كيف تلتحق ببرنامج «سفراء الذكاء الاصطناعي» من «الاتصالات» ؟    محافظ الجيزة: عمال مصر الركيزة الأساسية لكل تقدم اقتصادي وتنموي    إحالة 3 مفتشين و17 إداريًا في أوقاف بني سويف للتحقيق    تيسير مطر: توجيهات الرئيس السيسى بتطوير التعليم تستهدف إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات    الاحصاء :بمناسبة اليوم العالمي للأسرة 26.5 مليون أسرة في مصر    محافظ الوادي الجديد : الاستمرار في تقديم سبل الدعم والتيسيرات للمزارعين    استعدادًا للصيف.. وزير الكهرباء يراجع خطة تأمين واستدامة التغذية الكهربائية    التأمينات الاجتماعية تقدم بوكيه ورد للفنان عبدالرحمن أبو زهرة تقديرًا لمكانته الفنية والإنسانية    ترامب يزور جامع الشيخ زايد خلال وجوده بالإمارات    تركيا: هناك محرقة تحدث الآن أمام البشرية جمعاء في غزة    باكستان تعلن تمديد وقف إطلاق النار مع الهند    النيابة تحيل رئيسة اللجنة الطبية باتحاد الكاراتيه وعدد من المسؤولين للجنايات    تحديد فترة غياب مهاجم الزمالك عن الفريق    حبس طالب وفرد أمن فى واقعة محاولة الامتحان بدلا من رمضان صبحى 4 أيام    ضبط سيدة تنتحل صفة طبيبة وتدير مركز تجميل في البحيرة    الإعدام شنقا لربة منزل والمؤبد لآخر بتهمة قتل زوجها فى التجمع الأول    بعد منعهما من الغناء.. «الموسيقيين» تعلن عن قرار جديد بشأن رضا البحراوي وحمو بيكا    طرح الإعلان التشويقي لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران» قبل عرضه بمهرجان كان السينمائي    أمام يسرا.. ياسمين رئيس تتعاقد على بطولة فيلم «الست لما»    بروتوكول تعاون لتدريب الصيادلة على معايير الجودة    لن تفقد الوزن بدونها- 9 أطعمة أساسية في الرجيم    محافظ الجيزة يكرم 280 عاملا متميزا بمختلف القطاعات    ضمن خطة تطوير الخط الأول للمترو.. تفاصيل وصول أول قطار مكيف من صفقة 55 قطارًا فرنسيًا    الاحتلال الإسرائيلى يواصل حصار قريتين فلسطينيتين بعد مقتل مُستوطنة فى الضفة    تصل ل42.. توقعات حالة الطقس غدا الجمعة 16 مايو.. الأرصاد تحذر: أجواء شديدة الحرارة نهارا    ماريسكا: جيمس جاهز لقمة اليونايتد وجاكسون أعترف بخطأه    وزير السياحة يبحث المنظومة الجديدة للحصول على التأشيرة الاضطرارية بمنافذ الوصول الجوية    جامعة حلوان تطلق ملتقى لتمكين طالبات علوم الرياضة وربطهن بسوق العمل    زيلينسكي: وفد التفاوض الروسى لا يمتلك صلاحيات وموسكو غير جادة بشأن السلام    متحف شرم الشيخ يستقبل زواره الأحد المقبل مجانًا -صور    موريتانيا.. فتوى رسمية بتحريم تناول الدجاج الوارد من الصين    البدري: أشكر الرئيس السيسي ولم أفسخ عقدي مع أهلي طرابلس    محسن صالح يكشف لأول مرة تفاصيل الصدام بين حسام غالي وكولر    افتتاح جلسة "مستقبل المستشفيات الجامعية" ضمن فعاليات المؤتمر الدولي السنوي الثالث عشر لجامعة عين شمس    محافظ الإسكندرية يشهد ندوة توعوية موسعة حول الوقاية والعلاج بديوان المحافظة    "فشل في اغتصابها فقتلها".. تفاصيل قضية "فتاة البراجيل" ضحية ابن عمتها    