منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرار عودة رؤوف رأفت
نشر في صباح الخير يوم 28 - 05 - 2025

لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.

فى البداية.. أحب أن أشير إلى من تشمله كلمات هذا المقال هو فنان موهوب، يملك أدواته، جاد فى محاولاته، صادق مع نفسه. أحببته على المستوى الإنسانى. ووقعت فى غرامه على المستوى الفنى. أقولها صراحةً تحديدًا وتعريفًا لهويته.. هو فنان لا ينتمى إلى طائفة الفنانين السماسرة، الذين نسوا هواية الفن مهرولين وراء المادة فقدموا فنًا تجاريًا رخيص المحتوى والمضمون. فأعماله لها طابع خاص جدًا. فهى عظيمة الفكر. لها رؤية عميقة. ذات مذاق فريد. صادقة الحس. نبيلة الهدف. ولا غريب فى ذلك فهذا الفنان هو من متصدرى حركة الفن الحديث فى مصر كرسام ومصور. تميز عن أبناء جيله بالرغم من ابتعاده عن ممارسة الفن لفترة ليست بالقليلة. كان يعكف طوال هذه الفترة بالبحث عن ذاته والتصالح مع النفس.
وعند عودته كان مثل المارد الذى أفاق من غفوته. وحطم جدران النمطية وقضبان التقليدية وقدم لنا قمم الأعمال التى أبهرتنا. وكأنه عاد ليعلن عن نفسه من جديد.
هو رؤوف رأفت المولود فى 28 يونيو عام 1948 بمحافظة المنوفية. حيث كان يعمل والده مديرًا للزراعة هناك. إلا أن أصول عائلته ترجع إلى صعيد مصر. وبالأخص محافظة بنى سويف فى إقليم شمال الصعيد.
ملامحه مصرية صميمة. مثال حى للمصرى القديم. سليل الحضارة العريقة. وعن علاقته بالفن وبدايته معه، تجد أنه بالرغم من أن عائلته كانت بعيدة كل البعد عن مجال الفن، فإنه نشأ محبًا للرسم. وكان لمدرسته دورًا مهمًا فى تنمية موهبته. حيث كانت مدرسته تهتم بالأنشطة الفنية المتعددة.
لكن هناك حادثًا مهمًا فى طفولة هذا الفنان كان له عظيم الأثر فى حياته، وفى فنه بعد ذلك. وهو وفاة والدته وهو ما زال فى عمر الثامنة. وهو الحدث الذى جعل منه طفلًا منطويًا، ومتأملًا، يقضى معظم وقته مع الرسم. وكأنه أراد أن يعبر عن نفسه وعن صمته بالرسم.
وفى سن الخامسة عشرة ظهرت له اتجاهات أخرى غير الرسم، حيث اتجه رؤوف الشاب إلى قراءة الشعر القديم وأحبه. وأخذ يحفظ أشعار المتنبى والجاحظ، وأبى علاء المعرى. وأصبح كل طموحه أن يصير شاعرًا.
وهناك واقعة يتذكرها الفنان كما لو كانت بالأمس القريب. حيث قام بعرض إحدى تجاربه الشعرية على الشاعر المبدع صلاح عبدالصبور. والذى قام بدوره بقراءته بتمعن، وأبدى إعجابه به. لكنه رأى أن هذا الشاب لديه شىء ما، وموهبة ما. شىء أشبه بالطاقة الكامنة التى يجب أن يوجهها توجيهًا صحيحًا. أما الشعر فالطريق أمامه طويل، ولابد وأن يحفظ أوزانه ومقاماته حتى يتمكن أن يصوغه ويبدع فيه.
ولعل تلك الواقعة على وجه الخصوص كانت السبب فى اتجاه رؤوف رأفت إلى دراسة الفن التشكيلى والتخصص فيه. حيث التحق بقسم التصوير بمعهد ليونارد دافنشى الذى كان يضم قسمين اثنين هما التصوير والعمارة. وكان معهدًا خاصًا بمصروفات. وذلك نظرًا لمجموعه بالثانوية العامة الذى لم يتح له الفرصة بالقبول بكلية الفنون الجميلة. وكانت الدفعة التى التحق بها فى المعهد هى أول دفعة ينضم لها الحاصلون على الثانوية العامة وتدرس لمدة خمس سنوات بدلًا من أربعة. بل كانت أول دفعة تحصل شهادة البكالوريوس أيضًا. وقد تخرج رؤوف من المعهد عام 1973.
