د. سلمى مبارك «مدن سينمائية» كتاب استثنائى فى قدرته على الإبحار السلس عبر نظم معرفية مختلفة، وصهرها فى بوتقة، تنساب منها المعارف والنظريات فى الفلسفة والعمران وعلم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ والأدب، لكى تصب فى تحليل الفيلم السينمائي. يستخدم الكاتب فى ذلك أسلوبا يحمل من العمق والرصانة المعرفية والدقة العلمية، ما يحمله من شاعرية يذوب فيها قلم الكاتب مع المادة التى يقدمها. التحدى الذى يتصدى له الكتاب هو معضلة المرور من تخصص إلى تخصص وما يولده هذا العبور من إشكاليات منهجية. المؤلف أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران يقدم كتابا بعنوان «مدن سينمائية»، أى ينتقل من مجاله إلى أرض مغايرة. هذا الانتقال يطرح أمام أى باحث إشكاليات تتعلق أولا بنقص معارفه فى المجال الذى يقع خارج التخصص، ومن ثم ضرورة أن يخوض مغامرة الولوج إلى مجال معرفى يبتعد به عن ساحته التقليدية. المعضلة الثانية تتعلق بالمنهج. والسؤال فيما يتعلق بهذا الكتاب: ما هى الأدوات المنهجية التى تسمح بدراسة الظاهرة السينمائية من منظور ينطلق من أرضية علمية عمرانية؟ هل ننحى المنظور السينمائى جانبا ونكتفى بالمنظور العمراني؟ هل يمكن دراسة ظاهرة فنية مثل السينما مع تجنب التعرض لخصوصيتها؟ هل تصلح أدوات النقد والتحليل العمرانى وحدها لمقاربة الأفلام؟ وإذا أجبنا بلا على هذه الأسئلة - كما يفعل نزار الصياد فى كتابه، حيث يتعامل مع أدوات الفيلم السينمائى ولغته عندما يحلل المشاهد واللقطات ويتوقف عند المونتاج والموسيقى التصويرية ويصيغ الخطاب الفيلمى ويرسم خطه السردى ... إلخ. - فكيف يوائم بين المنظور العمرانى والمنظور السينمائي؟ يرد الكتاب على هذه الأسئلة بقدر عال من الألمعية المبنية على خبرة كبيرة اكتسبها أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران بالفن السابع. خبرة نرى فيها أولا ولعه بالسينما كسينفيل حقيقي، يجد متعة طاغية فى مشاهدة الأفلام وذلك منذ نعومة أظفاره، مع فتنة المتخصص فى تخطيط المدن بقدرة الأفلام على الخلق بالخيال، خلق فضاءات جديدة، ثم قناعة المؤرخ العمرانى بمقدرة الفيلم على التوثيق. حدث التلاقح بين الشغف بالمدينة والشغف بالسينما من خلال مجال ما يعرف اليوم بمجال البحث الإبداعي، وذلك عندما استخدم نزار الصياد الوسيط السينمائى لعمل أفلام - وهى منتج إبداعى - هدفها التأريخ لعمران القاهرة، بالاعتماد على أدوات علمية سواء بهدف التدريس لطلابه، أو العرض فى التلفزيون الأمريكي، كما حدث فى فيلمه «عمارة الطين». كانت تلك البدايات هى المرحلة التمهيدية التى ولدت فكرة هذا الكتاب... ينطلق المؤلف من مبدأ أساسى وهو عدم إمكانية التمييز بين الواقع العمرانى والواقع المتخيل الذى يصنعه شريط السينما، وفى قول آخر إن واقع المدينة وتمثيلها السينمائى ما هما إلا وجهان لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما. تلك الأفكار تتحدى الكثير من تصوراتنا الثابتة عن الفصل بين الواقع والخيال، وبين العلمى والمتخيل، وعن وجود الصورة المستقل التى قد تنقل الواقع لكنها تظل منفصلة