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    أشرف صبحي: توفير مجموعة من البرامج والمشروعات التي تدعم تطلعات الشباب    تحت رعاية السيدة انتصار السيسي.. وزير الثقافة يعتمد أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير في دورتها الخامسة    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    عامل بمغسلة يهتك عرض طفلة داخل عقار سكني في بولاق الدكرور    رئيس إدارة منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع امتحانات شهادة القراءات    شبانة: تحالف بين اتحاد الكرة والرابطة والأندية لإنقاذ الإسماعيلي من الهبوط    مسئول تركي: نهاية حرب روسيا وأوكرانيا ستزيد حجم التجارة بالمنطقة    فتح باب المشاركة في مسابقتي «المقال النقدي» و«الدراسة النظرية» ب المهرجان القومي للمسرح المصري    فرصة أخيرة قبل الغرامات.. مد مهلة التسوية الضريبية للممولين والمكلفين    إزالة 44 حالة تعدٍ بأسوان ضمن المرحلة الأولى من الموجة ال26    تشكيل منتخب مصر تحت 16 سنة أمام بولندا فى دورة الاتحاد الأوروبى للتطوير    ترامب: الولايات المتحدة تجري مفاوضات جادة جدا مع إيران من أجل التوصل لسلام طويل الأمد    جهود لاستخراج جثة ضحية التنقيب عن الآثار ببسيون    تعديل قرار تعيين عدداً من القضاة لمحاكم استئناف أسيوط وقنا    رفع الحد الأقصى لسن المتقدم بمسابقة «معلم مساعد» حتى 45 عامًا    وزير الخارجية يشارك في اجتماع آلية التعاون الثلاثي مع وزيري خارجية الأردن والعراق    حظك اليوم الخميس 15 مايو وتوقعات الأبراج    أمين الفتوى: لا يجوز صلاة المرأة خلف إمام المسجد وهي في منزلها    أيمن بدرة يكتب: الحرب على المراهنات    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حكم الأذان والإقامة للمنفرد.. الإفتاء توضح هل هو واجب أم مستحب شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة قراءة مائة عام من العزلة
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 04 - 2014

منذ بضعة أشهر، فرغت من كتابة رواية طرحت علي الكثير من المشاكل غير المتوقعة، وحول هذه الملاحظة الأوتوبيوغرافية القصيرة، أنشأت أكتب هذه الأسطر. اسمها المؤقت "التاريخ السري لكوستاغوانا". وكوستاغوانا ، لمن يتذكر، بلد أمريكي-لاتيني تخيلي، تبدأ في جوانبه أحداث رواية "بوجه آخر" ، احدي أهم روايات جوزيف كونراد (1).
تبدأ روايتي من فرضية : الامكانية، المذكورة في غالب الأحايين، التي بواسطتها دعس كونراد الأرض الكولومبية وهو لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره، ثم بعد فترة طويلة كتب روايته "بوجه آخر"، مرتكنا، في جانب كبير منها، علي التاريخ السياسي الكولومبي خلال القرن التاسع عشر. راوي روايتي رجل غريب الأطوار الي حد ما، وهو المصدر الوحيد للمعلومات المستقاة عن كونراد. خلال ثلاثمائة صفحة، يحكي لنا ما رواه لكونراد وكذا ما رأي الي أنه يمثل قصة حياته، بالتأكيد، ولكن أيضا بالتزامن مع تاريخ كولومبيا، الحروب الأهلية الأولي التي جرت خلال القرن التاسع عشر وقت الانفصال عن بنما في عام 1903.
