«أمير القراء بلا منازع»، بهذا اللقب ذاع صيت الشيخ «مصطفى إسماعيل»، فى المشرق والمغرب، لما تميز به من حلاوة فى الأداء، ورقى فى الأسلوب، وطلاوة فى الصوت، فكان كما وصفه مشايخ وقراء عصره، أعظم صوت بين قارئى القرآن بعد الشيخ «محمد رفعت». فى قرية ميت غزال بمركز السنطة محافظة الغربية ولد الشيخ مصطفى إسماعيل، وعند بلوغه خمس سنوات ألحقه والده بكُتاب القرية، ليتم حفظ القرآن الكريم، خاصة أنه كان يتميز بحلاوة الصوت، وسرعة الحفظ، لكنه كان كثير الهرب من الكُتاب، وكان شيخه يضربه بشدة، ثم يذهب به إلى جده ليضربه هو الآخر، عقابًا له على هربه، حتى توقف عن الهروب تمامًا، واستمر فى الحفظ والقراءة فأتم حفظ القرآن قبل أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره، وفى إحدى المرات عندما كان يقرأ القرآن أمام شيخه ومحفظه، استمع إليه أحد المشايخ الكبار فى علوم القرآن، فسأل عنه، ثم ذهب إلى جده وأخبره بأن حفيده سيكون له شأن عظيم، إذا نال قدرًا كافيًا من تعُلم أحكام القرآن، ونصح جده أن يذهب به إلى المعهد الأحمدى بطنطا، ليزداد علمًا بأحكام الترتيل والتجويد والقراءات. ألحقه جده بالمعهد الأحمدى، قبل أن يتجاوز الثامنة عشرة، لكن الشيخ الصغير ترك المعهد قبل أن يتم دراسته، كما ترك المسكن الذى كان يقيم فيه مع زملائه بالمعهد، ليقيم فى بنسيون فى مدينة طنطا، لينصرف إلى قراءة القرآن فى الحفلات والسهرات والمآتم، الأمر الذى دفع زملاءه بشكواه إلى جده، الذى ذهب إليه فى البنسيون الذى يقيم فيه، وعنّفه بشدة، حتى يثنيه عن ترك المعهد، فسأل جده: هل تحب الشيخ محمد رفعت؟، فقال له جده: نعم، فقال مصطفى إسماعيل إذًا «دعنى فى طريقى الذى اخترته لنفسى وسوف أحقق لك هذا الأمل»، ثم أعطى جده ثلاثين جنيهًا ليشترى له نصف فدان أرضًا بالقرية، فتركه جده وقتها بعدما أيقن أن حفيده أصبح رجلاً يعتمد عليه. عندما كان مصطفى إسماعيل يدرس فى المعهد الأحمدى، على يد الشيخ محمود حشيش، نصحه بالذهاب إلى القاهرة، والانضمام إلى رابطة القراء، وفى أحد الأيام سافر الشيخ «مصطفى» إلى القاهرة لشراء بعض الأقمشة، وهناك تذكر نصيحة شيخه بالانضمام إلى الرابطة، فذهب إلى مقر الرابطة بحى الحسين، وفيها التقى بالشيخ «محمد الصيفى» رئيس الرابطة، الذى طلب منه عشرة قروش قيمة الاشتراك الشهرى، فقال له إسماعيل إنها لا تكفى وأخبره أنه سيرسل له جنيهًا كل شهر، فسأله رئيس الرابطة عن اسمه، فقال له الشيخ الصيفى: إذًا أنت من يتكلم عنه المشايخ والقراء هنا فى القاهرة،، ثم طلب منه الشيخ الصيفى أن يأتى فى الغد ليعرفه على كبار القراء فى الرابطة. وبالفعل ذهب الشيخ إسماعيل إلى الحسين، وهناك كان موعده مع الشهرة والتألق فى عالم التلاوة، فى هذا اليوم بداية عام 1943 كانت الإذاعة المصرية سوف تنقل حفلاً على الهواء من مسجد الحسين، وكان الشيخ الذى سيحيى الحفل هو الشيخ «عبدالفتاح الشعشاعى»، لكنه لم يحضر، فأجلسه الشيخ الصيفى على دكة القراء لإحياء الحفل، الأمر الذى قوبل بالرفض من قبل مسئولى الإذاعة حيث إن الشيخ الجديد غير معتمد بها، ولكنهم استسلموا فى نهاية الأمر، فقرأ الشيخ إسماعيل لأول مرة له على الهواء لمدة نصف ساعة، وسط تهليل جمهور المستمعين، وبعد انتهاء الفقرة المذاعة على الهواء أقبل عليه الجمهور يقبلونه، ويطلبون منه المزيد فاستمر فى القراءة حتى انتصف الليل. حكاية القصر عندما نقلت الإذاعة المصرية الحفل الأول للشيخ إسماعيل، استمع الملك فاروق للصوت الجديد، فأعجب به، وأصدر مرسومًا ملكيًا بتكليف القارئ الجديد قارئًا للقصر، وبعدها حاول «محمد باشا سالم» السكرتير الخاص للملك فاروق، الوصول إلى الشيخ الجديد، ولكنه لم يصل إلى أى معلومات عنه، وأخبروه فى الإذاعة أنهم لا يعرفون سوى اسمه، وأنه قارئ مجهول، قدمه لهم الشيخ «محمد الصيفى» رئيس رابطة القراء، فتواصل سكرتير الملك مع رئيس الرابطة، وعرف منه عنوانه، وبينما كان الشيخ «مصطفى» جالسًا بين أهله فى قرية ميت غزال بطنطا، إذ به يفاجأ بعمدة القرية، ومأمور