كنت أقرأ رواية عن قرية يعيش فيها الأموات جنب الأحياء، وكان فى الرواية طير يتكلم كالإنسان. الغريب أننى لم أستغرب أبدًا، ولم أطرح سؤالًا عن مدى معقولية ما يحدث. فقط قرأت وصدّقت وكأننى فى عالم عادى جدًا. فى تلك اللحظة، شعرت بسحر الأدب الحقيقى، قدرته على جعلنا نصدق أشياء غير معقولة ونعيش فى أكاذيب جميلة نراها حقائق تامة. الحديث عن الخيال اليوم مألوف لأنه جزء من الخطاب اليومى، ومع ذلك، تحديد معناه بدقة مهمة صعبة، لأن الفهم الشائع يميل إلى اعتباره مجرد هروب من الواقع أو ظاهرة هامشية، بينما الواقع يكشف أن الخيال أكثر تعقيدًا ويتشكل ويتغير ويتأثر بالسياسات الاجتماعية والفنية ويعكس المحيط الذى يحيط بالفرد والجماعة على حد سواء. الخيال قدرة أساسية من قدرات العقل، وهو ما يعكس المعنى الفلسفى القديم المتمثل فى القدرة على تكوين الصور الذهنية. هذا المعنى القديم قدم الفلسفة، عرف تطورًا فى القرن الثامن عشر حين استثمرته الفلسفة الرومانسية فى نظريات فنية ليصبح الخيال أساس الإبداع ويتضمن عناصر تسمح بالتعرف على العمل الفنى والاعتراف به فى الوقت نفسه. الخيال الإبداعى حافظ على جوهره الفلسفى، واتسع ليشمل مجالًا جديدًا لم تعرفه المجتمعات القديمة، ويتصل بالوعى الذاتى. أسس إيمانويل كانط فلسفته على أن الخيال هو القدرة على تكوين الصور الذهنية وتشكيل فهمنا للواقع، بينما رأى فلاسفة مثل شيلنج فى الخيال انعكاسًا لروح العصر، يتشكل من خلال صراعات وتفاعلات فنية واجتماعية، ليصبح نافذة على روح الجماعة والزمان معًا وعلامة على الدينامية الإنسانية التى لا تعرف السكون. سحر الأدب ينشأ من هذه الاستعمالات الفلسفية للخيال، فالخيال الحر انعكاس لقدرة إنسانية عميقة تتيح خلق عوالم لا تقلد الواقع، وتعيد صياغته. منذ قرون تحكى المجتمعات قصصًا، لتهرب من الواقع أحيانًا أو لفهمه بطريقة مختلفة. حين نقرأ قصة عن مدينة تطفو فوق السحاب أو عن زمن يعود إلى الوراء، لا نبحث عن المنطق قدر ما نبحث عن شعور داخلى بأن هذه القصص مهما بدت غريبة تعكس شيئًا صحيحًا عنا. القارئ يكمل القصة حين يصدقها، فالكاتب يخط الكلمات ونحن نحولها إلى صور ومشاعر حية. هذا جوهر الخيال الحر، كتابة تجعلنا نشعر أنه حقيقى. أرسطو فهم هذه الفكرة، فرأى أن نجاح العمل الفنى لا يقتصر على مطابقته للواقع لكن يعتمد على قدرته على محاكاة «الواقع المحتمل» وتأثيره فى الناس. نحن نحب الأدب لأنه يعيد رسم الحياة بطريقة تجعلنا نفهمها أو نهرب منها. ما نقرأه غالبًا ليس حقيقيًا، لكنه أصدق من الواقع، فالشخصيات التى لا وجود لها تشبهنا أكثر مما نود الاعتراف، والأماكن الوهمية أقرب إلى ذاكرتنا الداخلية مما هى عليه فى الواقع. الخيال شكل محور المدارس الفنية الحديثة فى القرن العشرين، وفى ستينيات القرن الماضى فى الولاياتالمتحدة برزت قضية حقوق التعبير الفنى وأعيد تقييم العلاقة بين الفن والمجتمع، ليصبح الخيال عنصرًا أساسيًا فى النقاش الاجتماعى والنفسى والأخلاقى والسياسى والفلسفى، وبخاصة فى الفلسفة الجمالية عند مفكرين مثل هنرى برجسون الذى ركز على الحدس، وجورج لوكاتش الذى ربط الفن بالواقع الاجتماعى. توسع استخدام الخيال فى إنشاء أقسام أكاديمية لدراسة الفن المعاصر، وانتشر فى مجالات بحثية متنوعة يصعب حصرها، بينما لعب جورج هربرت ميد دورًا محوريًا فى إبراز الخيال داخل العلوم الاجتماعية، موضحًا أن الخيال علاقة تتشكل من خلالها أدوار الأفراد فى التفاعل الاجتماعى. ومن هنا نشأت النظريات الجوهرية التى ترى أن الخيال ثابت، والنظريات البنائية التى تعتبره عملية متغيرة نسبيًا، مبنية على عناصر ثابتة وأخرى متغيرة. الخيال أداة أساسية لفهم مكانة الفرد داخل المجتمع. يستخدم الأفراد خيالهم لتعريف أنفسهم وأنشطتهم وتمييزهم عن الآخرين، ويستعمله القادة الفنيون لإقناع الناس بفهم أنفسهم ومصالحهم بطريقة معينة. عبقرية الأدب تظهر فى تجاوزه للواقع وخلق عوالم غير موجودة لكنها أقرب إلينا من العالم الحقيقى. الخيال الحر حاجة إنسانية. به نواجه الغموض ونسعى لإجابات لا تمنحها الحياة اليومية. إنه مساحة للوعى ومرآة للعصر وأداة للإبداع والتفاعل. فى النهاية هو اللغة التى يقرأ بها الإنسان نفسه والعالم ويعيد تشكيلهما معًا. ربما لا يهم إن كانت هناك قرية يعيش فيها الأشباح، المهم أن نصدق الحكاية حين تروى. الكلمة حين تقال بإتقان تصبح أقرب للحقيقة من الحقيقة نفسها.