عنه. لدحض هذه الأفكار ألجأ إلى قصة قصيرة يسوقها المؤلف تحكى عن فتى هندى صغير اعتاد أن يرى تمثال الحرية فى الأفلام الهندية عند جسر بروكلين، وهى حيلة مونتاجية للإشارة إلى أن الأحداث تدور فى نيويورك. لكن هذا الفتى عندما زار نيويورك الحقيقية ولم يجد تمثال الحرية عند جسر بروكلين اعترض بشدة لمخالفة الواقع للصورة. الفكرة الفلسفية التى يتبناها المؤلف هى أن خبرتنا بالواقع تتشكل من مزيج من معرفتنا به عن طريق الصور ومعرفتنا به من خلال الاحتكاك المباشر، وأنه توجد علاقة جدلية ما بين المقاربتين. فنحن نرى صور الأماكن على سبيل المثال، فتتشكل صورة ذهنية لها تكون هى الوعاء الأول للمعرفة وعندما نشاهد هذه الأماكن بأعيننا تكون الصورة الذهنية حاضرة وقد تدخل فى علاقة مواءمة مع الصورة الطبيعية التى نراها أو فى علاقة تعارض، مثلما حدث فى قصة الطفل الهندى مع تمثال الحرية، والدرجات متعددة ما بين العلاقتين. وفى جميع الأحوال يتداخل الواقع مع الصورة بشكل لا يمكن معه فصلهما عن بعضهما البعض. نسوق مثالا آخر على ذلك مما يذكره الكتاب عن دور كاميرات المراقبة والشاشات التى نعايش من خلالها المدينة افتراضيا، فنتخذ من الصور التى تنقلها بديلا للتعاطى مع الفضاءات المادية الملموسة. ومن هنا يتضح دور الصورة فى تشكيل خبرتنا بالواقع الذى أحيانا ما يحتجب تماما خلف طبقات الصور الافتراضية. يتخذ الكتاب من المدينة وصورها السينمائية مادة لاختبار وتحقيق تلك الفرضية. فما بين المدينة التى تتشكل من خلال خبرتنا بصورتها، والمدينة المتشكلة من خلال احتكاكنا المباشر بها توجد منطقة جدلية، هى تلك التى اختار الكتاب أن يتحرك فيها، ومن ثم يسعى من خلالها إلى طرح نظرية عمرانية جديدة. لكن عن أى مدينة نتحدث؟ يحدثنا الكتاب عن مدينة الحداثة وما بعد الحداثة. فهو يبدو مهموما أولا بتقديم تاريخ للحداثة وما بعد الحداثة، وأداته فى ذلك هى دراسة المدينة، لكنها ليست المدينة المادية المعيشة، إنما هى المدينة كما صورتها السينما. المدينة لدى نزار الصياد ليست واقعا، انما هى مجموعة واسعة من الرؤى النظرية التى صاغها علماء الاجتماع والجغرافيا ورجال الصناعة، بل والشعراء. أما الصورة فليست محايدة ولا هى موضوعية، بل هى دائما انتقائية ومنحازة ومعبرة عن رؤية وموقف ومتأثرة بسياقات. كذلك فى قراءتنا لها تتعدد المعانى وتختلف وتتعارض. وينقسم الكتاب إلى عشرة فصول، ينطلق فى كل منها من مجموعة من النظريات والمفاهيم التى تشكلت فى حقول معرفية عدة عن المدينة والحداثة وما بعد الحداثة، ينتقل منها إلى تحليل عدد من الأفلام التى يستخدمها كمادة فنية تعبر عن تلك النظريات والمفاهيم وتتجسد فى الشخصيات والمجازات والأزمنة السردية والمونتاج ... إلخ. يقدم الكتاب مزجا فريدا بين النظرية والتحليل، نراه على سبيل المثال فى هذا الخط المشدود ولا ينفلت بين النظرية التى تولدت عن مبادئ إدارة هنرى فورد قطب صناعة السيارات فى بدايات القرن العشرين وبين شخصية الصعلوك فى فيلم «العصور الحديثة» لشارلى شابلن. إن خضوع العامل لأشكال السيطرة فى نظرية فورد يقابله الحصول على دخل كافٍ يجعله