لا أعلم إذا كانت الإدارة الأمريكية تستمع إلى رأى الكاتب الأمريكى الشهير توماس فريدمان المتخصص فى الشرق الأوسط أم لا، فقد استوقفنى مقاله الأخير فى (النيويورك تايمز) حول غزة.. وتعليقه المثير على سياسات الإدارة الأمريكية الحالية ووصفه لها بأنها فوضى تعرض مصالح الجميع للخطر، وأيضًا تعبيره المثير حول فهم الأفكار القادمة من خارج الصندوق وهذيان الأفكار القادمة من خارج العقل، وهو وصف دقيق يتجه نحو منتصف جبهة اليمين المتطرف الإسرائيلى المؤيد والداعم لسيناريوهات التهجير المستحيلة. ما قاله فريدمان تقاطع مع خبر نقله موقع أكسيوس الاستخبارى حول تحرك 143 عضوًا ينتمون للحزب الديمقراطى بالكونجرس الأمريكى لرفض مشروع «ريفيرا غزة»، وذلك عبر رسالة وَقَّعوا عليها ترفض اللغة الاستعمارية فى تصريحات الرئيس دونالد ترامب، سواء المتعلقة بالتهجير أو بشراء غزة والسيطرة عليها، وقالوا إن هذه الخطوة لا يمكن تبريرها من الناحية الأخلاقية، وإن من شأنها أن تُلحق الضرر بمكانة الولاياتالمتحدة عالميًا، وإنها تُعرض القوات الأمريكية للخطر وتؤدى إلى زيادة الإرهاب. وشددت الرسالة على أن تمسك ترامب بهذه التصريحات يهدد فرصة الولاياتالمتحدة فى العمل مع الشركاء العرب، وذلك فيما يخص إعادة إعمار قطاع غزة والتوصل إلى نهاية سلمية للصراع مع إسرائيل. الحقيقة أن ما يطرحه ترامب لا يلقى قبولًا فى الشارع الأمريكى، وذلك بحسب استطلاع للرأى أجرته منظمة «داتا فور بروجرس» الأمريكية، تم على عينة من 1200 أمريكى فى الفترة بين 8 و9 فبراير الجارى، حول آراء المشاركين عما طرحه ترامب بشأن غزة، عكس حالة من الرفض الشديد لمخطط ترامب، وأظهرت النتائج أن 64% من الأمريكيين يعارضون خطة الاستيلاء على القطاع وتهجير الفلسطينيين، وأكد 47% من المشاركين أنهم يعارضون الخطة «بشكل قاطع»، بينما قال 17% إنهم يعارضونها «جزئيًا»، وأوضح 69% من المشاركين أنهم يعارضون إرسال قوات أمريكية إلى الشرق الأوسط. مقال فريدمان ورسالة نواب الكونجرس الديمقراطيين واستطلاعات الرأى الرافضة تقول إن هناك أصواتًا أخرى فى واشنطن وإن رسالة الرفض العربية وصلت، وكان آخرها رفض عبد الله الثانى ملك الأردن للتهجير، وذلك خلال لقائه مع ترامب وحديثه عن بلورة موقف عربى موحد مبنى على خطة مصر، ويمكن العمل عليه بالتعاون مع الإدارة الأمريكية لإحلال السلام بالشرق الأوسط، وهى نفس الرسالة التى نقلها الدكتور بدر عبد العاطى وزير الخارجية خلال لقائه مع نظيره الأمريكى ماركو روبيو، والذى أعقبه تصريح من روبيو عن انفتاح واشنطن على الاستماع للخطة العربية. لا يتحدث العرب وحدهم لرفض مخطط التهجير، فهو عمل تدميرى لاستقرار المنطقة الهش ولكل ما حققته عملية السلام فى الماضى، وهو ما يعنى أن هناك صدى للرفض العربى فى الولاياتالمتحدة، وأن الإدارة الأمريكية يمكن أن تتفهم عدم واقعية طرح التهجير إذا كانت جادة فى البحث عن السلام، لأن الواقع يقول أيضًا إن اتفاق الهدنة الأخير - الذى تم برعاية مصر وقطر والولاياتالمتحدة وأنهى حرب ال15 شهرًا بين إسرائيل والفلسطينيين - تأثر بشدة بسبب خروقات إسرائيل وتصريحات ترامب عن التهجير، وأصبحت الحرب التى وعد ترامب بإنهائها قاب قوسين أو أدنى من اشتعالها مرة أخرى وفتح أبواب الجحيم التى وعد بها ترامب. والحقيقة أن أبواب الجحيم مفتوحة بالفعل على الشرق الأوسط، وذلك قبل تولى ترامب، والسبب هو حكومة بنيامين نتنياهو المتحالفة مع المتطرفين وحجم الظلم الذى تعرض له الفلسطينيون وصمت العالم أمام جرائم الإبادة الجماعية التى وقعت بحقهم والتأثيرات الاقتصادية والتجارية السلبية التى وقعت على دول الجوار، والتى تأثرت بها مصر ودول عديدة فى المنطقة. تقف الهدنة فى مفترق طرق، وبالتبعية ما تبقى من عملية السلام، وقدر مصر أن تتصدى لمنع الهدنة من الانهيار ورفض المساس بأمنها القومى وأشقائها، وأن تحافظ أيضًا على ثوابتها وطرح الحلول الواقعية بحديثها عن إعادة الإعمار دون تهجير للفلسطينيين، والالتزام القاطع بحل الدولتين كطريق واحد ووحيد للسلام. قال الشارع المصرى كلمته، وصَدَّق عليها الرئيس عبد الفتاح السيسى برفض مصر لمخططات التهجير القسرى للفلسطينيين، واعتبارها (خط أحمر) لا يمكن القبول بها، سواء فى مصر أو فى أية دولة عربية. والحكمة تقتضى العمل العربى مع الشركاء الدوليين وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة، من أجل وضع خطة اليوم التالى لقطاع غزة، وطرح المزيد من الأفكار لتحقيق مصالح الدول والشعوب، وأن تلتزم هذه الحلول بقواعد الشرعية الدولية وثوابت القضية الفلسطينية، وأن يكون التفاوض هو الأساس، مع التخلى عن لغة الاستعمار غير المقبولة واللا معقولة واللا منتظرة من الولاياتالمتحدة تجاه غزة، والاتجاه أكثر نحو لغة الإعمار والتنمية، حتى يمكن تحقيق مصالح الجميع وإغلاق أبواب الجحيم.