شهدت السنوات الأخيرة حضورا متزايدا للنحت المصري القديم كمصدر إلهام لعدد من أكبر فنانى العالم، حيث ظهرت دراسات حول الخلفية الفنية المصرية المسكوت عنها طويلا لعدد من نحاتى الغرب، والذين كانت تماثيل الفراعنة مصدر إلهام لأعمالهم، وهو ما تجسد في فعاليات مثل معرض «جياكوميتي وقدماء المصريين» بالتعاون بين معهد «جياكوميتي» ومتحف اللوفر فى صيف عام 2021، ومعرض «حلم مصر» الذي أقامه متحف «رودان» فى فرنسا عام 2022. ◄ اليونان القديمة أول من تأثر بالنحت المصري في تماثيل «كوروس» ◄ الفن المصري يهيمن على إبداع البريطانى هنرى مور والروسي فلاديمير تسيفين ■ إعلان معرض جياكوميتي ومصر القديمة من بين فنون وإبداعات البشرية على مر العصور، تقف التماثيل المصرية شاخصة بحضور طاغ، كأنما تهمس لنا بأسرار خفية من عالم الأبدية، أو تخبرنا بحقيقة تتجاوز المعتقدات الدينية المتغايرة إلى رؤى كونية. وهى تكشف عن مهارة إعجازية لنحاتيها فى تطويع أقسى الأحجار، وبدقة لا تزال تحير العالم حول التقنيات المستخدمة فيها. ورغم مرور آلاف السنين، بقيت مصدر إلهام لعديد من فنانى الشرق والغرب ممن أسرتهم صلابة الكتلة، وعمق الرمزية، والحلول الجمالية التى جعلت من هذا الفن تراثا خالدا للمصريين وللإنسانية. ◄ مثالية يمزج النحت المصرى بتوازن بين المثالية والواقعية، متعمقا فى الجوهر الأبدى، ومصورا الآلهة والملوك بأجساد شابة فى عالم خالد. ولم يصور النحات المصرى ما رآه، بل ما عرف أنه موجود، وفقا ل»هاينريش شيفر» فى كتابه «مبادئ الفن المصري». وتتميز التماثيل المصرية بالرصانة والتناظر، والضخامة المهيبة، والوجود الدائم، حيث التمثال وعاء ل«كا» روح القوة الحيوية، وفقا ل«جون رومر» في كتابه «تاريخ قدماء المصريين». كذلك تميزت المنحوتات بالصلابة المحسوبة التى ضمنت بقاء العمل مع الزمن، وعززت الشعور بالكتلة، فضلا عن الانسجام الهندسي، وفقا ل»روبنز جاى» فى كتابه «الفن المصرى القديم». كما وصفه المؤرخ الفنى «يوهان ويكلمان» بالبساطة النبيلة والهدوء الخالد العميق والثقة غير المترددة، والتى جسدتها تماثيل مثل «خفرع» و«رع حتب» و«نفرت». وبرزت البراعة فى نحت أصعب الأحجار كالجرانيت والديوريت والكوارتزيت. ■ من معرض جياكوميتي ومصر القديمة ورغم جديتها لكن تلك التماثيل نقلت مجموعة من التعبيرات والمشاعر كالمثالية الملكية الراسخة فى تمثال خفرع، مع صقر حورس خلف رأسه، كذلك تجسدت اليقظة الذكية للكاتب الجالس مع استرخاء، وواقعية أكبر فى شكل الجسد. وجسدت تماثيل «حتشبسوت» العزيمة، وظهرت المودة الزوجية فى عدد من التماثيل مثل «منقرع وزوجته»، بطريقة لا مثيل لها فى الحضارات القديمة. ونجحت جميعا فى تحقيق وحدة جوهرية بين الشكل والمضمون. ولم يخرج النحت عن المثالية فى تصوير الملوك إلا فى عهد إخناتون. ومن المثير أن حافظ الفن على خصائصه طوال ما يزيد على 3000 سنة، تطور خلالها ببطء شديد. كل تلك الخصائص مع اللغة الفنية والتجريد الهندسى، قدمت للفنانين مجالا واسعا للاستلهام بدأ فى اليونان القديمة من خلال تماثيل «كوروس» المبكرة، والتى يرجع أغلبها للقرن 6 ق.