قادرا على استهلاك السلع التى ينتجها، لكن صعلوك شابلن فى هذا الإطار النظرى يقاوم الخضوع لتلك الآلة الجهنمية، فمن ثم يفشل فى إيجاد مكان لنفسه فى هذا العالم الجديد سواء لكسب العيش أو للاستمتاع بالمجتمع الاستهلاكى المحيط، فيهجر المدينة وينطلق إلى الريف فى اللقطة الأخيرة الشهيرة للفيلم. الفيلم عند نزار الصياد لا يصور مدينة، إنما يعبر عن رؤية صانعه عن هذه المدينة، تلك الرؤية التى تختبر فيها نظريات صاغها علماء اجتماع وجغرافيون وفلاسفة ... إلخ. فعندما يقارن مثلا بين حداثة المدينةالأمريكية فى «العصور الحديثة» وحداثة المدينة الأوربية فى «برلين: سيمفونية مدينة» لوالتر روتمان، هو يقارن بين رؤيتين للمدينة الحديثة. يقدم فيلم شابلن نموذج الصعلوك، هذا العامل الذى تهرسه الآلة بين تروسها وهو يحاول النجاة، للتعبير عن موقف ناقد للحداثة التى صاغتها الإدارة وفقا للنموذج التيلورى والاستهلاك الفوردي. بينما يتبنى فيلم روتمان مجاز المتجول الهائم الذى ابتدعه بودلير الشاعر الفرنسي، حيث تصبح الكاميرا ذاتها هى ذلك المتجول الذى يهيم فى المدينة محتفيا بحداثتها، متفائلا بحداثة العصر الصناعي، حيث نرى ملامح الاستجمام والترفيه والاستهلاك فى الحدائق وعلى ضفاف الأنهار وفى النوادى والمسارح .. إلخ. دون أن يطرح الفيلم تساؤلات عن هوية الأفراد التى تستطيع الاستمتاع بهذه الحياة الحضرية. ومن مجاز المتجول الهائم، ينقلنا الكتاب إلى مجاز المتلصص فى مدينة الكاميرات فى الفصل السابع من الكتاب، حيث يبدأ بعرض نظرى عن مدينة ما بعد الحداثة المكشوفة التى تتجه لاستخدام مواد البناء الشفافة بشكل متزايد على حساب مواد البناء المعتمة. وفى هذه المدينة تتخذ أنظمة المراقبة دورا متزايدا للحفاظ على الأمن العمراني، وهو ما يؤدى فى نفس الوقت إلى كشف الخصوصيات والتحكم فى البشر من خلال تلك المعرفة البصرية التى تسمح بالسيطرة عليهم وتوجيههم من خلال التحديق المستمر فيهم. هنا يضاف دور جديد للصورة التى تصبح متدخلة فى الواقع وصانعة له. لاختبار هذه الفرضيات النظرية، يحلل الفصل ثلاثة أفلام هى: «النافذة الخلفية» لهتشكوك، و«سيلفر» لفيليب نويس، و«نهاية العنف» لفيم فيندرز، حيث يتتبع شخصية المتلصص الذى يستخدم تقنيات بصرية تسمح له بمراقبة الآخرين، ومن ثم السيطرة عليهم والتحكم فيهم، فى مدينة يقضى فيها نمو العالم الافتراضى على التفاعل الاجتماعي، وهو ما يحلله الكاتب من خلال الأنماط المعمارية للبنايات التى تعيش فيها الشخصيات التى تقوم بفعل التلصص والتحديق فى الآخرين. وهكذا وعلى مدار فصول الكتاب نبحر فى رحلة مدهشة ومبدعة، تمنحنا متعة فكرية خالصة، تصبح فيها السينما مجالا خصبا للمعرفة العابرة للحدود، وساحة ملهمة لطرح الرؤى، محفزة للفكر والحوار حول تجربتنا المعيشة. هذا هو ما قاد أستاذ العمران الذى خصص جل كتاباته لدراسة المدن ونشأتها وتطورها فى مصر والعالم إلى أن يخصص كتابا بهذه الأهمية لدراسة الأفلام وأن يستثمر فى ذلك مجهودا بحثيا مهولا يؤكد للمتشككين أهمية حقل الدراسات السينمائية وأهمية دخولها إلى مجال الدراسة الأكاديمية على أوسع نطاق.