المركز يقتحمان بيته، ويطلب منه المأمور السفر إلى القاهرة، والذهاب إلى القصر الملكى، لمقابلة «مراد باشا محسن» ناظر الخاصة الملكية، وفى قصر عابدين، هنأه «مراد باشا» بتقدير الملك لصوته، وإعجابه بموهبته، وأخبره بصدور المرسوم الملكى بتكليفه قارئًا للقصر لإحياء ليالى رمضان. أما العلاقة بين الشيخ «محمد رفعت» والشيخ «مصطفى إسماعيل» فهى قديمة، بدأت فى قرية ميت غزال، وقتها لم يكن سن الشيخ «مصطفى» قد تجاوز السابعة عشرة، حينها توفى واحد من أشهر سميعة القرآن فى مصر، ومن أكبر الداعمين للشيخ «مصطفى» فى طنطا، وهو «حسين بك القصبى» عضو مجلس الشيوخ، أحد كبار الأعيان فى طنطا، وعندما علم «مصطفى» بوفاة القصبى، قرر أن يشارك بالقراءة فى مأتمه، وكان أهل «القصبى بك» قد استدعوا الشيخ «محمد رفعت» للقراءة، وفى المأتم حل الشيخ «إسماعيل» ضيفًا على دكة الشيخ «رفعت» الذى لم يكن يعرفه، وبعد انتهاء «رفعت» من وصلته فى القراءة، ترك مكانه للقارئ الصغير، فانبهر به الشيخ «رفعت» وأعجب بصوته، فأرسل إليه ليستمر فى القراءة ولا يتوقف حتى يأذن له، وبالفعل استمر الشيخ «مصطفى» فى القراءة لمدة زادت على الساعة ونصف الساعة، حتى أذن له الشيخ «رفعت» بالتوقف، وقبّله وهنأه، وقال له: «اسمع يا ابنى أنا هأقولك نصيحة إذا عملت بها ستكون أعظم من قرأ القرآن فى مصر، فأنت صاحب مدرسة جديدة، ولم تقلد أحدًا، وحباك الله بموهبة حلاوة الصوت، وأنت مازلت فى سن صغيرة، ولكن ينقصك أن تثبت حفظك، بأن تعيد قراءة القرآن على شيخ كبير من مشايخ المعهد الأحمدى». وبعد أن ذاع صيت الشيخ «إسماعيل» كثرت لقاءاته بالشيخ «رفعت»، فكان يقول له: «الحمد لله أصبحت اليوم ذا شأن عظيم، وأصبح صوتك هو الصوت المميز، وأنت صاحب المدرسة الجديدة والفريدة فى عالم التلاوة، ولكنى ما زلت أنصحك بأن تراجع القراءة على يد الشيخ عبدالفتاح القاضى»، وبالفعل ذهب الشيخ «إسماعيل» إلى الشيخ «القاضى» الذى بدأ يراجع معه القراءة والتلاوة والتجويد، إلا أنه كان حزينًا من موقف القراء ضده، بسبب غيرتهم من مكانته التى وصل إليها بعد تعيينه قارئًا فى القصر الملكى. رؤساء الدول تميز الشيخ «مصطفى إسماعيل» بعلاقته الطيبة مع كثير من رؤساء وملوك الدول، فقد قرأ القرآن فى باريس وبون وكراتشى، وجميع الدول العربية وآسيا وإفريقيا، كما حظى بتكريم الرؤساء، حيث منحه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، «وسام مصر الرفيع»، وكان أول قارئ يحصل على هذا الوسام، كما حصل على أوسمة من رؤساء سوريا، ولبنان، وتركيا، حتى أهداه الرئيس التركى عقب استقباله له فى القصر الجمهورى بأنقرة عام 1973، مصحفًا مكتوبًا بماء الذهب، كما كان الرئيس «أنور السادات» يعشق صوته، لدرجة أنه كان يقلده فى أسلوب أدائه وطريقة قراءاته. ومن المواقف التى تكشف تميز الشيخ «مصطفى إسماعيل» فى القراءة والتلاوة، وحسن الأداء، ورقى الأسلوب، ما قالته الدكتورة رتيبة الحفنى عميدة المعهد العالى للموسيقى العربية السابقة، للشيخ «إسماعيل» بعد تلاوته القرآن فى الذكرى الأربعين لرحيل الفنان عبدالحليم حافظ، فقالت له: «ما هذا الجمال يا شيخ مصطفى.. والله أنت لوحدك معهد كامل للموسيقى». وقال عنه الكاتب الكبير محمود السعدنى: «صوته أجمل صوت بين المقرئين، بل هو أجمل صوت بين المطربين أيضًا، فليس لصوته نظير فى الطبقات العليا، وهو صاحب طريقة فذة فرضت نفسها على العصر كله، وهو إمام المقرئين وشهرته تدوى كالطبل فى جميع أنحاء العالم العربى من المحيط إلى الخليج». لم يسع الشيخ «مصطفى إسماعيل» إلى التكسب من وراء قراءته للقرآن، ولم يفرض أجرًا محددًا لقراءته، وكان يقبل أى مبلغ دون مناقشة. وكان الشيخ «مصطفى إسماعيل» يدعو الله ألا يلقاه إلا وهو يقرأ القرآن، فكان يقول: «اللهم لا تحرمنى من التلاوة حتى ألقاك»، وبالفعل تحقق له ما تمنى، حيث أصيب بانفجار فى المخ، واستمر فى غيبوبة لمدة ثلاثة أيام بعد تلاوته للقرآن فى إحدى الحفلات التى كان يحييها فى مدينة دمياط، حتى توفى يوم 22 ديسمبر عام 1978.