيه صرخت بها في وجهه» فإذا به يلتفت إلي لأري وجها ملامحه كلها شراسة وعيون تنطق غدرا وشرا أسكتي لأشرحك، وإذا به يضع مطواة في رقبتي - طلعي كل اللي معاكي.. قلت مش معايا حاجة.. خلصي يا بنت كذا وكذا مش اللي معاكي ده بتسموه كمبيوتر والشنطة دي فيها إيه مش فلوس وموبايل.. قلت له أنا لم أفعل لك شيئا ليه عايز تأذيني!! وشرد ذهني للحظات في صور وأفكار كثيرة تري ماذا سيفعل بي.. خاصة والكلمات القذرة والقبيحة التي قالها لي «ها عمل فيكي كذا وكذا».. صداها في أذني يكاد يقتلني رعبا وخوفا - ماذا سأفعل كيف سأقاومه والفضيحة ومستقبلي كله هاعمل فيهم إيه.. وبمحاولات يائسة أضع يدي علي الشباك والباب فيضحك ساخرا بتعملي إيه! فاكرة نفسك هاتعرفي تعملي حاجة يا حلوة.. هات كل اللي معاكي.. وبالفعل أخذ اللاب توب اللي مسجلة عليه كل شغلي ورسالة الماجستير اللي كان باقي لي شهر علي مناقشتها.. وخطف شنطة يدي اللي كان فيها الموبايل وفلوسي الشخصية وفلوس مصاريفي الدراسية 1200 جنيه كنت قابضة معاش بابا وجمعت عليه من أخواتي باقي المبلغ لكن للحظ ملحقتش موظف الخزنة بالكلية فأجلتها ليوم تاني عشان أرجع بالفلوس ويحصل لي اللي حصل قلت له لو تعرف.. الحاجة دي تهمني وتعبانة فيها إزاي ومحتاجاها قد إيه - ترحمني - لم يجد معه استعطاف ولا إثارة شفقة ليفاجئني بخبطة شديدة في وجهي حتي أسكت تماما وتبعها بضربة أخري علي رجلي العاجزة وشدني من هدومي والحمد لله إنها ما اتقطعتش. وسألته: ليه العنف ده - مش أنت عايز الحاجة خلاص بتضربني تاني ليه. فإذا به ينزل من التاكسي.. ويفتح الباب ويجرجرني ورماني علي الأرض وبقدمه ضربني في جنبي صرخت من قوة الألم.. حرام عليك ليه كده أنت مش بني آدم. المنطقة لا يوجد بها «صريخ ابن يومين» وفي وسط أكوام القمامة ألقاني وكأني جثة لحيوان ميت.. ياه ما أصعبها لحظة.. لا أجد من الكلمات ما يصفها.. وتسقط دموعها: إهانة، ذل، انكسار، عجز، وضعف، قلة حيلة - وكان كل ده ممزوجا بالرعب.. ماذا سيفعل بي رحت أستجمع أعصابي وألملم نفسي حتي لا يحدث ما أخاف منه.. لحظات من الصمت تسود لا أتفوه بكلمة وهو لا يتفوه لكن نظراته الشرسة التي تنطلق من ملامح لا يمكن أن تكون ملامح إنسان.. ليقول لي بعدها.. كفاية عليكي كده.. عشان تعرفي تنزلي ميدان التحرير أنت واللي زيك وعاملين لي ثورجية!! وبقدمه مرة أخري يضربني في جنبي الثاني.. ليمضي بسيارته ويتركني في ذلك المكان.. الموحش.. خاصة أن الظلام قد حل.. ويأخذ مني حتي الكرسي المتحرك الذي لا أستطيع التحرك بدونه - صرخت خلفه الكرسي من فضلك الكرسي.. لكن لم تجد صرخاتي عنده أي صدي. ظللت في مكاني من السابعة والنصف حتي العاشرة والنصف مساء.. وسط الزبالة والظلام ونادرا ما تمر سيارة كانت أغلبها سيارات نقل خاصة بالمنطقة. مرت الثلاث ساعات.. وكأنها ثلاث سنوات.. ما بين بكاء إلي الله ودعاء سيدنا يونس في بطن الحوت «أستغفر الله العظيم إني كنت من الظالمين» وما بين حوار مع نفسي يا تري أنا عملت إيه في دنيتي أو ظلمت مين عشان يحصل لي كل ده! شريط حياتي كله يمر أمام عيني.. ويقطع شريط الذكريات من حين إلي آخر نور سيارة قادمة أحاول التلويح لها أو الصراخ لكي أستوقفها لكن للأسف الكل إما كان يظنني شحاتة أو حرامية هاعمل فيهم مقلب! ومع كل محاولة فاشلة أزداد إحباطا ويأسا.. لكن لم أجد أمامي إلا الزحف إلي خارج المنطقة إلي الطريق العمومي - وبصعوبة شديدة رحت أجرجر في أقدامي المشلولة إلي أن وصلت إلي رصيف علي الطريق. وللأسف تعامل معي كثيرون بنفس الإهمال وكأني كم مهمل إلي أن أرسل الله لي يد المساعدة أخيرا.. سيارة تقودها سيدة فإذا بها تقف أمام إشاراتي لها فتحت لي باب سيارتها.. اركبي اركبي بسرعة علشان الطريق.. قلت لها مش عارفة مش قادرة. ونزلت لتساعدني.. رويت لها ما حدث معي - تأثرت بشدة وراحت تهدئ من روعي مش هاسيبك إلا اما أسلمك لأهلك ولحد باب بيتك بس لازم نروح نبلغ في القسم ونعمل محضر. وعلي الطريق توقفنا بجوار المجزر الآلي كانت هناك نقطة مرور «نقطة مرور شرطة البساتين» وكان فيها ضابط.. قلنا له عايزين نعمل محضر ضد سائق تاكسي أبيض وشرحت له ما حدث معي.. وأخذ مني مواصفات السائق.. الطويل جدا ووجه أسمر يميل إلي السواد.. وله شنب عريض.. وبعد ما كتب لي المحضر بتاريخ 13/4/2011 ورقم 3452 سألته هاتعملوا إيه؟ هز لي أكتافه وقال لي ربنا يسهل! وتمضي إيمان في سرد مأساتها.. عدت إلي منزلي بعد يوم شاق وصعب في حياتي وبداخلي أحاسيس ومشاعر كثيرة مؤلمة ومتضاربة.. لأنه رغم عجزي المرضي لأول مرة أشعر أني مكسورة ومقهورة وبتصعب عليا نفسي الألم كان يجتاح كل جسمي طلبت إخواتي وأخذوني علي المستشفي لعمل أشعات فإذا بذراعي الشمال مكسورة من شدة الارتطام عندما ألقاني علي الأرض. مكثت في البيت شهرا - لا أخرج ولا أتكلم مع أحد.. حتي اتصل بي صديقي وأبويا الروحي.. الأستاذ عمار الشريعي يسأل عني.. فحكيت له الحكاية.. فحثني علي الخروج والبحث عن حقي وأعلن ما حدث لي. كان سؤالي الأخير لإيمان: السائق عرف منين أنك من شباب التحرير؟! مش عارفة بس يمكن عرف من خلال كلامي مع زميلي الذي كان يلف علي رقبته كوفية علم مصر وكنا نتفق علي موعد اللقاء في ميدان التحرير يوم الجمعة.