أحمد الزناتى مع نهاية السنة طُلب الكتابة عن أفضل ما قرأت خلالها، فلم أجد أروع من هذا الكتاب على اتساع أبوابه وضخامته، وإن كنت قد بدأت فى قراءته السنة قبل الماضية، ومضيتُ فيه بتمهل شديد. الكتاب لروائية ومفكرة إنجليزية أحب كل ما كتبت وكل ما قالت، وقد ترجمتُ شيئًا من رسائلها الشخصية فى أحد كتبي، اسمها إيريس ميردوخ، والاسم معروف للقارئ بفضل ترجمات المرحوم فؤاد كامل، وإن لم يُترجم من مجموع أعمالها إلا النذر اليسير. قد يبدو للوهلة الأولى أن مقالات الكتاب متشعبة أو لا نهائية، وأنها تفتقر إلى خيط فكرى واحد ينتظمها، العنوان نفسه غريب Existentialists and Mystics: Writings on Philosophy and Literature وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التى جُمَعت لأول مرة فى مجلد واحد للكاتبة. لا أحبذ ترجمة Mystics بمتصوّف/صوفى، فهى ترجمة متسرعة، لأن للكلمة دلالات متصلة بالفكر الغربى المسيحى، والأقرب هو روحاني/باطنى، وهى نفسها وجهة نظر المفكر رينو جينو (الشيخ عبد الواحد يحيى) فى كتابه نظرات فى التربية الروحية، حيث فرّق بين الميستيسيزم والتصوّف. تصدير الكتاب يحمل توقيع العلّامة جورج شتاينر (وهو من هو)، الذى يقول: إن الفلسفة والأدب لم ينفصلا طوال المسيرة المهنية لإيريس ميردوخ، فقد درَّست الفلسفة فى أكسفورد لأكثر من خمسة عشر عامًا، ونشرت مقالات وأبحاثًا ومراجعات فى الفلسفة الأخلاقية والجماليات وتاريخ الفكر. يتضمن الكتاب تأملات عن أفكار كل من: ت. س. إليوت، سارتر، ألبير كامو، سيمون دو بوفوار، وإلياس كانيتى، وهايديجير وكيركجارد وغيرهم. فى اعتقادى تتمتع ميردوخ بميزة أساسية، وهى أنها لا «تستسهل» كتابة الأدب، بمعنى أنها ليست روائية «فاضية من جوا» بالتعبير العامى، تكتب لتسويد الأوراق، ولا تغترف من أقرب معين أمامها (التاريخ، الخيال المُفبرَك، الحوادث المبتذلة، موضة الكتابة عن المجتمع والمهمّشين، إلخ)، وكل الثيمات التى نُحتِت هنا وفى الغرب، وشبعت نحتًا، لكنها رائجة. فى رواية (البحر..البحر) كتبَت عن أدق مشاعر الرجال بحساسية فائقة تفوق قدرة أبرع الكُتاب الرجال فى التعبير عن أنفسهم، وفى العمل مشهد عبقرى لا أنساه؛ يجلس البطل على صخرة أمام البحر، وينام ليلة فيرى فيها شريط حياته فى مشهد حُلمى فانتازى عبقرى. وكذلك فى رواية (الأمير الأسود) تناولت قصة حب شائكة من منظور يُبرز موهبتها السردية، وصوّرت مشاعر زوجة مقموعة تتعرض للعنف العائلى تصويرًا لا يخرج إلا من امرأة مرّت بالتجربة نفسها، أو روائية حقيقية، هنا يتجلى دور التكوين المعرفى العميق فى أعمالها (والمفترض وجوده فى أعمال أى مشتغل بالأدب عمومًا)، حيث تكتب عن موضوعات إنسانية، متسلحة بدراسة عميقة للفكر الغربى، فقدمتْ ما أسميّه أدبًا يستحق أن يُلتفت إليه، وسأقصر كلامى فى السطور الآتية على مفهوم الحب بمعناه الأرحب وارتباطه بفكرة المعرفة