هل هي طريقة أخري لقراءة مائة عام من العزلة ؟
وهكذا للمرة الأولي منذ بدأت أصدر كتبا، وجدت نفسي أسطر، بايجاز وبطريقة غير مباشرة، بعض الموضوعات المتعلقة بهذه اللعنة المسماة "مائة عام من العزلة"، لدي الكتاب الكولومبيين. وبالتالي قمت بما لم أقمه من قبل، وبدأت أقرأ "مائة عام من العزلة" كروائي. في الواقع، حتي هذه اللحظة، قرأتها بترفع وبشيء من التهكم علي من يسمع بصبر حكايات الجد : معجبا بخاصيتها الصريحة كعمل رائد، ولكن واعيا في نفس الوقت من كونها لن تفيدني. ولذلك طرحت علي نفسي السؤال التالي :
هل هناك طريقة أخري لقراءة "مائة عام من العزلة" ؟
اذا، كرست بعض الوقت لهذا الشأن : التأويل السييء للرواية، تحويلها الي شيء آخر مختلف عما قرأه القراء منذ ما يقارب الأربعين عاما. الشيء الأول الذي أقوم بصدده، يتمثل في التخلص من بعض الأفكار المكتسبة، وعلي وجه التحديد التخلص من يافطة "الواقعية السحرية" الملتصقة بالرواية. ولكنني لن أفعل، مثلما يفعل البعض، بالقول إن الواقعية السحرية ليس مفهوما أمريكيا-لاتينيا، وانما مفهوما ألمانيا. ولن أذكر أيضا أن الناقد الفني فرانتس روه كان من الأوائل الذين استعملوه، ليس للكلام عن الأدب وانما عن التعريف بمدرسة جديدة في التصوير بدأت في الظهور وقتذاك في مواجهة التعبيرية. لن أرجع الي هذه الأدلة، لأن النقاش حول قومية المصطلحات يتبدي لي عبثيا، وقليل الأهمية علي وجه الخصوص. وفي المقابل، يتبدي لي أكثر أهمية الاستناد الي (الكاتب الكوبي) آليخو كاربنتر ودراسته المهمة "عن الواقع السحري في أمريكا اللاتينية".
يقال إن كتاب "عن الواقع السحري في أمريكا اللاتينية"، ضرب من البرنامج أو النظام الذي يصور أو يحدس قواعد لعبة الواقعية السحرية. نشر للمرة الأولي، تحت شكل مقدمة مختزلة، في الطبعات الأولي من "مملكة العالم" (1949)، وقبل قراؤنا علي وجه العموم بلا تردد أن مقدمة كاربنتر تسمح "بمجيء " كتب عظيمة تنتمي الي هذا التقليد، وبالأخص "مائة عام من العزلة". ولكن يتبدي لي توفر شيء من التشوش اللافت للنظر هنا. لنقل مرة واحدة وللأبد أن "عن الواقع السحري في أمريكا اللاتينية" فعل من أفعال تأنيب الضمير.
في عام 1927، أعتقل آليخو كارنتر لتظاهره ضد الدكتاتور الكوبي جيرالدو ماتشادو، وهناك، في زنزانته، التي مكث بها تسعة أيام، كتب روايته الأولي "Ecué-Yamba-". ومنذ أطلق سراحه، سافر كاربنتر الي باريس، ونشك أنه سعي الي الهروب، ليس من ماتشادو، وانما من هذه الرواية. هذه الرواية، بدخوله الي اللعبة، كانت بالنسبة له كما الهفوة، نموذج جديد للبلاغة المنهكة الخاصة بالواقعية الأمريكية-اللاتينية. في باريس، تعارف كارنتر الي السورياليين وأفتتن بالبحث عن واقعة لا تستخف بعالم الأحلام، ولكنها تثري به، وبالتالي واقعة تقر بكل ما أستبعدته واقعية القرن العشرين دفعة واحدة. أنشأ يفكر في كون السوريالية قدمت أدوات ثمينة لتأويل الواقعة الأمريكية، التي تعتبر واقعة ثرية للغاية عما نراه منها للوهلة الأولي.