م. ◄ اقرأ أيضًا | حكايات| «تمثال خفرع بالديوريت» رمز العظمة الملكية في الدولة القديمة ■ نحت بارز جانبي لليون باتيستا ألبيرتي من عصر النهضة تأثرا بالفن المصري ◄ شغف رغم انشغال فنانى عصر النهضة بإحياء التراث الكلاسيكى، لكن ظهر استلهام النحت المصرى، ولو بشكل خافت، ضمن حضور مصر فى ثقافة ذلك العصر بوصفها أرض الحكمة الأولى. وبالتزامن مع إعادة نصب المسلات المصرية فى روما كرموز للقوة والسلطة، تأجج الهوس بالنحت المصرى. وذكر المؤرخ الإيطالى من فلورنسا «جيوفانى باتيستا أدريانى» القرن 16 فى مقدمة الطبعة الثانية من تاريخ «جورجيو فاسارى» أن روما ضمت بالإضافة لمسلتين مصريتين وهرمين، منحوتات لأسود مصرية، ضمن هوس متصاعد بكل ما هو مصرى. وبعد الحملة الفرنسية على مصر، ظهرت تماثيل تستلهم موضوعات مصرية ضمن إطار كلاسيكى جديد، مثل تمثال «موت كليوباترا» لإدمونيا لويس (1876)، والذى عكس انبهارا بالقصص المصرية. ومع بزوغ الحداثة فى أواخر القرن التاسع عشر، تحول الاهتمام من السطح إلى جوهر النحت المصرى. وبدأ الفنانون، فى تمردهم على التقاليد الأكاديمية والمحاكاة الواقعية، يبحثون عن مصادر إلهام بديلة فى الفنون غير الغربية. وجدوا فى النحت المصرى ضالتهم، حيث التجريد، والتركيز على الكتلة والشكل الأساسى، مع الوضعية الأمامية، وإحساس الثبات والخلود. وهو نقيض للتركيز الغربى على الحركة واللحظة العابرة والواقعية التشريحية. ◄ أحلام رودان بدأ النحات الشهير «أوجست رودان» (1840-1917) باقتناء المنحوتات المصرية منذ تسعينيات القرن 19، وجمع العديد من القطع من تجار الآثار المصرية الذين كانوا منتشرين فى باريس. وضمت مجموعته فى البداية عددا من التماثيل الصغيرة للآلهة، و«الأوشابتى» الجنائزية، ومع مرور الوقت، توسعت مجموعته لتشمل قطعاً أكبر وأكثر أهمية، مثل الأقنعة الجنائزية، بالإضافة إلى تماثيل أكبر حجما ولوحات جدارية. وهو لم يجمعها بمنظور عالم آثار أو مؤرخ، ولكن «كفنان» ومتذوق، وفقا ل«بينيديكت جارنييه»، أمينة معرض «حلم مصر» الذى أقيم فى متحف رودان بباريس (أكتوبر 2022 - مارس 2023) وضم أكثر من 400 قطعة ما بين منحوتاته ورسومه وبعض من مقتنياته من النحت المصرى. وسعى المعرض لاستكشاف علاقته العميقة بمصر التى كانت أشبه بالحلم. وكان اهتمامه منصبا على كيفية تعامل النحاتين المصريين القدماء مع الكتلة والشكل، والطريقة التى جسدوا بها الجسد البشرى. وأيضا اللغة البصرية القوية والمختلفة عن التقاليد الأوروبية. ورغم أنه لم يقلد الأسلوب المصرى بشكل مباشر فى أعماله الأكثر شهرة مثل «المفكر» أو «القبلة»، إلا أن دراسته وتأمله للقطع المصرية تركت بصماتها على رؤيته الفنية وتطوره فيما يتعلق بفهم الكتلة والأشكال المبسطة والمختزلة، كما هو واضح من بعض دراساته ورسومه. كما قدم النحت المصرى له نموذجا مختلفاً لتمثيل الجسد البشرى، يتسم بالثبات والوضعية الأمامية والهيبة. ورغم شهرته بالتقاط الحركة والتعبير العاطفى، إلا أن دراسته للنحت المصرى منحت بعض أعماله إحساساً بالديمومة والقوة الكامنة. كذلك تأثر