لن يفرض أحد إرادته على الدولة المصرية، والقاهرة تسطر الآن ملحمة كُتبت حروفها من نورٍ على جدران التاريخ. الأمن القومى المصرى خط أحمر.. وسوف يظل.. والقضية الفلسطينية واحد من ثوابت الدولة المصرية.. وستبقى. المنطقة، والإقليم، والعالم الآن فى مفترق طرق، لم يحدث أن تخلت مصر عن إرادتها فيما يتعلق بثوابتها، ولن يحدث. تقف مصر الآن بكل قوة فى مواجهة «تهويمات» قادمة من الغرب، لن تتحقق ولن يكتب لها أن تتحقق. الموقف المصرى فى وضوحه، يستند إلى الحق والعدل، لذلك فإنه سيكتب إلى جانب مواقف أخرى على صفحات سوف يقف أمامها التاريخ طويلًا فى تسجيله لتلك المرحلة الخطيرة والفارقة من مراحل التاريخ.
(1) وسط استمرار مفاوضات المرحلة الثانية من الهدنة فى غزة، وقفت عند معبر رفح أكبر قافلة مصرية لمعدات إعادة الإعمار استعدادًا لدخول قطاع غزة. إذا كان لدى بعضهم «أفكارٌ مشوّشة» تميل إلى الصفقات التجارية لا إلى العدل فى التعاطى مع حقوق الشعوب، فإن لدى مصر خطط المستقبل. ترتكز الخطة المصرية على إعادة إعمار القطاع فى وجود سكانه. إعادة الإعمار مع بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه، هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار الإقليمى وحفظ السلام فى الإقليم وفى العالم. تعكس الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة التزام القاهرة والالتزام العربى بدعم الشعب الفلسطينى فى مواجهة التحديات.. مهما كانت التحديات. مبادرة تأسيس صندوق عربى لدعم الإعمار فى غزة، هى الأخرى مبادرة تعكس رغبات عربية حقيقية فى التصدى لأى من مخططات إجهاض صمود الشعب الفلسطينى على الأرض. يوفر الصندوق التمويل اللازم لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، مدعومًا بإرادة سياسية مصرية صلبة، تنطلق من مسئولية تاريخية لحل القضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية وحل الدولتين. توفير الموارد المالية لإعادة الإعمار سوف يضمن بالضرورة إحداث تغيير حقيقى فى القطاع. تعمل الخطة المصرية على خلق واقع مختلف لحياة الفلسطينيين، ويعيد الأمل للغزاويين. والبدء فى تنفيذ تلك الخطة سيكون حاجزًا عاليًا أمام أى من مخططات ترى أنه لا حل إلا التهجير. مصر أدرى بما يحتاجه الفلسطينيون فى القطاع، وبلورة خطة مصرية عربية سوف يسحب البساط من أى محاولة لفرض حلول غير عادلة وغير مقبولة. البدائل المتاحة كثيرة، لكن التهجير لا يمكن اعتباره بديلًا، فى مرحلة فارقة، لم تتوقف فيها القاهرة عن التأكيد بأن الفلسطينيين ليسوا للبيع أو المساومة، وأن المجتمع الدولى، خاصة الدول العربية، يقف صفًا واحدًا فى مواجهة أى محاولة لتغيير واقع القضية أو تصفيتها. تقارير عربية تكلمت فى الأيام الماضية عن التزام حماس باتفاق وقف إطلاق النار بمراحله الثلاث، وتكلمت عن إبداء حماس عدم مشاركتها فى إدارة القطاع خلال المرحلة المقبلة. إن كان هذا صحيحًا، فهى خطوة أخرى على المائدة، وورقة أخرى جديدة نحو استمرار الهدنة، والبدء فى إعمار القطاع، إضافة إلى أنها رؤية مختلفة فى السعى نحو التقدم إلى مفاوضات تالية تعمل على حل القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين. إذا كان، فلابد لحماس أن تتوافق مع السلطة الفلسطينية وتنكر الذات. وإذا كانت الرؤية الدولية، والمصلحة الفلسطينية، تتطلبان أن تتوارى حماس الآن، عن التواجد فى كادرات الصور فليكن، على أن يتم الأمر بإرادة عربية وبتوافق فلسطينى.
