من أين جاء الغجر؟ من الهند؟ من السند؟ الله أعلم. ولا أحد يعرف نقطة البداية كأن تاريخهم هو ألف ليلة وليلة. من أين هاجروا وإلى أين؟ لا شىء مؤكد، لكن الأقرب أنهم فى كل مكان تقريبًا. يجتمعون معًا. يختلطون بالمجتمعات أحياناً. بعض الأعراق يرحب بهم والبعض يلفظهم، لكنهم أذكياء. ذكاء الأغراب. يلتقطون لغات الأقوام الذين يندسون فيها ويكتسبون لغات أهلها فيزداد غموض الأصل. لا يتعنتون فى شكل الحياة التى تخصهم. فجماعاتهم كبيرة أو صغيرة، مسألة تخضع للوطن الذى ارتحلوا إليه، لكنهم يحافظون على تقاليدهم وعاداتهم ويبتعدون عن أى فكر متحذلق، فيمتهنون الممارسات البسيطة كالصيد والطب العُشبى وألعاب السيرك، وبالتالى يبرعون فى خفة اليد والفنون الشعبية كالرقص والغناء. لا عداوة تبدو منهم تجاه الآخر، بل يعتنقون ديانة من يجاورهم، دون التخلى عن تقاليدهم. عندما ذهبوا إلى أوروبا اعتنقوا المسيحية، وفى البوسنة والهرسك اعتنقوا الإسلام. مع استبقاء ما يعتقدون فيه من ممارسات سحر وشعوذة توارثوها عن أجدادهم، ومازالوا يمارسون الطقوس التى تنتمى إلى عالم الأساطير وجديرة بدراسة الميتافيزيقا. بعض الغجر يؤمنون أن جدهم الحقيقى (قابيل) ابن آدم قاتل أخيه، أو قايين كما هو مذكور فى التوراة أو كين فى الثقافة الغربية. وهذا يفسر تشردهم فى الأرض بعد ضياع جدهم فى البرية بعد فعلته الشنعاء. رأى آخر عندهم يقول إن جدهم هو أحد أتباع السيد المسيح، لكنه شرب حتى أعماه السكر فأحجم عن الدفاع عن السيد المسيح وقت صلبه فحق عليه أن يهيم ويتشرد فى الأرض، لكن هذا المعتقد لا يصمد أمام أى تدقيق. وعلى كل حال فلم يكن فى جينات الغجر الرغبة فى تملك الأرض التى يستوطنون فيها. يمارسون المهن اليدوية المتاحة، لكنهم على استعداد للرحيل والهجرة فى أى وقت ولأى سبب، سواء ضاق بهم أهل البلد أو ضاق بهم الحال فى المعايش. حفل تاريخهم بالاضطهاد والتمييز العرقى ونسبت إليهم كل الجرائم والسرقات التى كانت تحدث بالجوار. وفى حالة ثبوت التهمة على أحدهم يجب أن يرحلوا جميعاً، فهم فى غير موضع ترحيب. والاتهام وإثباته والنفى، تتم كلها بلا محاكمة، أو بمحاكمة شعبية غالباً. يجتمع أهل البلدة بالمشاعل ويطالبون الغجر بالرحيل فأرض الله واسعة ونحن لا نريد ناسًا لا أصل لهم ولا فصل بيننا. اعتادوا على الترحال القسرى ودائماً ملابسهم وأدواتهم فى صناديق وأجولة جاهزة للسفر. بلاد الله خلق الله. عندما تحققت الغلبة للحركات الاشتراكية فى روسيا عند بدايات القرن العشرين، تحققت بعض المواطنة لجماعات الغجر ضمن حالة احتواء الأقليات بشكل عام أو فلنقل خف عنهم الكثير من الظلم، وبدأ الاهتمام بجمع القصص الشعبية منهم وترجمتها ونال بعضهم حق الجنسية فى بعض الدول كمواطنين من الدرجة الثانية، ولكن هذا أفضل من الوضع السابق. وفى مصر أطلقوا على الغجر العديد من مسميات الاستهانة مثل الحَوَش والنَوَر والأوباش، والنَوَر من الناس معروف عنهم دأبهم التطواف والترحال، يوجدون فى كل بلد وفى كل قارة، وربما كانت التسمية من النور أو الزهوة لأن الغجر حرصوا على جمال ملابسهم شكلاً فحفلت بالزركشة والألوان الزاهية، لكن رأيًا آخر يقول إن النور فى مصر تشير إلى النفور، والمعروف عن الغجر نفورهم من البقاء فى مكان واحد. وفى أوروبا يطلق على الغجرى رومى، والجمع روميون. متى ظهر الغجرى فى الأدب؟ ربما كانت أول مرة فى رواية شهيرة جداً هى (أحدب نوتردام) للفرنسى فيكتور هوجو (1802 - 1885) وتدور أحداثها فى القرن الخامس عشر وجاء وصف المؤلف لباريس فى هذا الوقت أن شعب الغجر كان يمشى فى المقدمة وعلى رأس صفوفه دوق بوهيميا فوق حصانه، مع كبار أعوانه ووراءهم ينطلق الغجريون والغجريات، فى فوضى بالغة مع صغار أطفالهم الذين كانوا يصرخون فوق أعناقهم! كلهم فى ثياب رثة وأزياء بالية. والباريسية عندما تسمع بقدوم الغجرية تصرخ بهلع: «غجرية! إنها قادمة لتسرق طفلى». كانوا لصوصاً وفقراء، يحملون ثيابًا رثة ولهم وجوه سمراء داكنة، يجتازون المدن والبلدان ونساؤهم من ورائهم يحملن أطفالهن فى جيوب على ظهورهم، أما النساء فسود الوجوه قبيحات الأجساد نتنات الرائحة، وإما من الشرق من مصر السفلى. النساء يكرهن الغجر لأن الغجرية لها القدرة على خطف أى رجل. كان يقال إنهم قادمون إلى صعيد مصر من بولندا وأن البابا قد قضى أن يدوروا العالم سبع مرات متواليات من دون أن يناموا فوق سرير تكفيرًا عن ذنوبهم، وكانوا يقرأون للناس خطوط مستقبلهم، وينسب إليهم كل فنون السحر والشعوذة وقراءة الطالع. ثم بعد كل تلك الأوصاف يأتى هوجو إلى الكلام عن (أزميرالدا).. بشكل استثنائى كما وصف نجيب محفوظ، حميدة فى زقاق المدق، فهى سمراء صغيرة دقيقة الجسم والملاح، جلدها له شعاع من ذهب، كانت ترقص وتدور وتثير من حولها إعصارًا عاصفًا فوق بساط فارسى عتيق، كانت الأنظار كلها موجهة إليها، كأنها كارمن، كأنها سالومى، والأفواه كلها فاغرة إذ كانت ترقص على صدى دقات دفها، كانت تبدو مخلوقة مما وراء الطبيعة، الحقيقة إن هذه إلا حورية. كان غناؤها رائعًا روعة رقصها، وجمالها الجسدى كان شيئًا ظريفًا مستعصيًا على التحديد، شيئًا صافيًا، رنانًا، هوائيًا. وكان من الطبيعى أن يقع فى غرامها كل الرجال: الشاعر الفيلسوف، الفارس القائد، وحتى الراهب الزاهد، وأخيراً كوزيمودو المشوّه قارع أجراس الكنسية. تتعاطف مع القائد دون علاقة آثمة، ويرق قلبها للأحدب، لكنها تحتقر الكاهن المقنع برداء الدين. وهكذا فأزميرالدا هوجو يستخدمها لتعرية المجتمع كأنيس الجليس فى ليالى ألف ليلة وزهيرة فى الحرافيش. إنهم يتهمونها بالسحر ويضعون حبل المشنقة حول رقبتها رغم أن الراهب المتزمت هو الذى نصب المكائد ودبر جرائم القتل للفوز بها! المجتمع زائف يجب أن يصدق رجل الدين، والباريسيات سخيفات لا همّ لهن سوى التزين والتأفف وهن أقل منها خلقًا وجمالاً. أيقن خوزيه أركاديو أن اليوم الذى باح عند ظهريته الخانقة بأسراره شهد بداية صداقة عظيمة واستأثرت حكايته العجيبة بإعجاب الأطفال حتى العبادة! هذا عندما التقى ملكيادس الغجرى برب الأسرة فى (مائة عام من العزلة) لماركيز.. وهى فرصة المؤلف الكولومبى الشهير لدمج الواقع بالغرائبى كعادته، فأهل القرية يكتشفون على يد الغجر عالمًا مسحوراً يحفل بالقصص العجيبة والأساطير. بل تتجلى الواقعية السحرية حسب نظرة هؤلاء، فعلى سبيل المثال يعرض عليهم الغجرى قطعة من حجر المغناطيس ولم يكن قد رأوه من