وعقب تخرجه أقام رؤوف رأفت أول معرض له على الإطلاق بصحبة سته من زملائه. ومن المصادافات الغريبة حقًا، أن يفتتح المعرض الشاعر صلاح عبدالصبور وكان يشغل منصب وكيل وزارة الثقافة آن ذاك.
الذى كانت سعادته بالغة عندما ذكره رؤوف بالواقعة التى حدثت بينهما من قبل. وباعتراف من الفنان رؤوف رأفت، فإن الشاعر صلاح عبدالصبور يعد من الشخصيات الذين تأثر بهم على المستوى الشخصى.
وكان رؤوف يراه مفكرًا قبل أن يكون شاعرًا. وأن له تجارب قوية ومتميزة بالإضافة إلى كونها عميقة وشديدة الفلسفة.
وعلى مستوى الفن التشكيلى، أحب رؤوف أعمال الفنانين سيد عبدالرسول وزكريا الزينى. وكلاهما كان من أساتذته بالمعهد. إلا أنه لم يتأثر باتجاتهما الفنية. بينما تأثر وبشدة بالفنان الإسبانى بابلو بيكاسو. ولا عجب فى ذلك، فلقد تأثر به العديد من فنانى العالم لما قدمه من اتجاهات جديدة أبدعها عن فهم ووعى تام.
وقد نبع إعجاب رؤوف رأفت ببيكاسو نظرًا لحرصه على تتابع المراحل لديه وتطورها. وترابط الفترات الزمنية بإحكام. فهو لم يقفز من مرحلة إلى أخرى متفاديًا ما بينهما. إنما جدد وأبدع بذكاء شديد من حيث يكون دائمًا فى السبق.
لم يدرك رؤوف رأفت الوقت الكافى ليعمل ويبدع بعد التخرج. حيث التحق بالخدمة العسكرية مباشرة عام 1974. إلا أنه عُين بإدارة التدريب بوزارة الثقافة عقب انتهائه من أداء الخدمة العسكرية. فوجد نفسه يعمل تحت مظلة العمل الروتينى الذى لم يعتده. فهو لم يألف لا الآلية ولا النمطية فى حياته. والحقيقة أن أى مبدع يجد عجزًا تامًا فى التآلف مع هذا الأسلوب الروتينى فى الوظيفة. فكان لابد وأن تهب رياح التمرد لتعصف بما حولها. فتقدم باستقالته وحصل على منحة من الوزارة لممارسة العمل الفنى.
لكن سرعان ما تنازل عن هذه الفكرة واعتذر عن هذه المنحة ليبدأ مرحلة جديدة شديدة الإثارة. حيث اتجه إلى العمل الصحفى. وكانت هذه التجربة عبر مجلة أكتوبر. وكانت المجلة مجرد فكرة تحت الإنشاء. وعمل بها مخرجًا فنيًا عشق من خلالها فن التصميم. ودخل منبهرًا إلى عالم الطباعة. ولا عجب فى ذلك، فالسعادة التى تغمرنا بعد الانتهاء من تصميم أو إنجاز عمل ما بذل فيه من المجهود والإبداع ما بذل. وتحوله إلى مادة مطبوعة سوف يتناقلها القراء والمتابعين بعد ذلك، جعلته يبدع ويعطى للإخراج الصحفى فكرًا وفنًا وتنسيقًا أعمق كما لو كان يعمل على إنجاز لوحة ما.
ومع الوقت اكتشف رؤوف أنه هذه الوظيفة بالرغم من كونها مرتبطة بالفن والإبداع، فإنها لم تشبع رغباته الفنية. إضافة إلى أن هناك فكرة أخرى بدأت تسيطر عليه، ألا وهى تأمين المستقبل والبحث عن الاستقرار النفسى والمادى. ولأنه شديد التمرد، كان قراره هذه المرة أشد قسوة. فلقد هجرالفن وانقطع عنه وتفرغ لعمله الجديد.