(2) مرة أخرى، كل البدائل متاحة إلا بديل التهجير. ومرة ثانية، لا يمكن اعتبار التهجير بديلًا من الأساس، فى وقت لم يستفق العالم من موجات دهشةٍ أصابته بعد أحاديث مختلفة للرئيس الأمريكى قال إنها «حلول خارج الصندوق». الأمريكى توماس فريدمان، كتب الأسبوع الماضى قائلًا: إن التفكير خارج الصندوق مخالف للتفكير خارج العقل. فى الولاياتالمتحدة، بعضهم وصف الرئيس الأمريكى «بالحماقة»، واللفظ تناولته صحف مختلفة، وتداوله المحتجون على سياساته وقراراته وتطلعاته فى واشنطن وعلى مواقع التواصل. الأسبوع الماضى، خرج محتجون فى شوارع بعض الولاياتالأمريكية ضد سياسات إدارة ترامب، ضمن إجراءات قررتها حركة «50501» . دعت الحركة للتظاهر فى 50 ولاية فى 50 عاصمة فى يوم واحد، ضد ما وصفوه بالسياسات القمعية لترامب وقراراته التى تأكل من الحريات. قالوا إن ترامب خطر على الخارج الأمريكى كما هو خطر على الداخل. لذلك تظاهروا أمام الكابيتول، وحملوا اللافتات بشعارات مثل: «ارفضوا أمريكا الفاشية»، ورفع آخرون فى مدن أخرى شعارات معارضة لما وصفوه بسياسات إيلون ماسك فى حكم الولاياتالمتحدة دون أن ينتخبه أحد. الداخل فى الولاياتالمتحدة يغلى، كما أن الشرق الأوسط على حافة الغليان. فى الشارع الأمريكى يستغربون كيف يمكن أن تتراجع الولاياتالمتحدة فجأة، وبلا مقدمات، وبلا مبررات عن جهود استمرت لعقود فى دعم السلام فى الشرق الأوسط؟ وفى أوساط الساسة الديمقراطيين، وحتى بين كثير من الجمهوريين يتساءلون: على أى أساس يأتى رئيس إلى البيت الأبيض، فيشعل المنطقة، ويهدد الشركاء، ويهدد السلام، وينسف كل ما سبق من جهود نحو إحلال الاستقرار فى المنطقة، فيقف هو فى جانب، وباقى العالم فى جانب آخر، ولا يبقى فى جانب الرئيس إلا إسرائيل؟ وفى الولاياتالمتحدة يستغربون، لماذا جنح ترامب إلى «صب الزيت على النار»، بينما كان فى مقدوره أن يبدأ فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالطرق الدبلوماسية، ووفق الحقوق المشروعة والقرارات الأممية. فى رسالة إلى ترامب، دعا عشرات من نواب الكونجرس ترامب إلى سحب كل ما قاله عن تهجير الفلسطينيين، ليس لأن الكلام يشكل خطورة على موقف الولاياتالمتحدة مع شركائها فى الإقليم، إنما لخطورة تلك التوجهات على الولاياتالمتحدة، وعلى الرئيس الأمريكى نفسه. الواقع يقول، إن إعادة رسم منطقة الشرق الأوسط بأكمله ليست فى متناول الولاياتالمتحدة بمفردها حتى ولو كانت هى الأكبر والأقوى فى العالم. الحلول الأحادية لا تفرض، وتوهم أن القوة قد تتيح فرض الرؤى على الآخرين لا تعكس إلا نتائج شديدة السلبية، سوف تأخذ المنطقة إلى آفاق تنعكس آثارها شديدة الخطورة والقسوة على الجميع. لذلك وصف فريدمان خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين بأنها «الأكثر حماقة وخطورة فى التاريخ»، وقال إنها بالضرورة تفتح الباب «للفوضى داخل الولاياتالمتحدة وخارجها». قال فريدمان أيضًا إن أحاديث ترامب فى هذا الخصوص أخطر مبادرة «سلام» وأكثرها حماقة كان من المنتظر أن يطرحها رئيس أمريكي على الإطلاق. (3) أقام ترامب العالم لكنه لم يقعده إلى الآن. لكن العالم ضد ترامب، وترامب ضد العالم. فى أوروبا لا يعتقدون أن التهجير بديل، وفى الشرق، يؤيد نصف الكرة الأرضية الرؤية المصرية، ويدعمون الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى فى إطار حل الدولتين. لم يكن متصورًا من رئيس الولاياتالمتحدة أن يزيد النيران فى الشرق اشتعالًا، بأفكار قد تنجح فقط على شاشة السينما أو فى أفلام الويسترن القديمة لا فى الواقع. لذلك، يتخوف الشارع السياسى الأمريكى من ردود الأفعال. ويتخوف الساسة الأمريكيون مما قد يخصمه نهج ترامب من موقف ومكانة الولاياتالمتحدة فى معادلات التحالف والتشاركات الدولية. بعضهم توقع إثارة خطة ترامب ردودًا عنيفة ضد سفارات الولاياتالمتحدة ومصالحها فى العالم العربى والإسلامى، والبعض الآخر يتكلم عما يمكن أن تخسره الولاياتالمتحدة على قطاع الشراكة الاستراتيجية بينها وبين مصر. مصر أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، وغير المسار السياسى، فإن أمريكا قد تخسر سوقًا مهمة بتعقد علاقتها بالقاهرة. المساعدات الأمريكية السنوية ليست مجرد دعم مالى، بل هى وسيلة لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين على أساس اتفاقية السلام الشهيرة فى كامب ديفيد، ويبقى لدى مصر فى المقابل مطلق الحلول للبحث عن شركاء آخرين مثل الصين أو روسيا مما يعزز من نفوذ هذه الدول فى المنطقة على حساب الولاياتالمتحدة. القاهرة رائدة فى مكافحة الإرهاب، والقاهرة بوابة استراتيجية لإفريقيا، عملت الولاياتالمتحدة على تعزيز نفوذها فى القارة من خلالها، فى وقت أصبحت فيه إفريقيا ساحة تنافس بين القوى العالمية على رأسها الصينوروسيا. فى الصحافة الأمريكية، مع هجوم متزايد على ترامب، هناك من يتكلم عن أن الحفاظ على علاقات قوية لأمريكا مع مصر ليس خيارًا، إنما ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة تعزيزًا لمصالحها. قالوا إن أى ما قد يشوب العلاقات الأمريكية المصرية لن يؤثر فقط على البلدين.. إنما سوف تكون له تداعيات واسعة على استقرار المنطقة بأكملها.. واستقرار إسرائيل نفسها.