ثم الخيال، وإخراج ميردوخ الكلمة من سياقها الضيّق ليشمل جوانب مهمة أشمل، وسأنطلق من عبارة ميردوخ العبقرية: «نحن نعيش فى عالم خيالى مصنوع من الوهم، ومهمة الكاتب الكبرى فى الحياة هى أن يجد الواقع». آمنَت ميردوخ بأننا قد لا نفلح أبدًا فى معرفة الواقع معرفة كاملة، إلا أن الحب قد يساعدنا فى العثور على علامات طريق منها، لأن الحب يُنبّهنا إلى الواقع كما هو موجود بعيدًا عن أنانيتنا، أما عن كيفية حدوث ذلك فسيبقى ذلك لغزًا، تتأمل ميردوخ الصدمة الوجودية الناجمة عن اكتشاف مدى جهلنا بأنفسنا، فنحن دائمًا منقسمون بين إرادتنا وشخصيتنا، بين الوعى واللا وعى، بين العقل والعاطفة، وبين العقل والغريزة، فيغزورنا شعور غير مريح أسماه الوجوديون اسم «القلق»، وقد استعملَتْ ميردوخ كلمة (Angst)، وهى مفردة ألمانية، معناها قلق وجودى لا مصدر له، وهو أحد المفاهيم التأسيسية التى قامت عليها فلسفة كيركجارد ومن بعده مارتن هايديجير، وقد تكلمتُ عن الفرق بينهما فى كتابى خدش عظم الحياة، حيث فهمتْ ميردوخ القلق بوصفه شعور الانزعاج التى ينتابنا إذ نكتشف الفجوة بين مُثلنا وطبيعتنا الحقيقية، وهى فجوة غالبًا ما تكون متجذرة فى اللاوعى، ثم تشير إلى عبارة هايديجير التى نقلها عن شيللنج: (إن قلق Angst الحياة يُخرج الإنسان عن طوره)، إذ قال لتلامذته فى المحاضرة: «أيها السادة: أرونى جملة واحدة بهذا العمق عند هيجل». تقول ميردوخ: «البشر مخلوقات شديدة التكتّم. ربما يُقال أحيانًا إن تلك الشخصية أو تلك الرواية مغرقة فى الخيال، وألا شبيه لها فى عالم الواقع، لكن الناس على أرض الواقع أشدَّ غرابة حالما نتعرّف عليهم، وهم يخفون حقيقة أمرهم، لأنهم يخشون من الظهور أمام الآخرين مظهر الأفراد أفراد غريبى الأطوار أو الصادمين، يسأل المرء: ماذا يكون الآخرون حقًا؟ ماذا يحدث فى عقولهم؟ ماذا يحدث فى بيوتهم؟ محالٌ بالطبع أن نعرف تمامًا ما يشعر به شخص آخر، وهذه هى تكلفة الوعى، ومن المستحيل كذلك أن ننقل للآخرين بشكل كامل ما يعنيه أن تكون أنت. من أصعب الأشياء التى نتعلمها فى الحياة هو أن القلب مثل ساعة، تجرى سريعًا لدرجة أنه لا تكاد ينجو من الكسر، نتعثر إذ نقع فى الحب، لنكتشف مرة بعد أخرى أننا نحتاج إلى وقت طويل لنعرف حقيقة البشر، ولنفهمهم، والفهم هو الاسم الآخر للحب، حتى دون خداع متعمد سيصدمنا البشر بتصرفاتهم، سيُفاجئوننا، وسيؤذونا، ليس بدافع من خبث متأصّل فى نفوسهم بالضرورة، بل بسبب نقص معرفتهم بأنفسهم، وهو ما يؤدى بهم على الدوام إلى مفاجأة أنفسهم، فى أغلب الأحيان، عندما يُخلف أحدهم وعدًا، يصاب الثانى بالصدمة، لأنه اعتقد أن الطرف الأول سيكون محل ثقته، ثم يكتشف أنه ليس أهلًا للثقة». فى ظنى الحياة كلها مشروع بناء ثقة، وهو الجانب الأعمق من كلمة (الحب)، الحبّ المتبادل هو الثقة المُتبادلة، والكُره نابع من غياب الثقة فى الذات أولًا، ثم فى