من أرض مصر ومع شروق شمسها .. أشرقت الحضارة حتى قبل التاريخ، لتهدى مصر للعالم فنونًا وآثارًا باقية، شهادة حياة على عبقرية الأرض الخالدة ، أرض لا تموت بفضل فن وأصالة أبنائها. لا يوجد تاريخ مكتوب لبداية فن النحت فى مصر والمؤكد أنه ظهر قبل بداية عهد الأسرات واهتمت بالحياة الأخرى. وتطورت مع الاحتفاظ بالواقعية فظهرت الرموز فى تشكيل التماثيل خاصة تماثيل الآلهة. ويتلقف الفنانون المصريون فن أجدادهم العظام بعد فترة انقطاع وركود ليحيوا فن النحت على يد نحاتين عظام أبرزهم «محمود مختار» الذى مد الوصل بين القدماء وعصره ويلهم من بعده لمواصلة طريق الإبداع. وفى الفترة «الحالية» يتألق نجوم النحت المصرى وتتشكل حضارة فنية تمتد من عمق التاريخ بجينات عبقرية لتقول للعالم إن مصر قادرة على ولادة مبدعين يواصلون ما تركه لهم الأجداد، آخذون منه قبسًا ويجدون على أثره هدى.
صلاح حماد مهندس الفراغ
يقول فنانون إن الفيزياء تؤكد أن فى الفراغ ذرات من الطاقة الأقل إيجابية من كتلة المادة. ومع الفنان التشكيلى والنحات الكبير صلاح حماد يختلف الأمر تماما لتجد نفسك فى مواجهة الفراغ الذى يكون مع المادة الصلبة ذروة الطاقة الإيجابية.. والذى يعد من أبرز النحاتين المصريين المعاصرين الذين اهتموا بفكرة تشكيل العمل فى الفراغ وقد تجاوز المفهوم التقليدى للنحت بوصفه كتلة صلبة إلى النحت الذى يتجاور مع الفراغ ليصبحا جزءًا واحدًا فى تكوينه الفنى. يشكل حماد فى أعمال المادة الصلبة ويحولها إلى خطوط ومنحنيات هندسية تتلاعب فى الفضاء ولا يعتمد على كتلة كاملة بل على الفراغ نفسه كبناء قائم بذاته، تتميز منحوتاته بالحركة النابضة بالحياة داخل المجال الذى تشغله والذى يشكله بحرفية عالية لتحقيق التوازن البصرى. أعماله تتجاوز الفكرة المباشرة ليغالب عليها الطابع التجريدى ورمزية تستلهم الإنسان وعلاقته بالطبيعة والكون والطيور فى مزج رائع بين العفوية والعضوية والبناء الهندسى. العلاقة بين حماد والنحت المصرى القديم تمثل جانبًا فلسفيًا عميقًا حتى وإن بدا غير ذلك من النظرة الأولى، إن أعماله تجريدية خالصة. ارتبط حماد بالنحت القديم ارتباطًا روحيًا وجوهريًا وذهب ليبحث عن البنية الفكرية التى جعلت الفن المصرى القديم خالدًا عبر الأزمنة وكون عظمتها فى الاتزان والثقل الذى يصنع من أجل الخلود وإذا كان النحات المصرى القديم جعل الحجر الصلد ينطق بسكينة الروح فإن حماد جعل منحوتاته تنطق بالصمت بصياغة تجريدية حديثة هى نفس الروح القديمة تتحدث بلغة الزمن المعاصر. «حماد» يحرر الهواء من الصمت.. لا يبحث عن الجمال بل يتأمل المعنى الخالص للحياة والوجود يزرع منحوتاته فى سراديب النفس الخفية بين المادة والروح ، والإنسان والكون.