بالضخامة، وتبسيط الجسد البشرى. وسمى تمثاله لبلزاك «أبو الهول الفرنسى». ◄ نظرة جديدة خلال صيف 2021 أقام معهد «جياكوميتى» بالتعاون مع متحف اللوفر معرضا تناول علاقة الفنان الشهير بمصر القديمة وخصوصا فن النحت. وتم عرض بعض أعماله إلى جوار منحوتات مصرية استلهمها، وأغلبها من مقتنيات «اللوفر». ووفقا للمعهد فقد كان «جياكوميتى» منبهرا بالنحت المصرى، واستلهمه فى منحوتاته ورسومه. وأشار المعهد فى موقعه إلى أن المعرض يعتبر نظرة جديدة على فن «جياكوميتى» وعلاقته بالفن المصرى الذى وصف بأنه مصدر مجهول للفن الحديث. النحات السويسرى الشهير «ألبرتو جياكوميتى» (1901-1966) يعتبر أحد أبرز الأمثلة على التأثير العميق للنحت المصرى على الحداثة. وبدأ افتتانه بالفن المصرى منذ شبابه، وتعمق خلال زياراته المتكررة لمتحف اللوفر، وهو ما لعب دورا محوريا فى تطوره الفنى، خاصة بعد قطيعته مع السريالية. لكنه على الأغلب لم يقم بتقليد الأسلوب المصرى، ولكن استلهم منه حلولا ومعالجات، خصوصا فيما يتعلق بتمثيل الشكل البشرى فى الفراغ، بالوضعية الأمامية الصارمة، والنظرة الثابتة، والإحساس بالسكون الأبدى. لكن فى حين جسدت التماثيل المصرية حضورا شاملا متصلا بالعالم، فسر هو ذلك السكون على النقيض كتجسيد لعزلة الإنسان، وهشاشة حضوره فى الكون. ورغم أن أعماله الشهيرة تبدو كشخوص نحيلة، ومستطيلة، وكأنها على وشك أن تتلاشى، على عكس المنحوتات المصرية، لكنها هى الأخرى تبقى صامدة، وحاضرة، ومختزلة من حيث الشكل على غرار النحت المصرى القديم. المعرض المشار إليه، أوضح أبعادا جديدة لذلك الاستلهام، وصلت إلى حد الاقتباس فى بعض الحالات. ◄ إلهام بلا حدود لم يخف النحات البريطانى «هنرى مور» (1898-1986)، أحد عمالقة النحت فى القرن العشرين- إعجابه وتأثره العميق بالنحت المصرى. وقد عرف عنه تردده الدائم على المتحف البريطانى لدراسة المجموعات المصرية، حيث وجد فى ضخامة وتكامل الكتلة، خصوصا فى تماثيل الدولة القديمة، ما يتوافق مع رؤيته حول «الصدق مع المادة» وقوة الشكل الكامن فيها. ويظهر هذا التأثر فى أعماله الضخمة ذات الأشكال العضوية المجردة، التى تحتفى بكتلة الحجر أو البرونز، وتحافظ على إحساس بالثبات والاتصال بالأرض. ورغم تطويره للغته النحتية الخاصة، التى تركز على العلاقة بين الشكل والفراغ وعلى موضوعات الأمومة والشكل الإنسانى المستلقى، إلا أن أصداء القوة والصلابة للنحت المصرى تظل حاضرة فى أعماله. ويمتد التأثير أيضا إلى فنانين معاصرين، كالنحات الروسى «فلاديمير تسيڤين»، والذى يستلهم بوضوح السمات التشكيلية والفنية للنحت المصرى خاصة فى أعماله من النحت الخزفى. ويظهر ذلك فى تركيزه على الكتلة، والتبسيط الهندسى، والإحساس بالثبات والهيبة. وتمثل أعماله مثالا على استمرار استلهام الفن المعاصر للإرث الفنى المصرى القديم. كذلك يظهر الأثر على نحاتين حداثيين مثل «كونستانتين برانكوزى» فى تبسيطه العميق للأشكال وصولاً إلى الجوهر. وكذلك بعض أعمال «باربرا هيبورث» التى تشاركت مع «هنرى مور» الاهتمام بالكتلة والفراغ واستلهام الأشكال القديمة.