في أمريكا، السحري جزء من الحياة اليومية
بعد سنوات عدة وإثر رحلته لهايتي، في عام 1943، تجلي للكاتب شيء ما : بالاتصال مع واقعة جزر الكاريبي الثرية، اكتشف كاربنتر أن السحري في أمريكا له جذور مختلفة. لا تظهر الواقعة في استراتيجيات السوريالية، في الكتابة الألية أو في "هذا الزيف العتيق للقاء الطارئ الذي جري بين مظلة وآلية حياكة علي طاولة التشريح" (اشارة الي "أغاني مالدورور" للوتريامون). في أمريكا، يمثل السحري جزءا من الواقعة اليومية. لا يولد من فقد الحنو الأوروبي لواقعية القرن التاسع عشر، وانما يولد من الايمان، الايمان بمعجزات الناس. حتي هنا، كل شيء يعمل علي أفضل وجه. وبعد ذاك، تجاهل كاربنتر الدجالين السورياليين، وفي هذا الصدد ليس علينا الا اقتفاء أثره. ولكن، من الآن فصاعدا، انكب علي تعريف الواقع السحري. وهنا تصبح الأشياء موضع التساؤل.
كتب كاربنتر : "يبدأ السحري في الوجود من دون لبس حينما ينبثق من التحريف غير المتوقع للواقعة (المعجزة)، من التجلي المتميز للواقعة، من التنوير غير المألوف أو الاطراء بالثراء غير المنتظر من الواقعة علي وجه الخصوص، من الاهتمام بتصنيفات وخواص الواقعة، التي تم ادراكها بقوة فريدة بفضل تعظيم الروح التي تقود (السحري) الي شيء من الحالة المحدودة". لنمض الي هذه الصورة البلاغية غير المتوقعة المؤسسة علي استعمال أربع صيغ مختلفة للتعبير عن نفس الفكرة. بالمقابل، نفكر مليا في كلمتين أزعجتاني الي أقصي درجة : "تعظيم الروح". هو ذا، كما يتبدي لي، لب الفكرة الرئيسية للبحث، الذي يتمثل في وجود السحري في حياة أمريكا اليومية. في الواقع، اذا كانت الواقعة الأمريكية تتضمن السحري بطريقة عفوية، فإن تعظيم الروح وكذا "حالة محدودة" وهو أيضا تعبير مزعج ذ .
، كما يتبدي لي، سهلة : تبني كاربنتر عيني أحد الأوروبيين لكي يكتب أطروحته. بالنسبة لي، الاستعانة بهذه الفقرة، يعني اكتشافا غير مختلف في جوهره عن جوهر أخبار الهنود، بما أن انبهار كاربنتر بالواقع الخيالي لأمريكا غير بعيد عما عاشه كريستوفر كولومبس وهو يري الي عروس بحر في بحار الكاريبي (نظر المستكشفون الأوائل الي عروس البحر علي اعتبار أنها خروف البحر). أمريكا اللاتينية، كقارة سحرية وسكانها ككاتمي أسرار معجزة الأراضي البكر، هي بلاغة "المتوحش الطيب" علي وجه الاجمال : هذه السذاجة تلوث الواقع السحري الذي أقترحه كاربنتر. في الواقع، في هذا النص، من فرط التفكير في أمريكا اللاتينية، كف الكاتب الكوبي عن أن يكون أمريكيا-لاتينيا لكي يصبح مناصرا للنزعة الأمريكية-اللاتينية.