ناثان دوس.. صعيدى من تل العمارنة يعيد اكتشاف أجداده
ولد ناثان دوس فى إحدى القرى الصغيرة بمركز تل العمارنة بمحافظة المنيا، المدينة التى لازالت تحتفظ بآثارها القديمة لتعيش مع أبنائها ويواصلون معها الحديث عن عظمة الأجداد ويستلهم منها الفنان الموهوب الفن الأصيل ويلتحق بعد ذلك بكلية التربية والفنون بجامعة المنيا -قسم النحت-ويقدم للفن المصرى تماثيل رائعة استمدها من حضارته القديمة ويصيغها بخامات مختلفة كالجرانيت والرخام الممزوج بالنحاس المسبوك، أعماله تشى دائمًا بالسمو والارتقاء وكأنه راهب يعطى ما لديه من حكمة - تعلمها من الأقدمين - ويصيغها بلغة رصينة لتصل إلى الجميع بعذوبة سلسلة. امتدت أعماله خلال العشرين عاما الماضية. وفى معرضه الأخير «شميدت» التى استلهمها من الحكمة القديمة يعتز الفنان بتمثاله «عودة سنوحى» وهو الطبيب والعالم والمؤرخ القديم الذى رحل إلى أرض بعيدة -سوريا- ليعود بعد سنوات كثيرة من التغريب إلى وطنه الأم فى رسالة واضحة «مصر لا ينهض بها إلا أبناؤها» وخير الأبناء من يهدى لوطنه العلم لتكون منارة الخير ونبع الحضارة ودعوة إلى العودة للجذور والقيم الأصيلة.
فى أعماله يقدم لنا «ناثان دوس» الفكر والحكمة بصنعة من يملك أدواته ومبتغاه الوصول لفهم العالم وإدارك البصيرة والحكمة. منحوتات لا ترى بالعين فقط بل تريد لمن يشاهدها أن يقرأها بروحه وبصيرته.. كمنحوتات المصرى القديم والتى يقترب منها ليربط الماضى بالزمان الآتى ببحث جاد فى مواصلة المعرفة، لا سيما - التاريخ القديم - تدعو بجدية للبحث عن أسرار الفن المصرى بحرفية متقنة وضربات أزميل يستخرج بها كنوز الحضارة والتاريخ.
حسن كامل.. حارس الحضارة
حين تحدث الحكيم «خيتى» مخاطبًا ابنه «بيبى» أوصاه بتقدير الكتابة والنحت والعمل بهذه المهنة إن استطاع، فليس كل شخص يستطيع الكتابة ولا كل إنسان يستطيع أن يكون نحاتًا، فالمبدعون- كما ذكر «خيتى»- ليس لهم رؤساء ولكن يبدعون من خلال خيالهم وما تعلموه من حكمة. وبنظرة عن قرب لأعمال د. حسن كامل - أستاذ النحت بكلية التربية الفنية - جامعة حلوان - نبصر خيالاً مبدعًا يحوى كل تفاصيل الفن المصرى القديم، «فهو الحارس» على حضارة وطن عريق سجله بمنحوتات تحمل رسالة الفن والإبداع بأصالة الأجداد وبصمة فنية ذاتية متفردة تلمحها دومًا فى أعماله التى تنوعت بهيئات مختلفة سواء هيئة بشرية أو طيور أو حيوان ولا غرابة أن تكون «اللوتس» عنوانا لأحد معارضه والتى يؤكد بها هويته الفنية لموضوعات ألفناها فى الفن القديم بفكر وحداثة متجددة، ولا ننسى مع ذلك طبيعة عصره فنراه يجسم سيدة الغناء العربى أم كلثوم كزهرة لوتس مصرية وتجريد حداثى لزهرة اللوتس المتعارفة ليستخرج لنا «خبيئة» عصرية يسجل بها أعمالا لا تتواصل مع أعمال الأولين تتماشى مع التوازن بين المادة والفكرة التى يطرحها.
بخامات صلدة يشكل لنا «كامل» منحوتاته القوية والتى يصنعها بنعومة وحساسية راقية ببساطة وتقنية رفيعة، وكأنه يرى ما يريده داخل الكتلة المسمطة ويزيل فقط ما حولها ليحرر منحوتته مما حولها من قيود. يعيد الفنان الدكتور «حسن كامل» أمجاد أجداده المصريين القدماء ويسير على دربهم ويهتدى بهداهم ويكشف لنا ما خفى من جمال وروعة مستلهما بالعظمة وبتاريخه الحضارى والتراثى الخالد. يقول الفنان «فى كل مرة أزور موقعًا عتيقاً، أشعر وكأننى أعود إلى المنزل، بصفتى نحاتا، أجد إلهاما لا نهائيا فى الفن المصرى القديم إنه جزء عميق من روحى وعملى».