شغل رؤوف رأفت وظيفة مستشار فنى لإحدى الشركات الاستثمارية المتخصصة فى الرخام الصناعى. سافر من خلالها إلى ألمانيا، وايطاليا، وأمريكا فى رحلات سريعة بهدف تطوير مجال عمله الجديد، وخاصة فى عالم التصميم الصناعى. ومع مرور الوقت، أنشأ مكتبًا متخصصًا فى مجال التصميم. ثم أسس مطبعة لإنجاز أعماله فى مضمار الدعاية الخاصة بهذه الشركة.
وواصل عمله بهذا الشكل حتى استقل وأسس مكتبه الخاص. وتخصص فى مجال الدعاية والإعلان والتصميم والطباعة التى عشقها وأخلص لها فأعطته ما يستحق. فاستقرت أموره وألتقط أنفاسه. وهدأت لديه فكرة تأمين أوضاع المستقبل. وبدأ فى ترتيب أوراقه من جديد. فكانت الصحوة.. صحوة الفن وطاقته الكامنة. الفن التشكيلى الذى كان يداعبه من وقت إلى آخر. حيث كان يلجأ إلى القلم والحبر. حيث كان يقحم هذه المحاولات الفنية فى وقت العمل شيئًا فشيئًا مستخدمًا الأبيض والأسود. هذا التضاد الذى بلغ وأبدع فى تسكينهما وتوظيفهما فى أماكنهما الصحيحة. وكأن الحبر الهندى (الرابيدوجراف) له مفعول السحر فى عودة هذا الفنان ليعكف على فنه من جديد.
قدم رؤوف رأفت فى هذه المرحلة مجموعة من الأعمال التى عبرت عن بعض الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية.. متأثرًا بما يراه يوميًا عبر صفحات الجرائد والمجلات أو قنوات التليفزيون، والمعايشة اليومية. ولعل اختياره لخامة الحبر ترجع لسهولة استخدامه لا لتوطيفه. فتوظيفه إما ناجح وعميق.. أو بعيد كل البعد عن الصواب الفنى.. سطحى ومرهق للعين. وبالرغم من تمييزه وتمكنه من هذه الخامة، فإن اختياره لهذه الخامة كان اعتمادًا على أنها لا تستهلك الوقت مثل الخامات الأخرى.
لكن سرعان ما تطرق إلى نظائر وخامات أخرى مثل الباستيل، والأويل باستيل، والجواش ثم الأكريليك كوسائط ونظائرمختلفة -(Mixed Media)- وكلها خامات تتميز بسهولة الاستخدام أيضًا لكونها مواد طيعة، وشديدة الثراء، وسريعة التمازج ولا تحتاج إلى وقت كبير حتى تجف. وهو ما سهل عليه مهمته وساعده فى وقته المحدود نوعًا ما.
وبنظرة عابرة فى أعمال رؤوف رأفت، نجد أنه من الصعب ألا نجد الإنسان فى لوحاته وفى تشخيصه وموضوعاته. فالإنسان هو بطل أعماله. كما نجد أن الوصل بين الإنسان والعالم المحيط به هو محور عمله من خلال فكرة أو موضوع نابع من داخله. فهو لم يتجه إلى الطبيعة الصامته مثلًا. إنما عمل على تفريغ ما بداخله من أحاسيس وأفكار آمن بها وعبر من خلالها عن موقفه ورؤيته السياسية. وأهم ما يمييز ملامح أعماله هى حرية التعبير والرمزية فى الأداء.
ولا أخفى عليكم أن رؤوف رأفت لديه رموز تعبيرية خاصة به. فتجد الثور، والطائر، والعجلة، والطوق، والحبل الممزق، ورموز أخرى كثيرة. كانت هذه الرموز تحمل فى طياتها ومفرداتها مقومات مهمة فى شرح وتوضيح القضايا التى يعالجها فى أعماله الفنية.