قبل، فيشهقون انبهاراً ويعتبرونه أعجوبة الكيمياء الثامنة، بل إن أحدهم يقايض الغجرى حماره بقطعة المغناطيس وآخر بقطيع من الغنم ويرهنون مصاغهم ثمن نظرة من عدسة تقرب إلى عيونهم غجرية تستحم. حتى خوزيه نفسه يسقط فى فخ الانبهار بالعجائب الغجرية، فذات ظهر قائظ قاموا بعرض مدهش بالعدسة، ذلك أنهم وضعوا كومة من العشب الجاف فى منتصف الشارع وأحرقوها بتركيز أشعة الشمس. وفكر خوزيه أركاديو فى استخدام هذا الاختراع المدهش سلاحاً حربيًا. على خلاف الغجر فى الأدب الفرنسى الذى ينظر إليهم على أنهم فى الأغلب أوغاد ولصوص ونساؤهم خطافات الرجال، نجدهم من أصحاب الكرامات والابتكارات فى أدب أمريكا اللاتينية، فيقول أحدهم وهو يصف مهاراتهم البهلوانية وأدواتهم العجيبة: لقد تجاوز علم الغجر الحدود القصوى للمكان.. تحدث أشياء خارقة فى العالم وليس بعيدًا من الطرف الآخر من الجدول توجد كل أنواع الآلات السحرية، بينما نستمر فى حياتنا كالحمير. ملكيادس الغجرى فى (مائة عام من العزلة) يلغى الحواجز بين الواقعى والأسطورى كأنه عاش ألف عام وتفوق خبراته حياة أجيال ماكوندو مجتمعين، ينتقل ويغترب كثيراً يطارده الموت، يكتفى بأسماله، لكنه سلم من رذائل العالم وأرزاء الإنسانية، هذا الكائن العجيب. وحتى يحين قدره فهو ينجو من آلاف المخاطر كطائر العنقاء الذى يموت ليحيا، كأنه الشرطى الطيب فى ليالى ألف ليلة لمحفوظ، وكأنه عقيد ماركيز (أوزيليانو) وهو يعيش ذكرياته أمام كتيبة الإعدام. وفى رواية (علاقات خطرة) للأرجنتينى (جاريتا حميد) ترى أنوار الغجر عند أطراف الضفة الأخرى من النهر، صف من المشاعل الساهرة معلقة فى أعمدة الخيام ترفرف أنوارها على الماء فى رجفات متتالية كأنها تود لو تنطفئ، لكنها كانت تستشعر أن البشر بحاجة إليها، وإنها وإن تقطعت أنفاسها يمكن أن تبدو كنجوم تؤنس الخائفين أو الذين على وشك اليأس! وبين كل ذلك (كاثوبيا) ممشوقة القد، جمعت فى ملامحها تقريبًا كل جمال النساء، وعلى بدنها الأبيض تشكيلة لا نهاية لها من الملابس البديعة المكشكشة والممزقة والكاشفة لمساحات من التشكيل اللافت لجسد بض فوار عفى ورشيق. أما (يوسا) فيعتقد أنه يملك فى النساء نظرة خبير ويفهم فى جمالهن كما يفهم أينشتاين فى الطبيعة، يفهم فى الملاحة فقط، أما فى الطباع فتجاربه غير مشرفة. وكانت (كاثوبيا) تأمر وتنهى ويتقبل الكثيرون من الغجر ومن أهل البلد الأصلى ذلك على أنه من حقها، إذا هى لم تأمر فمن يأمر؟ بصعوبة بالغ تخلص (يوسا) من عبء محاولة الوصول إليها وتشبثه بحتمية الدخول معها فى علاقة وهو يتعلل بأنها على الشاطئ الآخر. فى كل ليلة يشاهد ما يشبه الأشباح على الضفة الأخرى، وفى الأحلام يرى عشرات الغجر فى أرويتهم الملونة وفى كل ليلة يستغرق فى القراءة، تتراءى له وجوه ضبابية وجسد (كاثوبيا) الفارع الطرى المتناسق وملامح الراقصات وقد خلت البشرة والعيون من لمسات الفجور، ترقص كأنها الحلم، بل كأنها تسبح على سطح بحيرة وقد تحولت إلى فراشة شقية لا تكف عن اللعب والانفلات بدلال وثقة، ينهل من وجهها المتعة الزائفة ويستعين بخياله على جسدها الفاتن الموهوم كى يخلص من ثورة الأشواق فى قلبه لا تكف عفاريت الشهوة المعذبة بالحرمان.