الآخرين، وكل علاقة أصيلة هى علاقة مبنيّة على الثقة. ومن اللافت للنظر أن النصوص الدينية تتكلم دائمًا عن فكرة الحب (بالمعنى الأعم الأشمل للكلمة)، من منطلق يشمل فى أبعاده المعانى كلها (المعرفة والثقة والعطاء). فى النص القرآنى الكريم نقرأ: (فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ – المائدة 54)، وفى مقدمة كيمياء السعادة لأبى حامد الغزالى مثلًا نقرأ: «أعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى ومحبته هو معرفة النفس كما قال سبحانه: «سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»، وفى تفسير ابن عباس لآية (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون) بمعنى إلا ليعرفون، وفى تفسير الغزالي: معرفة الله تؤدى إلى محبّته. وفى رسالة يوحنا الأولى نقرأ: «وَنَحْنُ قَدْ عرفنا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِى للهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِى الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِى اللهِ وَاللهُ فِيه). فى تفسير السعدى لآية سورة المائدة: (يحبونه) بمعنى يعرفونه، فلا محبة من دون معرفة، والمعرفة طريق إلى الثقة، وفى تفسير آية الإنجيل تصديق/ثقة بالمحبة الإلهية. إذن، لا ينفصل الحب عن المعرفة ولا عن الثقة (عند الصوفية المسلمين حب الله ومعرفته تؤدّيان بالضرورة إلى التوكّل على الله = الثقة بالله). وفى سورة طه (وألقيتُ عليك محبة منى – الآية 39)، يحمل الحب الإلهى معنى العطاء والمنة، حيث يفسّر الآيةَ عبد الله بن عباس بقوله: حببتك إلى عبادى، وقال السعدي: حببتك إلى خلقى، وقال آخرون: بل معنى ذلك: حسّنتُ خلقك، وهى كلها معانى تفسر الحب/المحبة فى اتجاه العطاء والمنة والرحمة. والحقيقة أننى كتبت الفقرة السابقة قبل الوصول إلى صفحة تقول فيها ميردوخ (صفحة 344): «ليست الصلاة مجرد طلب شيء من الرب، بل هى ببساطة نوع من الانتباه إلى الله، وهى شكل من أشكال الحب. ويترافق مع ذلك مفهوم الخير الإلهى، أى تلك المساعدة الإلهية التى تعين الإنسان وتتفوق على القيود الطبيعية للشخصية. فما هو هذا الانتباه؟ وهل يمكن لأولئك الذين لا يؤمنون بالله أن يستفيدوا من مثل هذا النشاط؟» فى الفقرة السابقة تأكيد لفكرتى حول اقتران مفهوم الحب بالمعرفة بالثقة والمِنّة والرحمة. لنعد إلى عبارة ميردوخ: (سيؤذينا الآخرون، لا بدافع من خبث متأصل فى أنفسهم بالضرورة، بل بسبب نقص معرفتهم بأنفسهم)، فى الكلمة مفتاح تفسير كلمة الحب (أو المعرفة والثقة فى قاموسي)، يغيب الحب إذا رجحت كفة الجهل، ولعل سبب إخفاق العلاقات الإنسانية والنفسية والعاطفية فى عالَم اليوم هو غياب معرفة كل طرف بالآخر، فى أحد كتبى القادمة عن سيرة فيلسوف غربى مرموق، يتكلّم الرجل عن طفولية مشاعر الحب بين عشاق اليوم، ويقول: إننا نرى ذلك فى الأطفال فقط، لأنها الطريقة