أما السيرك فهو أحد الموضوعات التى حظيت باهتمام كثير من فنانى العالم. وذلك لما به من مواد تعبيرية تأثيرية ثرية. وقد تناوله رؤوف رأفت من خلال الأراجوز، والبلياتشو أو المهرج، والحصان الخشبى. وكلها رموز لها بعد إنسانى عميق فى أعماله. فالإنسان أصبح مثل الآلة. أو كما الترس المثبت فى عجلة داخل دوامة الحياة.. والتى شبهها بالسيرك.
أما العجلة.. فهى رمز لحلم الطفولة.. وهى بعد آخر لمفاهيم فلسفية.. فهى بشكل آخر ترمز لمرور الزمن أيضًا. أما الطائر فيعبر بدوره عن الانطلاق والحرية. وعن الخيوط والحبال فهى ترميز للألم والتمزق. أما الثور فهو رمز للقوة والسطوة.
وقد نتعجب من تمازج وتلاحم كل هذه الرموز والأشكال بخطوط وكتل منسجمة بالإضافة إلى الخلفيات الهندسية المتقنة والمنمقة لا لشيء يمثل التكوين الفنى فقط.. إنما لرؤى فلسفية أعمق.. وهى ارتباطنا بشكل أو بآخر بالأرقام. فما من منتج أو سلعة إلا وتجد عليها الرقم الكودى الخاص بها. حتى الإنسان وجوده فى الحياة مرتبط برقم يمثله ويخصه. فأصبح كل شيء على وجه الأرض مادة وكود أو مجرد رقم. فاندثرت معها المشاعر الإنسانية. وأصبحنا فى عصر تحكمه المعادلات والاتفاقيات. فأصبح كل شيء فى تعداد الأرقام وعليه أن يعرف مكانه وعمله بدون أى أحاسيس أو مشاعر إنسانية. أى أننا أمام طرح لآلية الحياة القاسية.
أما عن هذه الانفعالات النفسية والوجدانية، والخواطر الفلسفية البالغة العمق، فما هى إلا آهات موجعة تنطلق من لوحات صوتها أسود سواد النحيب. داكنة كالأنين كأنها احتجاجات مكتومة. تبثها ريشة يائسة وكأنها طعنات فى ضميرإنسان تحجرت عواطفه وتجمدت مشاعره وأصبح كل شيء فيه موميائى الواقع. تحيط به اللفائف والأكفان. هكذا كانت رؤية الفنان العملاق حسين بيكارلأعمال رؤوف رأفت.
أو أن أعماله تؤكد حقيقة أخرى، وهى أن جماليات العمل الفنى ضرورة أساسية للتأثيرعلى حواس المتلقى أو المشاهد والمتابع لهذه الأعمال. وهنا يركز على حدة التناقض بين جماليات الشكل المتمثلة فى جاذبية الخطوط والتكوينات والتوازن والموسيقى التى تربط بينها جميعًا وبين قسوة وربما بشاعة الموضوع والمضمون. فتبدو شخوصه وأطياره وسائر عناصره كأشباح خرجت من عالم سحيق. وهنا يحدث الإسقاط لدى المتأمل فهذا العالم الهيكلى لا يكاد يختلف عن عالم ما زالت البشرية تعيشة حتى اليوم.
لقد نجح هذا الفنان بطبيعته المتأملة والدؤوبة فى تحريك خطوطه بسيطرة يحسد عليها. وقد نجح أيضًا فى تطويع أفكاره ومضامينه للشكل الذى يمثل معادلة حقيقية. تتطابق فيها كل العناصر والمكونات فى وحدة عضوية لصيقة، مؤكدة أن الفن معاناة لا يهدأ منها الفنان إلا بعد أن تخرج ثمرة إبداعه.. فى دورات متتالية تضيف إلى العمق عمقًا وإلى رؤياه التراجيدية أبعادًا وأغوارًا جديدة.. هكذا كانت رؤية الناقد كمال الجويلى فى أعماله.