بدأت أقرأ "تعظيم الروح"، بدأت أقرأ "حالة محدودة"، وهنا يتأتي لي الدفاع عن شيء ما يتبدي لكم غريبا : علي خلاف ما نعلمه منذ عقود، لا يرتبط الواقع السحري بأي رابطة مع رواية "مائة عام من العزلة"، بما أن السحري فيها بعيد عن أن يقود القارئ الي أي حالة محدودة، بعيد عن تعظيم الروح بأي طريقة من الطرق، ولا يثير دهشة أي شخص. وهذا، في حد ذاته، كاف نوعا ما : في "مائة عام من العزلة"، لا يمتلك السحري ما هو سحري. في "حكاية قاتل الاله" (2)، كرس ماريو بارغاس يوسا خمس صفحات لاختبار ما اعتبره النسق الذي يعرف بصورة فضلي ما يسمي "بالواقعية السحرية". تتذكرون بدون شك هذه الظهيرة البعيدة حيث اصطحب خوزيه آركاديو بوينديا ابنيه لكي يتعرفا الي الجليد. وقبل هذا المشهد، شرد خوزيه آركاديو بوينديا بين الغجر، وهو يبحث عن ملكياديس. "وهناك وقع بصره علي رجل أرمني قليل الكلام، يتحدث الاسبانية عن اكسير سائل يحول المرء الي انسان غير مرئي
وقد أدار في حلقه جرعة واحدة، كأسا من تلك المادة العنبرية، عندما استطاع خوزيه أركاديو بوينديا أن يشق طريقه بعنف عبر الجماعات المحتشدة لحضور المشهد، فاغرة أفواهها، واستطاع خوزيه أن يطرح سؤاله. وتفحصه الغجري بنظرة باهتة، فيما هو فيه من مظهر مخيف، قبل أن يحول بصره الي بركة صغيرة من الزفت ينبعث منها دخان كريه الرائحة، ليطفو من فوقها صدي جوابه : "مات ملكياديس". وصعق خوزيه آركاديو بوينديابالنبأ. وحاول أن يتغلب علي الحزن الذي جلبته له هذه الصفعة الرهيبة، بينما تفرق الناس يبحثون عن ألاعيب جديدة، وتبخرت بركة الأرمني الصامت فلم يبق منها شيء، وظل خوزيه ذاهلا في مكانه" (3).
وبعد هذه الفقرة، تابع خوزيه آركاديو طريقه نحو الخيام التي تخفي "الاختراع السحري لعلماء ممفيس"، التي لا يمكن أن تكون سوي كتلة الجليد. العملاق الذي يحمي الصندوق طلب خمسة ريالات لكي يتركه يلمس الأعجوبة.
رؤية متناقضات
"الروح المعظمة"
"فدفع خوزيه أركاديو بوينديا المبلغ ووضع يده علي الجليد بضع دقائق، وقد شعر بفرح ممزوج بالخوف لمجرد ملامسته للسر". لنحكم علي الأمر : أمام الغجري قليل الكلام الذي يتحول الي بركة من القطران، خوزيه آركاديو بوينديا تحت تأثير الصدمة، ليس بسبب تحول الغجري، وانما بسبب الحكاية التي أسرها اليه. وبالمقابل، حينما لمس هذه التفاهة الكبيرة التي تمثلها كتلة الجليد، "شعر بفرح ممزوج بالخوف لمجرد ملامسته للسر". في المشهد الأول، لا توجد أي صفة، لا توجد أي استعارة تشير الينا بأن تحول الرجل الي بركة من القطران أمر استثنائي، وفي المشهد الثاني، الشيء العادي في العالم تأتي علي أعتبار كونه أمرا خارقا. وهذا التحول هو الذي يعرف، كما يتبدي لي، "مائة عام من العزلة". هذه المقايضة، للمرة الألف، تخلق الرؤية الفريدة لما هو سحري الذي تمثله الرواية. تلك رؤية لمتناقضات "الروح المعظمة" لدي آليخو كاربنتر، ولكن أيضا متناقضة معها. بمعني، هذه القراءة تطرح سؤال (نسب) "مائة عام من العزلة" للتقاليد المتحققة، كما يقال لنا، من دراسة كارنتر. في هذه الظروف، هل من الممكن أن نقرأ أيضا "مائة عام من العزلة" في اطار نسل الواقع السحري في أمريكا اللاتينية ؟ ككاتب كولومبي، أجد نفسي مضطرا، تحت حكم الاعدام، للبحث عن قراء آخرين. ولهذا أقترح عليكم أمرا اعتباطيا، غير مبرر، نزوة مخجلة الي حد ما. أقترح عليكم قراءة "مائة عام من العزلة" كرواية تاريخية. بعد الاقرار، الذي يراه الكثيرون الي كونه مزحة، أجد ضرورة البدء بتفسير ما أريده من رواية تاريخية. تلخص آنطونيا بيات، مؤلفة احدي أكبر الروايات التاريخية والتي فكرت في هذا الجنس الأدبي بشيء من التوفيق والذكاء، انشغالات عدد كبير من الروائيين الذين كتبوا عن الماضي. "علي مدار حياتي الأدبية، قالت، كان ينظر الي الرواية التاريخية باحترام أو بالرفض، من قبل الآكاديميين كما من قبل نقاد الأدب. في الخمسينيات، كانوا يدرجونها ضمن "أدب الهروب"، والفكرة تستدعي تواريخ القلوع والسيوف، السيدات المرتديات التنورات المنتفخة، مشدات الظهر والصدر، أشرعة في معارك دموية". فهمتم، أتحدث عن شيء آخر. أرجع مرة أخري الي كلمات الغير. "لا يجب الخلط بين شيئين"، هكذا قال ميلان كونديرا لنا في "فن الرواية" (غاليمار، 1986). "من ناحية، هناك الرواية التي تختبر البعد التاريخي للوجود الانساني، ومن ناحية أخري، هناك تلك التي تعتبر ابانة لوضع تاريخي معين، وصف مجتمع في لحظة معينة، أو تأريخ مروي". مع كلمة "تأريخ"، نتخيل الكاتب يجري أبحاثا عن الفراعنة أو يستعلم عن المأكولات المقدمة خلال مرحلة آل ميديسيس، ويدرج عناصره في روايته، المكتفية بالاحتمالات المتحصل عليها. هذا النوع من الرواية لا يثير اهتمامي ألبتة، لحجة بسيطة للغاية : التأريخ يكتب تاريخ المجتمع، وليس تاريخ الانسان.
بمعني آخر، هذه الروايات لا تثير اهتمامات الأفراد، ولكن قماشة الجوهر، ولا تتحري ما أسماه كونديرا بالبعد التاريخي للذات الانسانية، وانما تعمم الأفعال التي نعرفها جميعا. أنها روايات تشوه فن الرواية، علي الأقل اذا اعتقدنا، كما كونديرا وأنا أيضا، أن الحجة الوحيدة لوجود الرواية يتمثل في أن تقول، هي فقط، ما يمكن قوله.
فن العوج
ولكن هناك روايات أخري وكتاب آخرون، أصوات أخري ومجالات أخري، مجمعة في اطار سيرورة التاريخ المعقدة، من خلال وسائط يختبرها التأريخ، بينما لا يملك التاريخ نفسه والقراء سوي تحيته. هؤلاء الروائيون اكتشفوا أن ارثهم يكمن في الحرية، الحرية الكبري لمبدع الخيال الذي منحهم حق تعديل الكرونولوجيات، تغيير الديكورات، تدمير السببيات. بدون تكوين مدارس، بدون التوقيع علي البيانات، أدرك كثير من الكتاب، من ذوي اللغات المختلفة، أن توفر رواية تاريخية أخري أمر ممكن، حيث إن القوة كلها تكمن فيما أطلق عليه "فن العوج".
احدي هذه الروايات "مائة عام من العزلة". ولكي أبلور، وهذا لن يتأتي الا بايجاز، الفظاظة الجميلة التي بواسطتها يجابه هذا النوع من الرواية مسخ التاريخ، أجد أنه لا يوجد الا أفضل مرحلة في التاريخ الكولومبي، وهي مرحلة مجزرة مزارع الموز، في 6 ديسمبر 1928. ربما تعرفون ما جري آنذاك : الشركة الأمريكية، "يونايتد فروت كامباني"، التي تستغل من بداية القرن العشرين مزارع الموز، في الضفة الكاريبية، قامت بها في تجاهل تام لقانون العمل الكولومبي، وهدد عمالها كثيرا بالاضراب. وفي الخامس من ديسمبر، سرت اشاعة بين العمال أن حاكم ولاية ماغدالينا سيزور القرية في الغد لكي يستمع الي شكاوهم.
