مررت علي صديقتي بعد صلاة الجمعة، دخلنا الميدان للمرة الأولي من جهة شارع قصر العيني - كنا في المرات السابقة نفضل الدخول من شارع التحرير أو طلعت حرب - اتجهنا يمينا فأصبحنا في وسط حشود من الإخوان تحيط بالمنصة الرئيسية المقابلة لهارديز. أشار لنا أعضاء لجنة النظام علي الطريق. اضطرنا الزحام أن نسير في صف وضعت فمي في أذن صديقتي تقريبا لتسمعني وسط ضجيج الزحام والميكروفونات، قلت (الإخوان بيستعرضوا) قالت (لأ طبعا في ناس عاديين جدا كتير مش كل الموجودين إخوان). طوال الطريق من مدخل قصر العيني حتي مدخل طلعت حرب ظللت أجذبها من ذراعها وأشير إلي مشهد وراء الآخر لأثبت لها رؤيتي وظلت هي تهز رأسها موافقة. بمجرد أن تحررنا من الزحام التفتت تجاهي بعصبية من يشعر بالهزيمة، قالت لي (إنتي عايزه تقولي إيه؟) الميدان أهه مليان ناس من كل الأشكال احنا بس اللي دخلنا من ناحية منصة الإخوان. قلت أنا حاسة إن الإخوان بيظهروا بالطريقة دي لما يكونوا عايزين يوصلوا رسالة. قالت: احتمال يكونوا قلقانين من مطلب تأجيل الانتخابات اللي بيطالب بيه ناس كتير بعد أحداث إمبابة. رن جرس تليفوني لأتلقي مكالمة أسمعها بصعوبة وسط ضوضاء الميدان وأفهم أن جورج إسحق كان يلقي كلمة من علي منصة الإخوان قال فيها مطالب منها تأجيل الانتخابات فأسكتوه وهتفوا ضده وأنزلوه قبل أن يكمل كلمته. قلت لصديقتي إن ما توقعته كان صحيحا، فجذبتني إلي أبعد نقطة في الميدان عند مدخل شارع البستان. -- كانت الأصوات القادمة من الميكروفونات متداخلة أكثر من أي جمعة سابقة، المنصات اقتربت من بعضها وزاد عددها بحيث أصبح الواقف كجمهور لإحدي المنصات يستطيع أن يسمع بوضوح المنصات الأخري. بعد ساعات كنا - صديقتي وأنا -أنهكنا تماما، دمرت الضوضاء والشمس والحر صحتنا، فتوجهنا إلي قهوة التحرير المطلة علي الميدان. جلسنا في الداخل نشرب الشاي بالنعناع وندخن الشيشة، جاءت جلستي بحيث أري من بعيد جانبا من مجمع التحرير وجانبا من فندق سميراميس، وكثيرا من الإعلام، لم يعد يصل إلي أذني من كل الضوضاء الخارجية إلا صوت أغنية يا فلسطين بصوت الشيخ إمام تذاع من المنصة الخاصة بحزب التحالف الاشتراكي. لليساريين شكل مميز ولغة مميزة تماما كالإخوان، أستطيع أن أعرفهم من دون لافتة ولا اسم حزب. وجودهم في الميدان يذكرني بطعم الحرية. تدريجيا عدت بالذاكرة إلي يوم 25 يناير. كانت المظاهرة التي اتبعتها أول مظاهرة كبيرة تصل إلي الميدان كان الوقت مثل الآن بعد العصر بقليل. وقف أبوالعز الحريري علي مكان مرتفع في وسط الميدان يهتف وحوله مئات يرددون الهتافات، وكانت الشرطة مازالت تلعب دور الصديق، ابتعدت عن التجمع ووقفت علي مكان مرتفع ولكن وحدي تماما أراقب تضاعف الأعداد بسرعة، حين فاجأتني مظاهرة بالآلاف قادمة من شارع رمسيس، شكل اللقاء بين المتظاهرين الواقفين في الميدان والقادمين عليهم بالنسبة لي كان حلما حولني أنا السيدة العجوز إلي طفل يتقافز فرحا ويصرخ مثلهم جميعا حرية حرية، في تلك اللحظة التقيت بالحرية للمرة الأولي في حياتي.. إنها تشبه الحلم. استيقظت علي خراطيم المياه، لم تصلني شخصيا لأنني بالصدفة كنت مازلت في المكان المرتفع. لكن أغرقت من حولي. لم تمر سوي دقائق حتي بدأت القنابل المسيلة للدموع. الغريب أن الأعداد بدلا من أن تتفرق كانت تتضاعف. في طريقي للعودة كان مشهد كبار الضباط الواقفين أمام مجلس الشوري في شارع قصر العيني بالنسبة لي مشهدا تاريخيا، كانوا يتكلمون في التليفونات بأصوات عالية مذعورة وكانوا يركضون عبر الشارع تعبيرا عن هذا الذعر. بدوا وكأنهم مثلي تماما يلتقون بالحرية للمرة الأولي في حياتهم.. كانت بالنسبة لهم تشبه الكابوس. -- في نقابة الصحفيين يوم الجمعة الماضي كان اليوم الثاني من أيام الاشتراكية (مؤتمر أيام الاشتراكية الخامس الذي يناقش آفاق الثورة في العالم العربي). أنهيت يومي في الميدان بحضور إحدي جلسات المؤتمر تحدث فيها وائل جمال ود.عمرو الشوبكي عن مفهوم العدالة بين الليبرالية والاشتراكية. لم أعد أشعر أن الحوارات في هذه النوعية من القضايا مضيعة للوقت. بل أصبحت أبحث عنها تماما مثل هؤلاء الذين حولتهم الثورة إلي مبتدئين في العمل السياسي ومتحمسين لفعل أي شيء إيجابي.