الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله.. فى أروقة معرض «صوت مصر» بقصر عائشة فهمى على ضفاف نهر النيل بالزمالك، تتردد نغمات الماضى العذب، وتعود «الست» لتروى مذكراتها من جديد، لا بصوتها هذه المرة، بل عبر لوحات وصور ووثائق تحكى رحلة المجد الفنى والإنسانى لأيقونة الغناء العربى، المعرض الذى يقترب من نهايته.. يستعيد ملامح زمن الفن الجميل، ويوثق محطات مضيئة من حياة كوكب الشرق، التى تحولت أعمالها إلى جزء من وجدان المصريين والعرب. بين جُدران المعرض تلتقى الذاكرة بالصورة، ويتجسد صوت مصر فى مشاهد نابضة بالعراقة والإبداع، ليبقى اسم أم كلثوم رمزًا خالدًا لصوت الوطن وإحساسه الأصيل. ذاكرة لا تغيب يضم المعرض مجموعة نادرة من الصور والمقتنيات والأعمال التشكيلية والوثائق التى تسلط الضوء على مسيرة أم كلثوم منذ بداياتها الريفية فى دلتا مصر حتى اعتلائها قمة المجد العربى، وتعرض الصور مراحل تطور شخصيتها الفنية، من الفتاة الريفية التى غنت التواشيح الدينية إلى الأسطورة التى جمعت الشرق على صوتها، كما تخلل المعرض متعلقات شخصية ومراسلات نادرة لا تزال تُعيد للأذهان عبقرية الأداء وقوة الإحساس، لتؤكد أن أم كلثوم كانت -ومازالت- صوت مصر الذى لا يشيخ. لا يستعيد زائر المعرض سيرة فنانة فحسب، بل يلمس ملامح مصر نفسها في لحظات قوتها وضعفها، أفراحها وأحزانها، فصوت أم كلثوم كان مرآة للمجتمع المصرى، ومرافِقًا لكل تحول ثقافى وسياسى شهدته البلاد.. المعرض بذلك لا يقدم مجرد مذكرات فنية، بل يوثق تاريخًا إنسانيًا يروى حكاية وطن وامرأة آمنت بأن الفن رسالة خالدة تتجاوز الزمن. صوت لا يُنسى أثناء زيارتى للمعرض وفى أولى خطواتى، شعرت كأننى على موعد مع الذكريات الجميلة، صوت أم كلثوم يسيطر على المكان: «وصفولى الصبر.. لاقيته خيال وكلام فى الحب يدوب يتقال، أهرب من قلبى أروح على فين.. ليالينا الحلوة فى كل مكان».. من كلمات مأمون الشناوى وألحان محمد عبد الوهاب، لتبدأ الحكاية من هنا... تغمرنى رهبة المكان وأنا أتأمل جدران القصر التى تحولت إلى ذاكرة حية للفن المصرى، لوحات، صور، ومذكرات تروى مسيرة «كوكب الشرق» - رحلة امرأة تجاوزت حدود الصوت لتصبح رمزًا للهوية والوجدان المصرى، كل زاوية فى المعرض تحكى قصة، وكل صورة تختزن لحظة من عبقرية سيدة الغناء العربى، بين أصداء الموسيقى وضوء القاعات الدافئ، شعرت بأنني أتنقل بين فصول كتاب مفتوح عنوانه: «أم كلثوم.. صوت مصر» في إحدى القاعات، توقفت طويلًا أمام عمل نحتى للفنان الرائع جمال السجينى، وتأملت عملًا آخر للفنان السكندرى المبدع سيف وانلى، الذى استوحى حالة أم كلثوم وفرقتها الموسيقية فى مشهد يعكس العديد من المعانى..، فلم يكن المعرض مجرد عرض لمقتنيات أو لوحات، بل رحلة فى تاريخ أمة. انطباعات وملاحظات لفت انتباهى الكتاب المُصاحب للحدث، وهو بحق عمل يستحق الاقتناء، إذ يضم مذكرات وصورًا نادرة ومقالات صحفية ولوحات توثق رحلة هذا الهرم الغنائى الذى يصعب تكراره، الكتاب لا يكتفى بتأريخ حياة أم كلثوم، بل يقدّم قراءة بصرية وإنسانية لمسيرتها الخالدة.. كما يُحسب لقطاع الفنون التشكيلية، اختيار قصر عائشة فهمى التاريخى مقرًا للمعرض، بما يحمله من عبق وتراث معمارى يتناغم مع قيمة «صوت مصر» وأيقونة الغناء العربى، المكان فى حد ذاته يضيف بُعدًا جماليًا وروحانيًا للتجربة، وكأن القصر استعاد روحه عبر صوت «الست». لكن -وعلى الجانب الآخر- هناك بعض السلبيات التى لا يمكن تجاهلها، أبرزها عدم الإعلان عن المعرض وغياب دعوة الفنانين والنقاد بشكل أوسع، ما حَدَّ من مشاركة فنية كان يمكن أن تثرى الحدث وتمنحه تنوعًا أكبر، ويا حبذا لو تم اختيار قوم يسير ولجنة فنية تضم أسماء متخصصة قادرة على انتقاء أعمال تُعَبِّر بحق عن الوجه الحقيقى للحركة التشكيلية المصرية. ويأتى بعد ذلك اختيار توقيت المعرض الذى يبعد عن ذكرى رحيل أم كلثوم ببضعة شهور.. ولعل أكثر ما أثار دهشتى أن بعض الفنانين المشاركين اكتفوا بإضافة ملامح أم كلثوم على لوحات سبق عرضها، وهو ما لا يليق بمكانة الفنان ولا بعظمة اسم المعرض، «فصوت مصر» يستحق ما هو أصدق وأعمق من مجرد لمسات سريعة على لوحات مألوفة.