جمع مضطرب يتجمع في محطة القطار ويرفض أن يتفرق علي الرغم من قرار القائد العسكري للاقليم، الجنرال كورتيز بارجاس، بمنع اجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص، واعلانه أنه سيطلق الرصاص علي الجمع ان لزم الأمر. منح العسكريون العمال خمس دقائق لكي يتفرقوا، وبعدها سيطلقون الرصاص بلا تبصر. اعترف الجنرال كورتيز بارجاس بالحدث، وبرره بالحفاظ علي النظام العام وتأسف علي مقتل تسعة متظاهرين. بعد ذاك، تحدث سفير الولايات المتحدة عن موت مائة عامل، ثم خمسمائة أو ستمائة. وفي تقرير مرفوع الي مديرية الاقليم، انتهي الأمر الي ألف قتيل. لم يعرف أحد أبدا الرقم الصحيح، ولكن أحداث هذا اليوم، وعلي وجه الخصوص استحالة التأكيد علي الحقيقة التاريخية، ظلت محفورة في الذاكرة الثقافية الكولومبية. رسام الكاريكاتور ريكاردو رندون خلدها في الصحافة القومية، والروائي الكبير آلفارو سيبيدا ساموديو، كرس عنها رواية بأكملها، "البيت الكبير"، ثم تحري غابريال غارسيا ماركيز عنها في فصل من أجمل فصول "مائة عام من العزلة".
لا أملك هنا الوقت ولا المساحة الضرورين لكي أحصي كل الطرق الحاذقة التي تباشرها الرواية لتغيير الواقعة التاريخية كما سردتها الكتب، وانما المثير للاهتمام، من وجهة نظري، الطرق التي لا تباشرها، الأسطر التي خطها غارسيا ماركيز وهو يعيد انتاج المعطيات التاريخية بوفاء الموثق التاريخي. يكشف التاريخ وهو محمول في سياق آخر غير سياقنا ومحاط بحكايات مختارة بعناية من قبل الراوي لنا أسراره بكرم أكثر مما يقدمه لنا التأريخ الرسمي الشامل. وأيضا، استغلال الواقعة التاريخية من قبل الروائي يفضي الي الكشف عن الحقائق الكثيفة للغاية أو الثرية للغاية عن الحقائق المتواطئة أو المتراصة في التاريخ. في مشهد مجزرة مزارع الموز، تجسد "مائة عام من العزلة": معرفة التاريخ، أو بالأحري فكرة أن التاريخ، بما أنه حكي لنا كل شيء، ليس الا رواية. التاريخ كعمل تخييلي : لهذا الاقتراح، الذي جعل المؤرخون في نهاية الستينيات (من القرن الفائت) يقعون في أزمة لم يخرجوا منها أبدا، أثر في تحرير امكانيات الرواية. لأن، كما قالت آنطونيا بيات، " فكرة أن التاريخ عمل تخييلي ولد أهمية جديدة للعمل التخييلي كتاريخ".
أذهب بعيدا : فكرة أن التاريخ عمل تخييلي يسمح للعمل التخييلي أن يربح حرية مستحدثة، وهي حرية تغيير التاريخ.
روائي يفتح طرقا جديدة
في "تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف فصل" (ستوك، 1990)، كتب جوليان بارنس: "نبتكر تواريخ لكي نخفي الأحداث التي لا نعرفها، نحافظ علي بعض الأحداث الحقيقية وننسج رواية جديدة حولها. فقط التحريف من الممكن أن يخفف من خوفنا وألمنا : وهذا ما يطلق عليه التاريخ". وبالتالي، ألا تعمل "مائة عام من العزلة بالضبط في هذا الاطار؟ ألا تسمح قراءتها حسبما هذه المفاتيح لنا، لروائيينا، بنسبها الي الرواية ؟ ظهور القسس الذين يرتفعون عن الأرض وهم يحتسون الشكولاتة، الجميلات اللائي يصعدن الي السماء بالملاءات، هذا الابتكار للسحر الجزئي والعبثي أخفي الامكانيات المحتملة للرواية.