التى يتصرف بها الصغار، إذ يعتقدون أن الوالدين قادران على قراءة أفكارهم. ويستغرق الأمر وقتًا طويلًا لإدراك أن الطريقة الوحيدة التى يستطيع بها إنسان ما معرفة ما يعتمل فى نفس شخص آخر هى أن يشرح له، وأن يصدقه القول؛ بعبارة أخرى: عندما نحب أشخاصًا، ويبادلوننا حبًّا بحب، يكون الاستياء عظيمًا عندما يخطئون فى بعض الأمور، فالافتراض الشائع فى العلاقات هو أن المحبوب يجب أن يعرف حتمًا ما يدور فى ذهنى، دون أن أخبره بذلك. فإذا احتجتُ إلى الشرح، فمعنى ذلك أنه لا يحبنى بحق. لنقرأ السطور التالية من كلام ميردوخ عن الحب، ولها علاقة بنهاية المقالة: «ليس الحب مجرد عاطفة أو شعور، بل هو عملية واعية تستلزم الفهم الكامل للآخر [المعرفة مرة ثانية]، ويتطلب أن ننظر إلى الشخص الآخر نظرة موضوعية، وأن نَقْدر على النظر إليه متجردين من مشاعر الأنانية أو التوقعات الشخصية، لا يمكننا أن نحب شخصًا آخر حقًا إلا إذا كنا مستعدين للنظر إليه كما هو، أى بقبول تام لتفاصيله وأعماقه وكلما زادت قدرتنا على فهم الآخر بصدق، ازداد حبنا نقاءً». «الحب هو عملية عناية متواصلة يتطلب الحب أن نكون منتبهين انتباهًا دائمًا لما يحدث فى حياة الآخر، وأن نتعامل مع ظروفه وأحاسيسه بحذر واهتمام. هذا النوع من الحب لا يتطلب تقديم التضحيات الجسدية أو العاطفية بقدر ما يتطلب أن نكون حاضرين فى اللحظة، منتبهين، وأوفياء لما هو حقيقى، والحب هو القدرة على النظر إلى الآخر بكل تعقيداته، دون أن نتوقع منه أن يكون شيئًا آخر غير ما هو عليه.» يتطلّب الحب القدرة على التضحية بنظرتنا الخاصة لأنفسنا. فى الحب علينا أن نكون مستعدين للنزول عن منابرنا الشخصية وأن نرى الآخر كما هو بكل عيوبه وميزاته. والحقيقة أن هذه التضحيات، التى تبدو مؤلمة أحيانًا، هى التى تمنح الحب قوته وصدقه. يعنى الحب الحقيقى أن نكون مستعدين للقبول بالآخر كما هو دون محاولة تغيير جوهريته.» وكأن ميردوخ تردد مقولة القديس أوغسطين (كن مُحبًا وافعل ما شئت)، والجدير بالذكر أن حنا آرندت كتبت رسالتها للدكتوراة عن مفهوم الحب عند القديس أوغسطين، وتُرجم العمل إلى العربية، لكنى لم أفهم سطرًا من الترجمة! ثم تشير ميردوخ إلى مفارقة مؤداها أن أوهامنا عن أنفسنا وعن الآخرين هى من نسج الخيال، فى حين أن الرؤية الواضحة هى من صنيعة الخيال الإبداعى، فتقول: «الخيال، على عكس الفانتازيا، هو القدرة على رؤية الشيء الآخر، ما يمكن أن نسميه، باستخدام تلك الكلمات القديمة، الطبيعة، الواقع، العالم... الخيال هو نوع من الحرية، قدرة متجددة على إدراك الحقيقة والتعبير عنها»، وقد أعجبنى استكشاف ميردوخ العلاقة بين الخيال ووجود الإنسان الفردى، حيث يرى الفلاسفة الوجوديون (المفارقة أن ميردوخ عندها كوكتيل ماركسى فرويدى وجودى روحانى غريب عجيب الله أعلم كيف امتزج!)