ومرورًا بتدارج تلك الأعمال من حيث الوقت. نجد أن رؤوف رأفت لم يطور سوى رموزه. أى أنه لم يتطور من خلال مراحل فنية.. فهو ذو شخصية ثابتة.. ففى بدايته الفنية كان يستخدم بعض الرموز الشعبية مثل الكف.. والعروسة الورقية.. والخرزة الزرقاء.. والبخور لمعالجة الحسد مثلًا. أما الأسلوب فلم يتغير.. إنما عمل على تنمية الخط لديه. فهو ينفس عن انفعالاته فى لوحاته ويهيم عبر الحالة المزاجية دون التورط فى عمل لا يرضيه. فلابد للعمل أن ينبع من داخله وبصدق.
أما ألوانه.. فهو حريص كل الحرص على معالجتها المعالجة التى تخدم الصراع والقضية فى اللوحة. إضافة إلى كثرة استخدام اللون الرمادى بدرجاته. فالألوان الصريحة وبحساب دقيق قد تكون مشحونة بالرهبة من اللون الصريح. وهذا بطبيعة الحال نابع من أحاسيس الخوف لديه. الخوف من الغد.. الخوف من الصراعات.. الخوف من المجهول.
ولعل عودة رؤوف رأفت إلى الساحة الفنية بعد هذا الانقطاع وبهذه القوة قد أحدث الكثير من الجدل فى الوسط الفنى. لكنى أكاد أجزم أن هذه العودة القوية نابعة عن عملية تنشيط لما قام بدراسته. وربما حتى أكون أدق فى التعبير.. بما قتلها بحثًا ودراسة. فترسخت لديه الفكرة ورصانتها.. فهو دائم التفكير والتأمل.. ناقد لما يحدث من حوله.. صاحب رأى وفلسفة.. وهو ما لم يتوقف عنه أبدًا.
والأهم، أنه لم يتوقف عن التجريب أيضًا. فمنذ عودته إلى الرسم بعد طول انقطاع وهو دائم التجريب. وتعد تجربة الكراسى الخشبية ذات الزخارف الأربيسكية -والتى رسم على مسند الظهر بها بعض الموضوعات الإنسانية الميتافيزيقية- واحدة من أهم التجارب والأعمال المركبة التى قدمها رؤوف رأفت عبر مسيرته.
أن تجربة رؤوف رأفت تعد تجربة مميزة جدا وثرية. فهو فنان واثق من نفسه ومن أدواته ومفرداته. يواصل مشواره الفنى فى ظل مناخ فنى غير مستقر. معتمدًا على صدقه وموضوعيته فيما يقدم وإيمانه بأفكره وفنه وموهبته.
ويبقى أن أقول أن أهمية أعمال رؤوف رأفت تتلخص فى كونها شاهدة على العصر. أعمال ترصد وتعالج أحداثًا معاصرة، سوف تسجل فى التاريخ. وهو ما يجعل منها أعمالًا تزداد قيمة بمرور الوقت. ونجحت فى أن تعبر عن همومنا الحياتية وآلامنا. وكشفت لنا عن العالم الداخلى المتفرد لهذا الفنان وكأنها وثائق حية لهذه المرحلة الزمنية.
وفى أحد أيام شهر أغسطس من عام 2005، كنت مسافرا على متن طائرة مصر للطيران المتجهة إلى العاصمة التايلاندية بانكوك. وبعد أن أقلعت الطائرة واستقرت فى الجو. تقدمت إحدى المضيفات وهى تدفع عربة الصحف والمجلات أمامها. وسألتنى أن كنت أود أن أقرأ ما يشغل وقتى أثناء الرحلة الطويلة. وبالفعل طلبت منها تشكيلة من الصحف والمجلات المصرية. وأثناء تفقدى لجريدة الأهرام، وقعت عينى على خبر صادم أحزن قلبى وألمنى بجرح عميق. وهو خبر وفاة الفنان رؤوف رأفت الذى كان يتوسط صفحة الفن التشكيلى. وهكذا رحل الفنان رؤوف رافت فى هدوء مثلما عاش فى هدوء بعيدًا عن صخب الشهرة والأضواء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.