أشرح: اذا كان من الصواب أن هناك روائيين خصبين (هؤلاء الذين يفتحون طرقا للآخرين) وروائيين عقيمين (هؤلاء الذين يغلقون طرقا أو لا يتركونها مفتوحة الا للمقلدين الكسالي)، فإن قراءة "مائة عام من العزلة" تحت زاوية الواقعية السحرية تمثل دليلا علي عقمه، بانتاج توليفات منهكة لا نهائية في العالم بأسره أو، بصورة سيئة أيضا، توليد العجز لدي قراءه المفتونين. بالمقابل، اذا قرأناها تحت زاوية العوج التاريخي، تجد الرواية كل خصوبتها وتفتح لنا طرقا جديدة لقراءة بعض كبار الروائيين المعاصرين.
تعتبر قراءة "أطفال منتصف الليل" (دار 10/18، 2006) لسلمان رشدي، كنموذج هندي للواقعية السحرية، تجربة غير منتجة وعقيمة، ولكن قراءتها كوريثة "مائة عام من العزلة"، حسبما العوج التاريخي، يبين اكتشافاتها الفضلي تحت زاوية جديدة. حينما يخطئ سليم سيناي في تاريخ موت غاندي ولا يصوب خطأه، يقوم بعمل أكثر أهمية حينما يتواصل بالتخاطر مع أحد أصدقائه. وما يناسب سلمان رشدي يناسب الأسترالي بيتر كاري والتركي أورهان باموق. هؤلاء الكتاب، الذين قرأت لهم وأنا شبه منوم مغناطيسيا بينما كنت أكتب روايتي عن كونراد والقرن التاسع عشر الكولومبي، ألتصقوا بتاريخ بلادهم لكي يعيدوا بناءه بتغييره.
اعادة بنائه، كما قال ماريو بارغاس يوسا، يتحقق مع "شيء ما فائض". بالنسبة للروائي، الكتاب المهمون هم الذين يسمحون له بفعل أشياء أعتقدها ممنوعة. بالنسبة لي، أستطيع القول أن كتابة روايتي كانت أقل صعوبة منذ قرأت هذه الأقوال لأورهان باموق : "لا يتمثل تحدي الرواية التاريخية في انتاج المحاكاة الناجزة مع الماضي، وانما سرد التاريخ بشيء جديد، من اثرائه وتغييره بفضل الخيال وحساسية التجربة الشخصية". هكذا رأيتم : في أسطر قليلة، بين أورهان باموق تشابه التاريخ الرسمي المروي ونطق لفظة ملعونة "تغيير". تغيير التاريخ؟ ألم يتجاوز الحدود؟ لا أعتقد : حينما يقال لنا إن التاريخ عمل تخييلي، يفهم روائيونا الآخرون أن الوسيلة الوحيدة للكشف عن الماضي هي معاملته كنتاج سردي.
خوان غابريال فاسكيز، كاتب كولومبي معاصر. ولد في بوغوتا في عام 1973 .
(1) جوزيف كونراد (1857 1924)، روائي إنجليزي-روسي الأصل ولد فيما يعرف بأوكرانيا البولندية. عمل بالملاحة. كتب عدة روايات منها : "قلب الظلام"، "العميل السري"، "النصر" و"تحت عين غريبة ". وروايته "بوجه آخر"، صدرت في عام 1904 .
(2) رسالة الدكتوراه التي كتبها ماريو بارغاس يوسا عن ماركيز.
(3) استعنت بترجمة د. محمد الحاج خليل لرواية "مائة عام من العزلة"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.