، أن الإنسان يجب أن يواجه قلقه من خلال اختياراته الفردية، لكنها تضيف أن الخيال فى الأدب والفن، قد يكون أداة للتغلّب على هذا القلق، وذلك من خلال استكشاف طرق أخرى للوجود، من بينها: الكتابة الصادقة. تطرح فى العديد من كتاباتها فكرة أن الخيال يساعد فى رسم حقيقة الآخرين رسمًا أعمق وأصدق. هذه الفكرة ترتبط بالفلسفة الوجودية التى تؤكد ضرورة الاهتمام بالآخرين وفهم تجاربهم. فالخيال قادر على أن يلعب دور وسيلة من شأنها أن تعين الفرد على أن فهم تجارب ووجهات نظر مختلفة والتعاطف معها. تقارن ميردوخ بين الفلسفات الوجودية والنزعة الروحانية، مشيرة إلى أن كلا منهما يتعامل مع الأسئلة العميقة حول الوجود الإنسانى والمعنى، ولكن الروحانية تنطوى على نوع من الفهم العميق الذى يُحقق من خلال الخيال والتجربة الروحية، ولنقرأ الفقرتين التاليتين من كلام ميردوخ: «ليس الإبداع عملية جمالية أو فكرية وحسب، بل هو عملية أخلاقية. يواجه الفنانون مسئولية أخلاقية تجاه أعمالهم، حيث يجب عليهم توظيف خيالهم توظيفًا يخدم الإنسان؛ فمن خلال التعبير الإبداعى يكتسب الفن بعدًا أخلاقيًا، حيث يتناول قضايا مثل المعاناة والألم، مما يسمح للفنان بالتفاعل مع العالم من منظور عميق وأكثر إنسانية». «الخيال هو الوسيلة التى تتيح لنا مواجهة الحياة وفهمها فهمًا أعمق، وهو لا يُعد وسيلة هروب من الواقع، بل أداة لفحصه وتحليله، فى الأدب يتحول الخيال إلى أداة استكشاف تمنح الأفكار المجردة شكلاً ملموسًا، وتحوّل المفاهيم الفلسفية إلى تجارب إنسانية نعيشها ونتفاعل معها. يذّكرنى الكلام السابق بحكاية لا أذكر أين قرأتها، أو ربما كان حُلمًا راودنى من زمن بعيد عن فيلسوف، لنفرض مثلًا أنه من القرن الثامن عشر كتَبَ رواية يتيمة شذرية غير مكتملة. وعقب وفاته تولّت ابنته طباعة أعماله غير المنشورة. وقالت الابنة فى مذكراتها إنها لا تعرف هل بطلة الرواية المقصودة فى العمل هى أمها (المتوفاة فى حياة أبيها)، لأن البطلة تحمل كثيراً من صفات أمها، أمْ أنها امرأة أخرى أحبها الأب سرًا، لأنه يرسم أحيانًا صفات أخرى بعيدة عن أمها، التى أحبّها الأب حبًا جمًا. إمعاناً فى التخفى كتب صاحبنا الرواية على هيئة مناقشات فلسفية ورسائل وشذرات وحوارات غامضة مع البطلة، تقول أشياء وتخفى أخرى. الابنة طاش عقلها وتبلبلت لأنها تريد أن تعرف، لكن الأب كتب الرواية بخبث شديد يشى بالشيء وعكسه فى آن واحد، قبل النشر بعثت الابنة بمخطوط الرواية إلى أصدقاء أبيها فى ألمانيا، أملًا فى الخروج بأى معلومة، لكن الجميع قرأها ولاذ بالصمت، وكأنهم يتواطأون على دفن سر مات مع الأب. لم يجبها سوى صديق أبيها الأقرب وكاتم أسراره برسالة موجزة. قال: إنه من الأفضل نسيان الأمر برمته، لأنها تفكر بمنطق عاطفى، بمنطق ابنة تنهش قلبها الغيرة على أبيها، بينما كان أبوها يفكر بخيال فيلسوف روائى، قال صديق الأب: «ابنتي: لن تصلى إلى شيء، هذه صورة طارَدها أبوكِ طوال حياته، لا أكثر».